في العقيدة الإسلامية كتاب الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم
صِفَاتُ الله كُلُّها كاملةٌ

صِفَاتُ الله كُلُّها كاملةٌ

الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم

الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم قال المؤلف رحمه الله: صِفَاتُ الله كُلُّها كاملةٌ.
صِفَاتُ الله أزَلِيَةٌ أَبدِيَةٌ، لأَنَّ الذَّاتَ أزَليٌّ فَلا تَحْصُلُ لَهُ صِفَةٌ لَم تَكُنْ في الأَزَلِ، أمَّا صِفَاتُ الخَلْقِ فَهِيَ حَادِثَةٌ تَقْبَلُ التَّطَوُّرَ مِنْ كَمَالٍ إلى أكْمَلَ فَلا يتجدَّدُ عَلى عِلْمِ الله تَعَالَى شَىءٌ. والله تَعَالَى خَلَقَ كُلَّ شَىءٍ بِعلْمِه الأَزَليّ وقُدْرَتِه الأَزَلِيَّةِ ومَشِيْئَتِه الأَزَلِيَّةِ، فَالمَاضِي والحَاضِرُ والمُسْتَقْبَلُ بِالنّسْبَةِ لله أَحَاطَ بِه بِعِلْمِهِ الأَزَلِيّ.
الشرح: أنه لما ثَبَتَت الأزليَّةُ لذاتِ الله وَجَبَ أن تكون صفاتُهُ كلُّها أزليَّةً أبديَّةً لا تَقبَلُ التَّغيُّرَ والتَّطوُّرَ لأن التّغيُّرَ والتَّطوُّرَ من حالٍ إلى حالٍ علامةُ الحدوثِ، فالإنسان يقبل الزّيادةَ والنُّقصانَ والتغيُّرَ من الكمالِ إلى النَّقصِ والعكس أما الله تعالى لا يزدَادُ ولا ينقصُ، فصفاتُ الله لا تقبلُ التّطوُّرَ من كمالٍ إلى أكملَ وعلمُ الله لا يزدادُ ولا ينقصُ بل علمُهُ كاملٌ كما سائر صفاته يعلمُ به كلَّ شَىءٍ، فلا يتجدّدُ له علمٌ جديدٌ بل هو عالمٌ في الأزلِ بكلّ شىءٍ فالتّغيُّرُ يحصُلُ في المعلومِ الحادِثِ لا في علمِ الله الأزليّ، فالله يعلمُ ما كانَ في الماضي وما يكون في الوقتِ الحاضرِ وما سيكون في المستقبلِ حتى الأشياء التي تتجدَّدُ في الآخرةِ الله عَلِمَ بها في الأزل، حتى أنفاسَ أهل الجنةِ وأهل النار التي تتجدَّدُ بلا انقطاعٍ الله تعالى يعلمُ بتفصيلها، هنا يحتارُ العقلُ، فإذا أجرى الشّخصُ قلبَهُ في هذه المسئلةِ الوهمُ ينهارُ، هنا يقولُ كيفَ يكونُ علمُهُ محيطًا بما لا نهايةَ لهُ، وأنفاسهُمْ جاريةٌ لا انقطاعَ لها؟!!
قال المؤلف رحمه الله: وأما قولُهُ تَعَالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ﴾ [سورة محمد/31] فَلَيسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّه سَوْفَ يَعْلَمُ المُجَاهِدِينَ بَعْدَ أَنْ لَم يَكُنْ عَالِمًا بِهِم بِالامْتِحَانِ والاخْتِبَارِ، وَهَذَا يَسْتَحِيلُ عَلَى الله تَعَالَى، بَلْ مَعْنَى الآيَةِ حَتَّى نُمَيّزَ أي حَتَّى نُظْهِرَ لِلْعِبَادِ المُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِيْنَ مِنْ غَيْرِهِم. ويَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ إنَّ الله تَعَالى يَكْتَسِبُ عِلْمًا جَدِيدًا.
الشرح: هذه الآية لا تعني أن الله يتجدَّدُ له علمٌ إنما تعني الآية أن الله تعالى يَبتَلي عبادَهُ حتى يُظهِرَ ويُميّزَ لعبادِهِ من هو الصَّادقُ ومن هو غير الصَّادقِ، فالملائكةُ يعرفونَ أن هذا صادقٌ صابرٌ على طاعةِ الله وأن هذا ليس بصابرٍ، يَكشِفُ الله تعالى لهم ولمن شاءَ من خلقِهِ مَن الذين يجاهدونَ في سبيلِ الله صابرين على المشقَّاتِ، يُظهِرهم لعبادِهِ مِن غيرِهم الذين لا يصبرونَ، وهو عالمٌ بعلمِهِ الأزليّ من هو الصَّابرُ ومن هو غير الصّابر كما نقلَ ذلكَ البخاريُّ عن أبي عبيدةَ مَعمرِ بن المُثنَّى وهذا شبيهٌ بقوله تعالى: ﴿لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ [سورة الأنفال/37].
ولا يجوزُ اعتقادُ أن الله تعالى يتجدَّدُ له علمٌ لم يكن عَلِمَهُ في الأزلِ بل يكفرُ من اعتقدَ ذلك.
قال المؤلف رحمه الله: وَصِفَاتُ الله تَعَالَى كُلُّها كاملةٌ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَللهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى﴾ [سورة الأعراف/180].
الشرح: قولُه تعالى: ﴿وَللهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ﴾ [سورة الأعراف/180] معناهُ أن الله تعالى له الأسماءُ التي تدلُّ على الكمالِ، فالله لا يُوصَفُ إلا بصفةِ كمالٍ فما كانَ من الأسماءِ لا يدلُّ على الكمالِ لا يجوزُ أن يكونَ اسمهُ كما يُسمّيه بعضُ النّاس "ءاه"، وبعضُهم سمّاهُ "روحًا"، وقد وَرَدَ في كتابِ قوتِ القلوبِ في أثناءِ ذِكْرٍ ساقَهُ طويل لفظُ "يا روح" وهذا إلحادٌ وكُفرٌ فَليُجتَنَب هذا ونحوه فهذا لا يجوزُ لأن كلمةَ ءاه وَضَعَهَا العربُ لِتَدُلَّ على الشّكايةِ والتّوجُّعِ وقد روى الترمذي أن رسول الله قال: "إذا تثاءبَ أحدُكم فَليَضَع يدهُ على فِيْهِ، وإذا قالَ ءاه ءاه فإنَّ الشّيطانَ يضحَكُ من جوفِهِ" أي يدخل إلى فمِهِ ويسخرُ منه.
ومن الدّليلِ على أن ءاه ليس من أسماءِ الله أن الفقهاءَ قالوا إن من قالَ ءاه في الصّلاةِ عامدًا بطلَتْ صلاتُهُ، ومعلومٌ أن ذِكرَ الله لا يبطلُ الصلاةَ، فلو كانَ ءاه من أسماءِ الله لما أبطَلَ الصلاةَ.
وأسماءُ الله الحسنى يُطلَقُ عليها صفات الله ويُطلقُ عليها أسماء الله إلا لفظ الجلالةِ لا يطلقُ عليه الصّفة، ثم إن أسماء الله تعالى قسمانِ قسم لا يُسمَّى به غيرُهُ وقسمٌ يُسمَّى به غيرُه، الله والرَّحمنُ والقدُّوسُ والخالقُ والرَّزَّاقُ ومالكُ الملكِ وذو الجلالِ والإكرامِ والمحيي المميت لا يُسمَّى به إلا الله، أما أكثرُ الأسماءِ فيُسمَّى به غيرُ الله أيضًا، فيجوزُ أن يسمّيَ الشَّخصُ ابنَهُ رحيمًا والمَلِك كذلك والسَّلام كذلك.
فائدة: أسماءُ الله الحسنى التّسعةُ والتّسعونَ مَن حَفِظَهَا وفَهِمَ معناها مضمونٌ له الجنةُ، ويوجَدُ غيرُها أسماءٌ لله ولكن ليسَ لها هذه الفضيلة التي هي للأسماءِ التّسعة والتّسعين، وأسماءُ الله الحسنى بأيّ لغةٍ كُتِبَت يَجِبُ احتِرَامُها.
قال المؤلف رحمه الله: وقالَ تَعالى: ﴿وَللهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ﴾ [سورة النحل/60] فَيَسْتَحِيلُ في حَقّهِ تَعالى أيُّ نَقْصٍ.
الشرح: معنى هذه الآية لله الوصفُ الذي لا يُشبِهُ وصفَ غيرِهِ. أما اتفاقُ اللّفظِ فلا يعني اتّفاقَ المعنى، فالله تعالى يوصَفُ بالصّفاتِ التي تَدلُّ على الكمالِ والتي لا تكونُ لغيرهِ، والله يستحيلُ في حقّهِ أيُّ نقصٍ كالجهلِ والعجزِ.
قال المؤلف رحمه الله: وأَمَّا قَولُه تَعَالى: ﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [سورة ءال عمران/54] فَالمَكْرُ مِنَ الخَلْقِ خُبْثٌ وخِدَاعٌ لإِيْصَالِ الضَّرَرِ إلى الغَيْرِ باسْتِعْمَالِ حِيلَةٍ، وَأَمَّا مِنَ الله تَعالى فَهُو مُجَازَاةُ المَاكِرينَ بالعُقُوبَةِ مِنْ حَيْثُ لا يَدْرُونَ. وبِعبَارَةٍ أُخْرَى إِنَّ الله أَقْوَى في إيصَالِ الضَّرَرِ إلى المَاكِرِينَ منْ كُلّ مَاكِرٍ جَزَاءً لَهُم علَى مَكْرِهم، فَالمَكْرُ بِمَعْنى الاحْتِيَالِ مُسْتَحِيلٌ علَى الله.
الشرح: في هذه الآية أسندَ الله إلى نفسِهِ المكرَ، ومكرُ الله ليس كمكرِ العبادِ، مكرُ الإنسانِ أن يحاوِلَ إيصالَ الضَّررِ إلى إنسانٍ بطريقةٍ خفيَّةٍ يحتاجُ فيها إلى استعمالِ بعض الحيلِ، أما مكرُ الله فليس هكذا، مكرُ الله هو إيصالُ الضَّررِ إلى من يشاءُ من عبادِهِ من حيثُ لا يعلم ذلك العبد ولا يظنُّ ولا يحسبُ أن الضَّررَ يأتيهِ من هنا.
فمكرُ العبدِ مذمومٌ أما مكرُ الله لا يُذمُّ لأنَّ الله لا يجوزُ عليه الظلمُ، لا يكونُ ظالمًا إن انتقمَ من عبادِهِ الظّالمينَ بما شاء.
قال المؤلف رحمه الله: وكَذَلِكَ قَولُه تعالى: ﴿اللهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ﴾ [سورة البقرة] أَيْ يُجَازِيْهِم عَلَى اسْتِهزَائِهِم.
الشرح: هذه الآية ﴿اللهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ (15) نَزَلَت في المنافقينَ لأنهم كانوا لما يجتمعونَ بأمثالِهم يتكلَّمونَ بِبُغضِ الإسلامِ وكراهيتِهِ، الله أخبرنا أنه يجازيهم بما يليقُ بهم وهذه المجازاةُ سَمَّاهَا استهزاءً. والمنافقونَ هم الذين يكرهونَ الإسلامَ في قلوبِهِم ويتظاهرونَ بالإسلامِ أمامَ المسلمين، ويعملونَ أعمالَ المسلمين ولكن قلوبُهُم فيها شكٌّ أو إنكار.
تنبيهٌ مهمٌ: من قالَ يجوزُ تسميةُ الله ناسيًا وماكرًا ومستهزئًا كَفَرَ لأنهُ استخفَّ بالله، أما إذا قال على وجهِ المقابلَةِ فليسَ فيه تنقيصٌ كما في قولِهِ تعالى: ﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللهُ﴾ [سورة ءال عمران/54]، وقولِهِ ﴿نَسُواْ اللهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ [سورة التوبة/67]، أما من استحلَّ قولَ يا ماكرُ ارزقني ونحو ذلك فهذا يكفرُ، وكذا يكفُرُ من يُسمّي الله المضلَّ لأنه جَعَلَهُ اسمًا لله كالرّحمنِ فيكونُ معنى كلامِهِ يجوزُ أن نقولَ يا مضلُّ أَعِنّي.
أما قولُ يا جبّارُ ارزقني لا يدلُّ على نقصٍ في حقّ الله، وكذلك يا متكبّرُ لا يدلُّ على نقص، أما الذي يدلُّ على النقصِ فهوَ مثل أن يقال في حقّ الله يا مخادعُ أو يا ناسي أو يا مستهزئ أو يا ماكرُ.
أما إذا قلنا يا طاهرُ عن الله فيجوزُ على قول لأن معناهُ المنزَّهُ عن النّقائصِ قالَ بجوازِ تسميةِ الله الطاهرَ بعضُ الأشاعرةِ لكونِهِ وصفًا لا يُوهِمُ نقصًا لله، لكنَّ الإمامَ الأشعريَّ يمنَعُ من ذلك قال: "لا يجوزُ تسميةُ الله إلا بما وَرَدَ في الكتابِ والسّنةِ الصحيحةِ أو الإجماعِ"، وهذا هو المعتمدُ، قال الأشعريُّ: "فلا يجوزُ وصفُ الله بالرُّوح"، وذَكَرَ مثل ذلك أبو منصور البغداديُّ وقال: "لا مجالَ للقياسِ في أسماءِ الله وإنما يُراعَى فيها الشرعُ والتوقيفُ" وقال: "وليسَ في أفعالِهِ - يعني الله - ما هو على وزنِ فاعَلَ بفتح العين ولا يُطلقُ ذلك في أفعالِهِ لأن المفاعَلَةَ تقتضي الشّركةَ في الفعلِ إلا في أمثلةٍ نادرةٍ - يعني في اللغة - لا يُقاسُ عليها، فإن أضيفَ الفعلُ إلى غيرِهِ جازَ إطلاقهُ في بعضِ المواضع كقولهِ تعالى: ﴿يُخَادِعُونَ اللهَ﴾ [سورة البقرة/9] ولكن لا يتجاوز به ما وَرَدَ به النصُّ، فلا يقالُ خَادَعَ الله لأن النصَّ وَرَدَ بالمضارعِ من هذا الفعلِ دون الماضي"، وقال: "ولم يَرد في أسماءِ الله ما هوَ على وَزنِ فِعَال، ولكن يجوزُ أن يُقالَ فلانٌ في جِوَارِ ربّهِ وَجُوَارِ ربّهِ لغتانِ إذا كان ملازمًا لطاعَتِهِ"، ذكر ذلك في كتابهِ "تفسير الأسماء والصفات".
فيفهَمُ من قولِ الأشعري "فلا يجوز وَصفُ الله بالروحِ" بُطلانُ قولِ "يا روح" مرادًا به الله، فَليُحذَر كما تقدمَ ما في كتابِ قوت القلوب من إيرادِ ذلكَ في ذِكرٍ سِيقَ هناكَ، فإن الروحَ ليس وصفًا بل هو اسمٌ جامدٌ وفيه إيهامُ النقصِ لأن الروح جسم لطيف والجسم اللطيف أحد نوعي الجسم. وكذلكَ لا يجوزُ تسميةُ الله بالقوّةِ كما فَعلَ سيّدُ قطب وكأنه اقتدى بكلامِ بعضِ الملاحدةِ الذين يقولونَ "إن للعالمِ قوةً مدبّرةً" ويعنونَ أن الله هوَ هذه القوة، ولعلَّ هذا مما اكتسبَهُ منهم حينَ كان مع الشيوعيةِ إحدى عشرة سنَة كما اعترف هو في بعض مؤلفاته وهو كتاب "لماذا أعدموني"، وكذلكَ تسميةُ سيد قطب لله بالعقلِ المدبّرِ لأنَّ العقلَ صفةٌ من صفاتِ البشرِ والجن والملائكة، وهذه التّسميةُ تدخُلُ تحتَ قولِ الإمام أبي جعفرٍ الطحاوي في كتابِهِ الذي ألفّهُ لبيانِ ما عليه أهلُ السنة: "ومن وصفَ الله بمعنًى من معاني البشر فقد كَفَرَ"، وكذلك ما في كتابِ محمد سعيد البوطي من تسميةِ الله بالعلَّةِ الكبرى والسببِ الأوَّلِ والواسِطَةِ والمَصدَرِ والمَنبَعِ وذلكَ مذكورٌ في كتابِهِ كبرى اليقينياتِ الكونية وذلكَ نوعٌ من الإلحادِ، قال الإمامُ رُكنُ الإسلامِ عليٌّ السُّغديُّ: "من سَمَّى الله علّةً أو سببًا كَفَرَ".
ويكفي في الزّجرِ عن ذلكَ قولُ الله تعالى: ﴿وَللهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ﴾ (180) ، فمذهبُ أهلِ السنة أن السَّبَبَ والمُسبَّبَ خَلقٌ لله تعالى، وتسميةُ الله بالعلَّةِ أشدُّ قُبحًا من تسميتِهِ بالسببِ لأن العلَّةَ في اللغةِ المرض ونحوه والله أزليٌّ أبديٌّ ذاتًا وصفاتٍ، فما أبعَدَ هذا الكلامَ من كلامِ مَن مَارَسَ كُتُبَ عقائِدِ أهلِ السنةِ فحالُهُ كحالِ من لم يُعَرّج عليها بالمرَّةِ.
وأما قولُهُ تعالى: ﴿وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ [سورة الجاثية/34] فقد ذُكرَ على وجهِ المقابلةِ ومعناهُ تَرَكنَاكُم مِن رَحمَتِنَا كما أنتم تَرَكتُم طاعةَ الله في الدنيا بالإيمانِ به.
وكذلكَ لا يجوزُ أن يُؤخَذَ من قولِ الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً﴾ الآية [سورة البقرة/26] جوازُ تسميةِ الله بالمستحيى، ومعنى الآية أننا لا نترك استحياءً كما يتركُ البشرُ الشىءَ استحياءً، معناه أنَّ الله لا يُحِبُّ تركَ إظهارِ الحَقّ فلا يتركُهُ للاستحياءِ كما يَفعَلُ الخلقُ، وهذا مستحيلٌ على الله.
وكذلكَ لا يجوزُ أن يُستَخرَجَ اسمُ المستحي لله من الحديثِ الذي رواه الترمذي: "إنَّ الله حييٌّ كريمٌ يَستحي إذا رَفَعَ الرجلُ إليه يديهِ أن يَردّهما صِفرًا خائبتين" معناه لا يُخَيّبُ، إما أن يعطيَهُ الثَّوابَ أو يعطيَهُ ما طَلَبَ، ومعنى: "رَفَعَهُمَا إليه" أي إلى جِهَةِ مَهبِطِ الرّحمةِ وهي السماءُ.
قال المؤلف رحمه الله: واعلَم أنَّ العُلمَاءَ يقولونَ: نؤمِنُ بإثْباتِ ما وَرَدَ في القُرءَانِ والحَديثِ الصَّحيحِ كالوَجْهِ واليَدِ والعَيْنِ والرّضَا والغَضَبِ وغَيْرِه علَى أنّها صِفَاتٌ يَعلَمُها الله لا علَى أنَّها جَوارِحُ وانْفِعالاتٌ كأَيْدِينا وَوُجُوهِنَا وعيُونِنَا وغَضَبِنا، فَإِنَّ الجَوَارِحَ مُسْتَحِيْلَةٌ علَى الله لِقَوْلِه تَعَالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سورة الشورى/11]، وقولِهِ: ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ (4).
قَالُوا لَو كَانَ لله عَيْنٌ بِمَعْنَى الجَارِحَةِ والجِسْمِ لَكَانَ لَهُ أَمْثَالٌ فَضْلًا عَنْ مِثْلٍ وَاحِدٍ ولَجَازَ عَلَيه ما يَجُوزُ على المُحْدَثَاتِ مِنَ المَوْتِ والفَناءِ والتَّغَيُّرِ والتَّطَور، ولَكَانَ ذَلِكَ خُرُوْجًا مِنْ مُقْتَضَى البُرْهَانِ العَقْلِيّ علَى اسْتِحَالَةِ التَّغَيُّرِ والتَّحوُّلِ مِنْ حَالٍ إلى حَالٍ علَى الله. ولا يَصِحُّ إهْمالُ العَقْلِ لأَنَّ الشَّرْعَ لا يَأْتِي إِلا بِمُجَوَّزَاتِ العَقْلِ أي إلا بما يقبَلُهُ العَقلُ لأَنَّه شَاهِدُ الشَّرْعِ، فَالعَقْلُ يَقْضِي بأَنَّ الجِسْمَ والجِسْمانِيَّاتِ أَي الأَحْوالَ العَارِضَةَ للجِسْم مُحْدَثَةٌ لا مَحَالَةَ وأَنّها مُحْتَاجَةٌ لِمُحْدِثٍ، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ المُتَّصِفُ بها لَهُ مُحْدِثٌ ولا تَصِحُّ الألُوهِيَّةُ لِمنْ يَحْتَاجُ إلى غَيْرِهِ، لأنَّ الدلائلَ العقليةَ على حدوثِ العالمِ طروءُ صفَاتٍ لم تكن عليهِ والتحولُ من حالٍ إلى حالٍ.
الشرح: قالَ العلماءُ: يصحُّ أن يقالَ لله يدٌ لا كأيدينا ووجهٌ لا كوجوهِنَا وعينٌ لا كأعيننا على معنى الصّفَةِ لا على معنى الجارحَةِ والجسم، ولا يصحُّ أن يقالَ الله جالسٌ لا كجلوسِنَا لأنَّ ذلك لم يَرِد لا في القرءانِ ولا في الحديثِ ولا عن الأئمةِ، والجلوسُ لا يوصَفُ به إلا المخلوقُ، قال أهل السنة: "ما أطلقَ الله على نفسِهِ أطلقناهُ عليهِ وما لا فلا"، وقالَ العلماءُ: لا تَثْبتُ الصفة لله إلا بالقرءانِ أو الحديثِ الثابتِ المُتَّفَقِ عليهِ، أما الحديثُ الذي في بعضِ رواتِهِ طعنٌ وجَرحٌ فلا يُحتجُّ به لإثباتِ الصفةِ لله، وكذلكَ لا تَثبُتُ الصفةُ لله بكلامِ صحابيّ أو تابعيّ.
أما الصفاتُ الثلاثَ عشرة لو لم تَرد في القرءانِ والحديثِ بالعقلِ تَثبُتُ، أما ما سوى هذه الصفات فما وَرَدَ فيه النصُّ نُثبِتُهُ لله مع التنزيهِ، كاليدِ والوجهِ والعينِ فَنُثبِتُهَا صفاتٍ لله لا جوارحَ فإنها وَرَدَت في القرءانِ، ولو لم تَرِد في الشرعِ ما كان يجوزُ لنا إثباتُهَا لله.
فبناءً على هذا لو أنكرَ إنسانٌ صفةً من صفاتِ الله الثلاثَ عشرةَ نُكَفّرُهُ لو كان قريبَ عهدٍ بإسلامٍ لأنَّ هذهِ الصفات تَثبُتُ بالعقلِ ولو لم يَعلَم بورودِهَا في الشرعِ.
أما الوجهُ واليدُ والعينُ إذا إنسانٌ أنكرَ واحدةً منها لا نُكَفّرهُ إلا إذا كانَ اطَّلَعَ في القرءانِ عليها ومَع ذلكَ أنكَرَهَا فعندَها نُكَفّرُهُ، أي إن أنكرَ أصلَ الإضافةِ مع تنزيهِ الله عن الجوارحِ بَعدَ أن اطَّلَعَ في القرءانِ على ذلكَ فهذا يُكَفَّرُ. فالعينُ تأتي بمعنى الحفظِ كما في قولِهِ تعالى: ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾ [سورة القمر/14]، وقَولِه: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ (39) [سورة طه] أي على حفظي، واليدُ تأتي بمعنى القدرةِ والقدرةُ هي القوةُ كما في قولِهِ تعالى: ﴿وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾ [سورة الذاريات/47]، وتأتي بمعنى العَهدِ كما في قولِهِ تعالى: ﴿يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [سورة الفتح/10] أي عَهدُ الله فوقَ عُهودِهِم أي ثَبَتَ عليهم عَهدُ الله لأن معاهدَتَهم للرسولِ تحتَ شجرةِ الرضوانِ في الحديبيةِ على أن لا يَفِرُّوا معاهدةٌ لله تبارك وتعالى لأن الله تعالى هو الذي أَمَرَ نبيَّهُ بهذهِ المبايَعَةِ.
وأما قولُهُ تعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء﴾ [سورة المائدة/64] فمعناهُ غنيٌّ واسِعُ الكَرَمِ.
والله تعالى يَغضَبُ ويَرضَى لا كأحدٍ من الوَرَى كما نَطَقَ به القرءانُ بقولِهِ تعالى: ﴿رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ﴾ [سورة المائدة/119] وفي حقّ الكفَّارِ ﴿وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ﴾ [سورة الفتح/6]، والأصلُ أن الله تعالى يُوصَفُ بما وَصَفَ به نَفسَهُ في كتابهِ العزيزِ وبما صحَّ أنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم وصفَهُ به من غيرِ أن يكونَ لأحدٍ شركةٌ مع الله تعالى لا في ذاتِهِ ولا في صفاتِهِ.
ثم الغَضَبُ بالنّسبةِ للخَلقِ تغيُّرٌ يحصُلُ عند غليانِ الدَّمِ في القلبِ بإرادةِ إيصالِ الضَّررِ إلى المغضوبِ عليهِ. والغضبُ إذا وُصِفَ الله به يكونُ بمعنى الغايةِ أي إرادة الانتقامِ، وإرادةُ الانتقامِ أزليَّةٌ هذا المعروفُ عندَ الأشاعرةِ في عباراتِهم، وإذا وُصِفَ المخلوقُ بالغضبِ يُوصَفُ باعتبارِ المَبْدَإ وهو التّغيُّرُ أي الانفعالُ النَّفسانيُّ.
والرّضَا عبارةٌ عن إرادةِ إنعامِهِ على عبادِهِ أو عن نفسِ إنعامِهِ عليهم وهذا هو معنى الرَّحمةِ أيضًا، وليست رحمته رقَّة القلبِ. وأما ما وَرَدَ في حديثِ الشفاعةِ الذي رواهُ مسلمٌ من أن ءادمَ وغيرَهُ يقولونَ يومَ القيامة: "إن الله قد غَضِبَ اليومَ غضبًا لم يغضَب مثله قبلهُ ولا يغضَب بعدَهُ مثله" فهذا يُقصَدُ بهِ أَثَرُ الغضبِ ليس الغضب الذي هو صفةٌ ذاتيّةٌ لله.
وقد كان السَّلف إذا أرادوا اختصارَ العبارةِ يقولونَ الله يغضَبُ ويرضَى بلا كيفٍ، مالكُ بن أنسٍ واللَّيثُ بن سعدٍ وسفيانُ الثَّوريُّ والأوزاعيُّ هؤلاء لما يذكرونَ الصّفات التي وَرَدَت في حَقّ الله تعالى ممَّا يَتَوَهَّمُ بعضُ الناس أنها كصفاتِ المخلوقينَ لِقِصَرِ أفهَامِهم، كانوا رضي الله عنهم يقولون: "بلا كيفٍ". أما الخلفُ وبعضُ السَّلفِ أوَّلوا فيقولون رِضَا الله إرادتُهُ الرَّحمَة وغضبُهُ إرادتُهُ الانتقَام، أَرجَعوا الصّفتَينِ إلى الإرادةِ، وكِلَا القولينِ صحيحٌ.

الشرح القويم
في حل ألفاظ الصراط المستقيم

قائمة الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم