في العقيدة الإسلامية كتاب الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم
خاتمةُ الخاتمةِ

خاتمةُ الخاتمةِ

الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم

الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم قال المؤلف رحمه الله: ليُفَكّر العاقلُ في قولِ الله تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [سورة ق/18].
فإنَّ مَن فَكَّرَ في ذلكَ علِمَ أنَّ كلَّ ما يتكلَّمُ به في الجِدّ أو الهَزْلِ أو في حالِ الرّضَى أو الغَضَبِ يسَجّلُهُ المَلكانِ، فهَلْ يَسُرُّ العاقلَ أن يَرى في كتابِه حينَ يُعْرَضُ عليه في القيامةِ هذِه الكلماتِ الخبيثةَ؟ بل يسُوؤُه ذلكَ ويُحزِنُه حينَ لا ينفَعُ النَّدمُ، فلْيَعْتَنِ بحِفْظِ لسانِه مِنَ الكلامِ بما يَسُوؤُه إذا عُرِضَ عليه في الآخرةِ.
الشرح: قولُهُ تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [سورة ق/18] معناهُ أن الملائكةَ الموكَّلينَ بكتابةِ عملِ العبدِ يكتبونَ ما يلفظُ بهِ هذا الإنسانُ من حسناتٍ أو سيّئاتٍ من القولِ وما كانَ من المباحاتِ أيضًا، ولم يَرد في الحديثِ أن الذي يَكتبُ الحسناتِ يكونُ على الكتفِ الأيمنِ والآخر على الكتفِ الأيسرِ، وإنما وَرَدَ أن أحدَهما يكونُ في جهةِ يمينِهِ والآخر في جهةِ شِمالِهِ.
وفي هذه الآيةِ التَّحذيرُ من أن يتكلَّمَ الإنسانُ بما لا خيرَ فيه، فَيُعلَمُ من هذا أن الإنسانَ لا يُعفَى من كتابَةِ أقوالِهِ كُلّها ما كانَ منها حسنة من الحسناتِ كأمرٍ بمعروفٍ ونهي عن منكرٍ وذِكرِ الله تعالى وغيرِ ذلكَ وما كانَ منها من السّيئاتِ من كُفرٍ وما دونه، ويكتبونَ أيضًا المباحات أي الكلام الذي ليسَ بحسَنةٍ ولا سيّئةٍ كأن يقولَ اعملوا لي شايًا أو اعملوا لي طبيخًا وكقوله كُلْ أو اقعد أو اذهَب. فإذا كانَ الأمرُ كذلكَ فينبغي للإنسان أن لا يتكلَّمَ بالشَّر بل عليهِ أن يخزنَ لسانهُ هذا الذي هو نعمةٌ من نِعَمِ الله عن أن يتكلّمَ به معصيةً من المعاصي سواء كانَ في حالِ الجِدّ أو المَزحِ أو حالِ الرّضَى أو حالِ الغَضَبِ، لأنه يُعرَضُ عليهِ يومَ القيامةِ فإذا رأى في كتابِهِ الذي يتناولهُ يومَ القيامَةِ من أيدي الملائِكَةِ القبائِحَ من كفرٍ أو من مَعاصٍ فإنهُ يسوؤهُ يومَ القيامَةِ، ولا يوجدُ يوم القيامة استغفارٌ تُمحَى به المعصيةُ إنما الاستغفارُ يَنفَعُ في الدنيا. ثم أيضًا إذا تَابَ الإنسان من كلامٍ هو من السيّئاتِ يُمحَى ذلكَ الكلامُ من صحيفتِهِ أي يمحوهُ المَلَكُ الموكَّلُ بذلكَ، قالَ عبدُ الله بن عبّاسٍ: "ما كانَ من المُبَاحَاتِ من كلامِ العبدِ يُمحَى وتُثْبَتُ الحسناتُ والسَّيئاتُ".
وروى أبو داودَ في سننهِ من حديثِ عبدِ الله بن عبّاس أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثٌ جِدُّهنَّ جِدٌّ وهزلهنَّ جِدٌّ: الطلاقُ والنّكاحُ والرَّجعَةُ" فإذا كانَ الطلاقُ والنكاحُ والرّجعةُ جِدُّهنَّ جِدًّا وهزلهنَّ جِدًّا فبالأولى أن يكونَ قول الكفرِ جِدًّا إن كانَ في حالِ المَزحِ وإن كانَ في حالِ الغَضَبِ وإن كان في حال الرّضَا. فلا يُغْتَرَّ بقولِ بعضِ الجهالِ السُّقاطِ عن الكفرِ الذي يتفوهونَ به بلا اعتقاد إنه من لَغوِ اليمينِ ويستدلونَ بالآية: ﴿لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ﴾ [سورة البقرة/225] يزعمونَ أن الأيْمانَ المذكورةَ في الآيةِ الكلامُ الذي يتكلمُ به الناسُ بلا اعتقادٍ، وما دروا أن الأيْمانَ هي الحَلِفُ، وأن لَغوَ اليمينِ هو الحَلفُ بالله الذي يجري على اللسانِ بلا قَصدٍ ولا إرادةٍ، فإنه لا كفارةَ في ذلك الحلفِ الذي يجري فيه قول والله، فهؤلاءِ جمعوا بين كُفرينِ الكفر الذي خَرَجَ من ألسنتهم عمدًا بلا اعتقادٍ، والكفر الذي هو تبريرُ كفرهم مستدلينَ بالآيةِ على غير وَجهِهَا، لأنهم بهذا نَسَبوا تحليلَ الكفرِ إلى الآية، والآيةُ بريئةٌ من قولِهم ومِنَ استدلالهم فإنّا لله وإنّا إليهِ راجعونَ.
قال المؤلف رحمه الله: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "خَصْلَتانِ ما إنْ تجَمَّلَ الخلائِقُ بمِثْلِهما حُسْنُ الخلُقِ وطولُ الصَّمْتِ"، رواهُ عبدُ الله بنُ محمّدٍ أبو بكرِ بن أبي الدُّنيا القُرَشيُّ في كتابِ الصَّمْتِ.
الشرح: الله تبارك وتعالى أَنعَمَ على عبادِهِ بِنِعَمٍ لا يُحصيها إلا هو فكانَ من تلكَ النّعَمِ اللسانُ فإنَّ الله جَعَلَ اللّسانَ للإنسانِ ليعبّرَ بهِ عن حاجاتِهِ التي تهمُّهُ لتحصيلِ منافعِ ومصالحِ دينِهِ ودنياهُ، هذا اللّسان نعمةٌ مِنَ الله تعالى على عبادهِ ليحصّلوا به مصالح دينهم ومصالح ءاخرتِهم أي ليستعملوه فيما ينفعهم ولا يَضرُّهم، فمن استعمَلَ هذا اللسانَ فيما ينفعُهُ ولا يضرُّهُ فليسَ عليه حرجٌ وليسَ عليه مؤاخذةٌ في الآخرةِ، وأما من استعملَهُ فيما نَهَاهُ الله عنه فقد أهلَكَ نفسَهُ ولم يَشكُر ربَّهُ على هذه النّعمةِ العظيمةِ.
وأما "حُسنُ الخُلُقِ" المذكور في الحديثِ فهو عبارةٌ عن ثلاثةِ أمورٍ: كَفُّ الأذَى عن الناسِ، وتَحَمُّلُ أذى الناسِ، وأن يعمَلَ المعروفَ مع الذي يعرفُ له إحسانهُ ومع الذي لا يعرفُ لهُ. ومن نالَ حسنَ الخُلُقِ فقد نَالَ مقامًا عاليًا، فقد يبلغُ الرَّجلُ بِحُسنِ خلقِهِ درجةَ القائِمِ الصَّائِمِ، أي الذي لا يتركُ القيامَ في جوفِ الليلِ ولا يتركُ صيامَ النفلِ.
ومعنى: "طول الصَّمتِ" في الحديث الذي مرَّ ذكرهُ تقليلُ الكلامِ، فإن طولَ الصَّمتِ من غيرِ ذِكرِ الله وسائرِ الحسناتِ يكونُ مطلوبًا محبوبًا عند الله تعالى، أما مِن ذِكرِهِ وسائرِ الحسناتِ فإكثارُ استعمالِ اللسانِ مطلوبٌ ولا سيما التَّهليلُ، فالمعنى أنَّ الإنسانَ ينبغي لهُ أن لا يتكلَّمَ إلا بكلامٍ ليسَ عليه فيه مؤاخذةٌ عندَ الله، ثم الأشياءُ التي ينبغي حفظُ اللسانِ عنها من الكلماتِ كثيرة ومن أكثرِها وقوعًا من الناسِ الغيبةُ، نسألُ الله السَّلامَةَ وأن يحفظَ لنا ألسنَتَنَا من المَهَالِكِ.
ونختِمُ هذا الكتابَ بالتذكيرِ بهذهِ الوَصَايا النافعةِ العظيمةِ وهي: تقليلُ الكلامِ إلا من خيرٍ، وتركُ الغَضَبِ، وتقليلُ التَّنعُّمِ، والقناعةُ بالقليلِ من الرّزقِ، والتَّطَاوُعُ والتَّواضُعُ فإنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنّكم لتغفلونَ عن أفضلِ العِبَادَةِ التَّواضع" رواه الحافظُ ابن حجر في الأمالي، وقال صلى الله عليه وسلم: "المؤمِنُ كالجَمَلِ الأَنِفِ إن قِيدَ انقَادَ وإن استنيخَ على صخرةٍ استناخَ" رواه البيهقيُّ. والتطاوع هو أن يوافِقَ كلُّ واحدٍ أخاهُ ولا يترفَّع عليهِ ولا يسيء الظنَّ بهِ، وإذا خالفَ رأيُهُ رأيَ أخيهِ يتّهِمُ رأيَ نفسِهِ ويقولُ لعل رأيَ أخي هذا أحسنُ فينظر فيهِ فإن تَيقَّنَ أنهُ خطأٌ ينبّههُ.
وبحديثٍ من الفضائِلِ وهو أنَّ صحابيًّا اسمه المُنَيْذر روى أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قالَ حينَ يصبحُ: رضيتُ بالله ربًّا وبالإسلامِ دينًا وبمحمّدٍ نبيًّا فأنا الزعيمُ لآخذنَّ بيدِهِ حتى أدخلهُ الجنةَ"، رواه الطبراني، ومعنى أنا الزعيمُ أي أنا ضامن وكافل له. فمن قالَ هذه الجملة كل صباحٍ ولو مرةً ينال هذا الثوابَ العظيمَ بهذه الكلمةِ الخفيفةِ على اللسانِ بلا تعبٍ، والصباحُ من الفجرِ إلى نحو ثلاثِ ساعات ونصف تقريبًا.
انتهى الكتاب
وسبحان الله، والحمدُ لله ربّ العالمينَ،
وصلى الله وسلم على سيدنا محمدٍ الأمينِ،
وءالهِ وأصحابِهِ الطيبين.

الشرح القويم
في حل ألفاظ الصراط المستقيم

قائمة الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم