في العقيدة الإسلامية كتاب الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم
رَحْمَةَ الله شَامِلَةٌ في الدُّنيا للمؤمنين والكَافرينَ

رَحْمَةَ الله شَامِلَةٌ في الدُّنيا للمؤمنين والكَافرينَ

الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم

الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم قال المؤلف رحمه الله: بَيانُ أنَّ رَحْمَةَ الله شَامِلَةٌ في الدُّنيا للمؤمنين والكَافرينَ خاصَّةٌ بالمُؤمنِينَ في الآخِرَةِ
والله تَعالى يَرْحَمُ المُؤْمِنينَ والكَافِرينَ في الدُّنْيا وَسِعَتْ رَحمَتُه كُلًّا، أَمّا في الآخرةِ فرَحمَتُه خَاصَّةٌ للمؤمنينَ، قالَ الله تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ [سورة الأعراف/156].
أَي وسِعَت في الدُّنيا كلَّ مُسْلمٍ وكَافِرٍ، قَالَ: ﴿فَسَأَكْتُبُهَا﴾ (156) أي في الآخِرةِ، ﴿لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ (156) ، أي أخُصُّها لمن اتَّقَى الشّرْكَ وسَائِرَ أنْواعِ الكُفْرِ.
الشرح: هذه الآية دليلٌ على أنَّ الله تعالى يرْحمُ المؤمنينَ والكافرينَ في الدنيا وذلك بأن يُعطِيَهُم الصحَّةَ والرّزقَ والهواءَ العليلَ والماءَ الباردَ وما أشبهَ ذلكَ، أمّا في الآخرةِ يخصُّهَا للمؤمنينَ.
قال المؤلف رحمه الله: وقَالَ تَعالى: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُواْ إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [سورة الأعراف/50].
الشرح: أهلُ النَّارِ ينادونَ أهلَ الجنّةِ، إمّا يرونهم عيانًا مع بعد المسافة بين الجنة والنّار في وقتٍ مِنَ الأوقاتِ هؤلاءِ في النارِ وهؤلاءِ في الجنَّةِ وإمَّا يسمعونَ صوتَهم، فيطلبونَ من الضّيقِ الذي هم فيه ﴿أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ﴾ (50) فيكونُ جوابُ أهلِ الجنَّةِ لهم: ﴿إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ (50)، فيسكت أهل النَّارِ.
قال المؤلف رحمه الله: أي أنَّ الله حرَّمَ على الكَافِرينَ الرّزقَ النَّافِعَ والماءَ المُرْوِيَ في الآخِرَةِ.
الشرح: أي لا يجدونَ ماءً باردًا مُرْوِيًا إلا ذاكَ الماء الذي هو بمُنتَهَى الحرارةِ فَيُقَطّعُ أمعاءَهُم. والغِسلين الذي هو عُصارةُ أهلِ النارِ أي ما يسيلُ من جلودِهم.
قال المؤلف رحمه الله: وذَلكَ لأنَّهُم أضَاعُوا أعْظَمَ حُقُوقِ الله الذي لا بدِيلَ لهُ وهوَ الإيمانُ بالله ورسولِه.
الشرح: الكفارُ لا حظَّ لهم في الآخرةِ من نِعَمِ الله لأنهم أضاعوا أعظمَ حقوقِ الله عليهم، فإذا قالَ قائلٌ لماذا يعذّبهم الله ذلك العذاب الشَّديد الذي لا نهايةَ لَهُ، يقالُ: لأنّهم أضاعوا أعظمَ حقوقِ الله، لذلكَ جَعَلَ جزاءَهُم أن يتأبَّدوا في ذلكَ العذابِ الذي لا ينقطعُ، وهم كانت نيَّاتهم أن يبقوا على كُفرِهم فكان جزاؤهم وِفَاقًا عذابًا لا ينقطِعُ.
قال المؤلف رحمه الله: ثمَّ إنَّ الله جَعلَ الدُّخُولَ في الإسْلامِ الذي هوَ أفضَلُ نِعَمِ الله سَهْلًا، وذَلِكَ بالنُّطقِ بالشَّهادَتينِ بَعْدَ مَعْرفةِ الله ورسُولِه.
وجعَلَ الكفرَ سَهْلًا فكلِمةٌ واحدةٌ تَدُلُّ على الاسْتِخْفافِ بالله أو شَريعَتهِ تُخْرجُ قَائِلَها منَ الإيمانِ، وتوقِعُهُ في الكفرِ الذي هو أسْوأُ الأحوالِ حتّى يكونَ عنْدَ الله أحْقَرَ مِنَ الحَشَراتِ والوُحوشِ، سَواءٌ تكَلَّمَ بِها جَادًّا أو مَازِحًا أو غَضْبانَ.
الشرح: هذا هو معنَى الحديثِ الذي رواهُ البخاريُّ في صحيحِهِ من حديثِ أبي موسى الأشعريّ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الجنّةُ أقرَبُ إلى أحدِكُم من شِرَاكِ نَعلِهِ والنّارُ مثل ذلكَ".
والمعنَى أنَّ الإنسانَ يكسبُ الجنّةَ بعملٍ يسيرٍ من الحسناتِ، وكذلك يكسبُ دخولَ النَّارِ بعملٍ خفيفٍ من السّيئاتِ فلو عاشَ العبدُ على الكفرِ سنينَ طويلةٍ قضى عمره عليه ثم قبل موتهِ أسلمَ قبل أن يرى ملائكةَ العذابِ وقبل أن ييأسَ من الحياةِ ويوقنَ بالموتِ كرؤيةِ ملكِ الموتِ أو إدراكِ الغرقِ ونحوِ ذلك، أسلمَ واعتقدَ بقلبهِ أنه لا إله إلا الله وأنّ محمدًا رسول الله كان من أهلِ الجنةِ ولو لم يُدرِك صلاةً، ولا يؤاخذ بشىء مما عملهُ من الذنوبِ لأن الإسلام هدمها وذلك لأن العبرة بآخرِ حالِ الإنسانِ الذي يُختم له به. ومقابلُ هذا رجلٌ عاشَ على الإسلامِ ثم مرضَ فاشتدَّ عليه الألمُ فلم يتحمل فاعترضَ على ربه فقال يا رب لِمَ ظلمتني بتسليطِ هذا الألمِ الذي لا أطيقه فماتَ حرمت عليه الجنة لأنه كفرَ باعتراضهِ على ربه. قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بخواتيمها".
قال المؤلف رحمه الله: وقَد شُرِحَ ذَلكَ في كتُبِ الفِقْهِ في المذَاهبِ المُعْتَبرَةِ وحَكَمُوا أنّ المتلَفّظَ بها يكفرُ.
قالَ الله تَعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [سورة الأنفال/55].
الشرح: الدّوابُّ جمْعُ دابَّةٍ وهي كلُّ ما يمشي على وجْهِ الأرضِ من إنسانٍ وبهائم وحشراتٍ، هذا معناهَا في أصْلِ اللّغةِ، ثمّ تعارَفَ النّاسُ على إطلاقها على ما يُركَبُ من البهائِمِ ولا يصحُّ في القرءانِ هذا التّفسيرُ، فالإنْسانُ يُقالُ له في أصْلِ اللّغةِ دابّةٌ لأنّهُ يدِبُّ على وجْهِ الأرْضِ. والآيةُ المذكورةُ معناهَا أنّ الكافرَ هو أحْقرُ المخلوقاتِ وقد وَرَدَ في الحديثِ الذي رواهُ ابنُ حبانَ وأحمدُ في مسندِهِ والطبرانيُّ في الكبيرِ: "لا تَفتَخِروا بآبائِكم الذينَ ماتوا في الجاهليَّةِ فوالذي نَفسي بيدِهِ إن ما يدهدهُهُ الجُعَلُ بمَنْخِريهِ خيرٌ منْ ءابائِكم الذين ماتوا في الجاهِليَّةِ" أي على الشّركِ، لأن الكفارَ الذين ماتوا في الجاهليةِ قسمانِ قسمٌ بَلَغَتهم دعوةُ الأنبياءِ إلى توحيدِ الله وقسمٌ لم تبلغهم وكلٌّ كانوا مشترِكينَ بعبادةِ غيرِ الله. وهذا الحديثُ يشمَلُ سائرَ أنواعِ الكفّارِ لأن معنَى الكفرِ يشملهُ وإن كانوا بالنسبةِ لعذابِ الآخرةِ يختلِفُ حالُهم فالذينَ ماتوا على الكفرِ ولم تبلغهم الدعوةُ لا يعذبهم الله بالنارِ أما الذين بلغَتهُم الدّعوةُ فلم يُسلموا فهم الذين يعذَّبونَ بالنارِ خالدينَ فيها مخلَّدينَ، وهذا الحديثُ صريحٌ في أن الكافرَ أخسُّ ما خَلَقَ الله.
ومعنى: "ما يدهدهُهُ الجُعَلُ بمنخريه" أي القذرُ ليتقوَّتَ بهِ، والجُعَلُ هو حشرةٌ صغيرةٌ سوداءُ تسوقُ القَذَر الذي يخْرُجُ من بني ءادمَ تجْعلهُ حبيْباتٍ تسوقُهُ لتتقوَّتَ بهِ، فهذا الذي يسوقُهُ الجُعَلُ الرّسولُ قالَ خيرٌ من هؤلاءِ الذينَ كانَ الناسُ في أيّامِ الجاهليّةِ يفْتخرونَ بهم يقولونَ: هذا جَدّي كانَ كذا، أبي كانَ كذا، فالمعنى كُفُّوا عن الافتخارِ بهؤلاءِ الذينَ ما يسوقُهُ الجُعَلُ بأنْفِهِ خيْرٌ منْهم لكفرِهِم وذلك لأن شكرَ الخالقِ المنعم لا يصح مع عبادةِ غيرهِ أو تكذيبِ رسولهِ الذي أرسلهُ ليتبعه الناسُ. ولو أنفق هذا الكافر مثل جبل ذهبًا للمساكينِ والأراملِ لا يكون شاكرًا لخالقهِ الذي أنعمَ عليه بالوجودِ والعقلِ فلا يكون الكافر شاكرًا لله مهما عمل من الخدماتِ للناسِ ومهما كان عنده عطف ورحمة وحنان على المنكوبينَ والملهوفينَ. الكفّارُ همْ أحْقَرُ خلْقِ الله وإن كانت صورتُهُم صوْرة البشرِ وذلكَ لأنّهم أضاعوا أعْظمَ حقوقِ الله على عبادِهِ فَكَفَروا بالله عزَّ وجلَّ.

الشرح القويم
في حل ألفاظ الصراط المستقيم

قائمة الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم