في العقيدة الإسلامية كتاب الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم
إثباتُ أنَّ الأسْبابَ العَادِيّةَ لا تُؤثّرُ علَى الحقِيْقَةِ وإِنّما المؤَثّرُ الحقِيقيُّ هوَ الله

إثباتُ أنَّ الأسْبابَ العَادِيّةَ لا تُؤثّرُ علَى الحقِيْقَةِ وإِنّما المؤَثّرُ الحقِيقيُّ هوَ الله

الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم

الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم قال المؤلف رحمه الله: إثباتُ أنَّ الأسْبابَ العَادِيّةَ لا تُؤثّرُ علَى الحقِيْقَةِ وإِنّما المؤَثّرُ الحقِيقيُّ هوَ الله.
ذكَر الحاكمُ صَاحِبُ المسْتَدْرَكِ في تَاريخِ نَيْسَابُورَ قالَ: سَمِعتُ أبا زكرِيّا يَحيى بنَ محمّدٍ العنبرِيَّ يقولُ: سَمِعتُ أبَا عِيْسى بنَ محمّدِ بنِ عِيْسَى الطَّهْمَانيَّ المَروَرّوذِي يَقولُ: إنَّ الله تباركَ وتَعالى يُظْهِرُ ما شاءَ إذَا شاءَ من الآيَاتِ والعِبَرِ في بَرِيَّتِه.
الشرح: الله تعالى يُظهِرُ ما شاءَ في بريّتِهِ أي خلقِهِ من الآياتِ أي العلاماتِ التي تدلُّ على صِدقِ الإسلامِ والعِبَرَ أي ما يُعتَبَرُ بهِ أي ما يؤخذُ منه قوّةُ عقيدةِ الإيمانِ.
قال رحمه الله: فيَزِيدُ الإسْلامَ بها عِزًّا وقُوَّةً ويُؤيّدُ ما أُنزل من الهُدَى والبيّناتِ ويُنشِئُ أعْلامَ النُّبُوَّةِ ويُوضِحُ دِلالة الرّسالةِ ويُوثِقُ عُرَى الإسلامِ.
الشرح: قولُه: "أعلام النبوة" أي دلائل النبوَّةِ، والعُرَى معناهُ الحبل لمَّا يكونُ في وسطِهِ عقدٌ.
قال رحمه الله: ويُثْبِتُ حَقائقَ الإيْمانِ مَنًّا مِنهُ على أوْليائه وزِيَادَةً في البُرهَانِ لهم وحُجَّةً على من عَاندَ في طاعتِه وألْحَدَ في دِينِه لِيَهلِكَ من هلَكَ عَن بيّنَةٍ ويَحْيا من حَيَّ عن بيّنَةٍ فلَهُ الحمدُ لا إلَه إلا هوَ ذُو الحُجَّةِ البَالِغَةِ والعزّ القَاهِرِ. والطَّوْلِ البَاهِر.
وصلّى الله على سيّدنا محمّدٍ نبيّ الرَّحْمةِ ورَسُولِ الهُدَى وعلى ءالهِ الطَّاهرينَ السَّلامُ ورحْمةُ الله وبَركَاتُه.
وإنَّ مِمّا أدْرَكْنا عِيَانًا وشَاهَدْناهُ في زماننا وأحَطْنا عِلْمًا به فَزادَنا يَقِينًا في دِينِنا وتَصْديقًا لِمَا جَاءَ بِه نبِيُّنا ودَعا إليه منَ الحقّ فرَغَّب فِيه مِنَ الجِهادِ مِنْ فَضِيلَةِ الشُهَداء وبَلَّغَ عن الله عزَّ وجَلَّ فِيهمْ إذْ يَقُولُ جَلَّ ثَناؤه ", ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ ﴿169﴾ ﴿فَرِحِينَ﴾ (170) [سورة ءال عمران].
إنّي ورَدْتُ في سَنةِ ثمانٍ وثلاثينَ ومائَتينِ مَدِيْنةً منْ مَدائِنِ خُوارِزْمَ تُدْعَى هَزَارَاسْبْ وهي في غَرْبي وَادِي جَيْحُونَ ومنْها إلى المدِيْنَةِ العُظْمَى مسَافَةُ نِصْفِ يَوم وخُبّرْتُ أنَّ بها امْرأَةً من نسَاءِ الشُّهَداءِ رَأت رؤيَةً كأنَّها أُطعِمَت في مَنامِها شَيْئًا فَهي لا تأْكُلُ شيئًا ولا تَشْربُ مُنْذُ عَهْدِ أبي العبّاسِ بنِ طاهِرٍ والِي خُراسَانَ وكانَ توفّي قبلَ ذلكَ بثمانِ سنينَ رَضِيَ الله عنه ثمّ مَرَرْتُ بتلكَ المدينةِ سنَة اثنَتَينِ وأرْبعينَ ومائتين فَرأيتُها وحدَّثَتْني بحديْثها فلَم أسْتَقْصِ علَيْها لحدَاثَةِ سِنّي ثُمَّ إنّي عُدْتُ إلى خُوَارِزْمَ في ءاخِرِ سنة اثنَتينِ وخمسينَ ومائتَين فرأيتُها باقِيةً ووَجَدْتُ حَديثَها شَائعًا مسْتَفِيضًا. وهذِه المدينَةُ على مَدْرَجَةِ القوافِلِ وكانَ الكَثيرُ ممَّن يَنْزِلُها إذَا بلغَهُم قِصّتها أحَبُّوا أن ينْظروا إليها فلا يَسألونَ عنها رجُلًا ولا امرأةً ولا غُلامًا إلا عَرفَها ودَلَّ علَيها فلَمَّا وافَيتُ النَّاحِيَةَ طلَبتُها فوجَدْتُها غائبةً على عِدّةِ فراسِخَ فمضَيتُ في أثرِها مِنْ قَرْيةٍ إلى قَرْيَةٍ فأَدْرَكْتُها بَيْنَ قريَتَيْنِ تمشِي مِشيَةً قويّةً فإذَا هي امرأةٌ نَصَفٌ جَيّدَةُ القَامَةِ حسَنَةُ الثّدِيَّةِ ظَاهِرةُ الدَّمِ مُتَورّدَةُ الخَدَّينِ ذَكِيَّةُ الفُؤَادِ فَسَايَرتْني وأنَا رَاكِبٌ، فعَرَضْتُ علَيها مَرْكَبًا فلمْ تركَبْهُ وأقبَلَت تمشِي مَعي بِقُوَّةٍ.
وكانَ حضرَ مَجلسي قَومٌ من التُّجَّار والدَّهَاقين وفيهم فَقِيهٌ يُسَمَّى محمدَ بنَ حَمْدَوَيْه الحارِثيَّ وقَد كتبَ عنْه مُوسى ابنُ هارونَ البزَّارُ بمكّةَ وكَهْلٌ لَهُ عبادةٌ وروايةٌ للحَديث، وشَابٌّ حسَنٌ يُسَمَّى عبدَ الله بنَ عَبْدِ الرّحمنِ، وكَان يُحلّفُ أصْحابَ المظَالم بنَاحيَتِه فَسَأَلْتُهم عَنها فأحْسَنُوا الثَّنَاء علَيها وقَالُوا عنْها خَيرًا وقَالوا إنَّ أمرَها ظاهِرٌ عندَنا فلَيْسَ فِينا مَن يخْتلِفُ فيها، قال المسَمَّى عبدَ الله بنَ عَبدِ الرحمن: أنَا أسمَعُ حدِيثَها منذُ أيّامِ الحدَاثَةِ ونَشأتُ والنّاسُ يتفَاوضُون في خبَرها وقد فَرَّغتُ بالي لَها وشَغَلتُ نَفْسِيَ بالاسْتِقْصاءِ علَيها فلَم أرَ إلا سَتْرًا وعَفافًا ولَم أعْثُرْ لَها على كَذِبٍ في دَعْواها ولا حِيْلَةٍ في التَّلبيسِ، وذَكَر أنَّ مَن كَانَ يَلي خُوَارِزْمَ من العُمّالِ كانوا فيما خَلا يَستَحضِرونَها ويَحصُرُوْنها الشّهرَ والشّهْرينِ والأكْثرَ في بيتٍ يُغلِقُونَ عليها ويُوَكّلُونَ من يُراعِيْهَا فلا يَرونَها تأكُلُ ولا تَشْربُ، ولا يجِدُون لَها أثرَ بولٍ ولا غائطٍ فَيبَرُّونَها ويَكسُونَها ويُخْلُونَ سَبيلَها فَلَمّا تَواطَأ أهْلُ النَّاحيةِ على تَصْدِيقها قَصَصْتُها عن حَدِيثها وسَألتُها عن اسمِها وشَأنِها كُلّه، فذكَرَتْ أنَّ اسمَها رَحمَةُ بنتُ إبْراهيمَ وأنَّه كانَ لَها زَوجٌ نَجّارٌ فَقيرٌ مَعاشُه مِن عَملِ يَدِه، يأتِيْه رِزقُه يَومًا فَيَومًا لا فَضْلَ في كَسْبِه عن قُوتِ أهْلِه، وأنَّها وَلَدَتْ لَهُ عِدَّةَ أوْلادٍ، وجَاء الأقْطَعُ ملِكُ الكفّارِ إلى القَريةِ فعبَرَ الوَاديَ عِنْدَ جُمُودِه إلَينا في زُهاءِ ثلاثَةِ ءالافِ فَارسٍ وأهْلُ خُوَارِزْم يَدْعُونَهُ كَسْرَى. قَالَ أبُو العبَّاسِ: والأَقْطَعُ هَذا كانَ كافِرًا غاشِمًا شَديدَ العَداوةِ للمُسْلمينَ قَدْ أثّرَ على أهْلِ الثّغُورِ وألَحَّ على أهْلِ خُوارِزْمَ بالسَّبْي والقَتْل والغَاراتِ وكَان وُلاةُ خُراسَانَ يتأَلَّفُونَه وأشباهَهُ من عُظَماءِ الأعَاجِمِ ليَكُفُّوا غاراتِهمْ عن الرَّعِيَّةِ ويَحقِنُوا دِمَاءَ المسلمِيْنَ فيَبْعَثُونَ إلى كُلّ واحدٍ منْهُم بأَمْوالٍ وألْطَافٍ كَثيْرةٍ وأنْواع من فَاخِرِ الثّيابِ وإنَّ هذَا الكافِرَ اسْتاءَ في بَعضِ السّنيْنَ على السُّلْطانِ، ولا أدْري لِمَ ذاكَ، هل استَبطَأ المبارَّ عَن وقْتِها أم استَقَلَّ ما بُعِثَ إلَيه في جَنْبِ مَا بُعِثَ إلى نُظَرائِه من الملُوكِ فأقْبَلَ في جنُودِه واستَعْرضَ الطرُقَ فَعَاثَ وأفْسَدَ وقتَلَ ومَثَّلَ فعَجزَ عَنْه خيُولُ خُوارِزْم، وبَلغَ خبرهُ أبَا العبّاسِ عبدَ الله بنَ طَاهرٍ رحمه الله، فأنْهَضَ إليهِ أربَعةً من القُوّادِ: طاهِرَ بنَ إبراهيمَ بنِ مالكٍ، ويعقوبَ بنَ مَنصُورِ بنِ طَلحةَ، ومِيكالَ مَولى طَاهرٍ، وهَارُونَ العَارِضَ وشحَنَ البلَدَ بالعساكرِ والأسْلحةِ ورتّبَهُم في أرْبَاعِ البلَدِ كلٌّ في رُبْعٍ، فَحَمَوا الحرِيْمَ بإذنِ الله تعالى، ثمَّ إنَّ وادي جَيحُونَ وهو الذي في أعْلَى نَهْرِ بَلْخٍ جَمَدَ لما اشتَدَّ البَرْدُ، وهو وادٍ عظِيمٌ شَدِيدُ الطُّغْيانِ كَثِيرُ الآفَاقِ وإذا امتَدَّ كانَ عَرْضُهُ نَحْوًا من فَرسَخٍ وإذَا جَمَدَ انطَبَقَ فلَم يُوصَلْ منه إلى شَىءٍ حتَّى يُحْفَرَ فِيه كَما تُحفَرُ الآبَارُ في الصُّخُورِ وقَدْ رأَيتُ كِثَفَ الجَمَدِ عَشَرَةَ أشْبارٍ، وأُخبِرْتُ أنَّه كانَ فيما مَضى يزِيدُ على عِشرينَ شِبْرًا وإذَا هُو انْطبَقَ صَارَ الجمَدُ جِسْرًا لأهْلِ البلَدِ تَسِيْرُ عليهِ العَساكِرُ والعَجَلُ والقَوافِلُ فيَنْتظِمُ ما بَين الشَّاطِئيْنِ، ورُبَّما دامَ الجمَدُ مائةً وعِشْرينَ يومًا، وإذا قلَّ البَرْدُ في عَامٍ بَقيَ سَبْعِيْنَ يَوْمًا إلى نَحْوِ ثلاثَةِ أشْهُر. قالتِ المرأةُ: فَعَبَرَ الكافِرُ في خَيْلِه إلى بَابِ الحِصْنِ وقد تَحصَّنَ النّاسُ وضَمُّوا أمْتِعَتَهُم وصَحِبُوا المسلمينَ وأضَرُّوا بهم فحُصِرَ مِنْ ذلِكَ أهلُ النَّاحيةِ وأرَادُوا الخروجَ فَمنعَهُمُ العَامِلُ دونَ أن تَتوافَى عسَاكرُ السُّلطانِ وتَتلاحَقَ المتطوّعَةُ، فشَدَّ طائفةٌ من شُبَّانِ النَّاسِ وأَحْداثِهم فَتقَارَبُوا مِنَ السُّورِ بما أطاقُوا حَمْلَه من السّلاحِ فَلَمَّا أصْحَرُوا كَرَّ الكفَّارُ علَيهم وصَارَ المسْلمونَ في مِثلِ الحرَجَةِ فتَحصَّنُوا واتَّخَذُوا دَارةً يُحَاربُونَ من وَرائِها وانْقطَعَ ما بينَهُم وبَيْن الحِصْنِ وبَعُدَت المعُونَةُ عنهُم فَحارَبُوا كأشَدّ حَرْبٍ وثَبتُوا حتَّى تَقطَّعَت الأَوْتارُ والقسِيُّ وأدرَكَهُمُ التّعَبُ ومَسَّهُمُ الجوعُ والعَطَشُ وقُتِلَ مُعْظَمُهم وأُثْخِنَ البَاقُونَ بالجِراحَات.
ولما جَنَّ عَلَيهمُ الليلُ تَحاجَزَ الفَريْقانِ قالَتِ المرأةُ: ورُفِعَتِ النّارُ على المنَاظِرِ سَاعةَ عُبُورِ الكَافرِ، فاتّصَلَ الخبَرُ بالجُرْجَانِيّةِ وهي مَدِينةٌ عَظيمةٌ في قاصِيَةِ خُوَارِزْمَ، وكانَ مِيكالُ مَوْلَى طَاهرٍ بِهَا في عَسْكَرٍ فَخَفَّ في الطّلبِ هَيْبَةً للأميْرِ أبي العبّاسِ عبدِ الله بنِِ طَاهرٍ رحمه الله، وركَضَ إلى هَزَاراسْبْ في يَومٍ ولَيلةٍ أربعينَ فرسَخًا بفَراسِخِ خُوارِزْمَ وفِيْها فَضلٌ كثِيرٌ على فراسِخِ خُراسَانَ.
وغَدا الكَافرُ لِلفَرَاغ مِنْ أَمْر أولئِكَ النَّفَرِ فبَينَما هُمْ كذلكَ إذ ارتفَعتْ لهُمُ الأعلامُ السُّودُ وسَمِعُوا أصْواتَ الطّبُولِ فأَفْرَجُوا عن القَوْم، ووَافَى مِيكالُ مَوْضِعَ المعْركةِ فَوارَى القَتْلَى وحَمَلَ الجرْحَى.
قالَتِ المرأةُ: وأُدْخِلَ الحِصْنَ علَينا عَشِيَّةَ ذَلكَ زُهاءُ أربَعمائةِ جَنَازةٍ، فلمْ تبْقَ دارٌ إلا حُمِلَ إليها قتيلٌ وعَمَّتِ المصِيبةُ وارْتجَّتِ النَّاحِيةُ بالبُكاءِ.
قالت: ووُضِعَ زَوْجي بَيْنَ يدَيَّ قَتيلًا فأَدْرَكَني من الجزَع والهلَعِ علَيهِ ما يُدْرِكُ المرأة الشّابّة على زَوْجِها أبي الأَوْلادِ، وكانَت لَنا عِيَالٌ.
قالتْ: فاجْتَمع النّساءُ من قَرابَاتي والجِيرانُ يُسْعِدْنَني على البكاءِ، وجَاءَ الصّبْيانُ وهمْ أطْفالٌ لا يَعْقِلُونَ من الأَمْرِ شيئًا يَطْلبونَ الخبْزَ وليسَ عِنْدِي فَضِقْتُ صَدْرًا بأَمْري ثمّ إنّي سَمِعْتُ أَذانَ المغْربِ فَفَزِعْتُ إلى الصّلاةِ فصَلَّيتُ ما قَضَى لي ربّي ثُمّ سَجَدْتُ أَدْعُو وأتَضَرَّعُ إلى الله تَعالى وأسأَلهُ الصَّبْرَ وأن يَجْبُرَ يُتْمَ صِبياني فذهب بيَ النّومُ في سجودي فَرأيتُ في مَنامي كأَنّي في أَرْض حَسْناءَ ذَاتِ حِجَارةٍ وأنَا أطْلُبُ زَوْجِي، فنَاداني رَجُلٌ: إلى أينَ أيّتُها الحُرّةُ؟ قلتُ: أطلُبُ زَوجِي، فقالَ: خُذِي ذَاتَ اليَمينِ، فرُفِعَ لي أرضٌ سَهْلَةٌ طيّبةُ الرّيّ ظَاهِرةُ العُشْبِ وإذَا قصُورٌ وأَبنيَةٌ لا أحْفَظُ أنْ أصِفَها ولَمْ أَرَ مِثْلَها وإذا أنْهارٌ تَجْري علَى وجْهِ الأَرْضِ بغَيْرِ أخَاديدَ ليسَ لها حَافّاتٌ، فانْتَهيْتُ إلى قَوم جلُوسٍ حَلَقًا حَلَقًا علَيْهمْ ثِيَابٌ خُضْرٌ قَدْ عَلاهُمُ النُّورُ، فإذَا هُم الذينَ قُتِلُوا في المعركةِ يأْكُلونَ على موائدَ بينَ أيدِيْهم فجعَلْتُ أتخلَّلُهم وأتصَفَّحُ وجُوْهَهُم لألقَى زَوْجي لكِنَّه هوَ يَنْظُرُنِي، فنَادَاني: يا رَحْمَةُ! فيَمَّمْتُ الصَّوْتَ فَإذَا به في مِثْلِ حَالِ من رَأيتُ من الشُهداءِ، وجهُهُ مثلُ القمَرِ ليلةَ البَدْرِ وهوَ يأكلُ معَ رُفقةٍ لَه قُتِلُوا يَومئذٍ معَهُ، فَقالَ لأَصْحابِه: إنَّ هذهِ البائِسَةَ جَائعةٌ مُنْذُ اليومَ أفَتأذَنُونَ لي أنْ أُنَاوِلَها شَيئًا تأْكُلُه؟ فأَذِنُوا لَهُ، فنَاوَلَنِي كِسْرةَ خُبزٍ. قالت: وأنا أعْلَمُ حينئذٍ أنّه خبزٌ ولكن لا أدري كيْفَ يُخْبَزُ، هو أشدُّ بياضًا من الثَّلجِ واللّبنِ وأحلى من العَسلِ والسُّكرِ وأليَنُ من الزُّبْدِ والسَّمْنِ، فأكَلْتُه فلمّا استقرَّ في جوفي قال: اذهبي كفاكِ الله مَؤُونَةَ الطّعامِ والشّرابِ ما حيِيتِ في الدّنيا، فانتَبهْتُ من نَومي شَبْعَى رَيَّا لا أحتاجُ إلى طَعامٍ ولا شرابٍ وما ذُقتُها منذُ ذلكَ إلى يَومي هَذا ولا شَيئًا يأكلُه الناسُ. وقالَ أبو العبّاسِ: وكانت تَحْضُرُنا وكُنّا نأكلُ فتتنَحَّى وتأْخذُ على أنْفِها تَزعُمُ أنّها تتأذَّى من رائحةِ الطَّعامِ، فسأَلتُها: أتتغَذَّى بشَىءٍ أو تَشربُ شيئًا غيرَ الماءِ؟ فقالتْ: لا، فسألتُها: هل يَخرجُ منها ريحٌ أو أذًى كما يَخرُجُ مِنَ النّاسِ؟ قالت: لا عَهْدَ لي بالأذَى منذُ ذلكَ الزّمانِ، قلتُ: والحيضُ؟ أظنُّها قالت: انقطعَ بانقطاعِ الطُّعْمِ، قلتُ: هل تحتاجينَ حاجَةَ النساءِ إلى الرّجالِ قالتْ: أمَا تستحي منّي تسألُني عنْ مِثل هذا، قلتُ: إنّي لعَلّي أُحَدّثُ النّاسَ عنكِ ولا بدّ أن أستَقْصِيَ، قالت: لا أحتاجُ، قلتُ: فتنامينَ؟ قالتْ: نعَم أطيَبَ نومٍ، قلتُ: فما ترَينَ في منامِكِ؟ قالت: مِثلَما ترَوْنَ، قلتُ: فتَجِدينَ لفَقْدِ الطّعامِ وَهْنًا؟ قالتْ: ما أحْسَسْتُ بجوعٍ منذ طَعِمْتُ ذلك الطعامَ، وكانت تقبَلُ الصَّدَقةَ فقلتُ لها: ما تَصْنَعينَ بها، قالت: أكْتَسي وأكسُو ولَدِي، قلتُ: فهلْ تجدينَ البردَ وتتأذَّينَ بالحرّ؟ قالَتْ: نَعَم، قلتُ: يُدرِكُكِ اللُّغوبُ إذا مشَيتِ؟ قالت: نعَم ألَسْتُ منَ البشرِ، قلتُ: فتتوضَّئِيْنَ للصّلاةِ؟ قالت: نعم، قلتُ: لِمَ؟ قالَت: أمرَني الفقهاءُ بذلكَ، قلتُ: إنَّهم أفْتَوْها على حَديثِ: "لا وضوءَ إلا من حَدَثٍ أو نومٍ"، وذكَرتْ لي أنَّ بطنَها لاصِقٌ بظَهْرِها، فأمَرْتُ امرأةً من نسائِنا فنظَرَتْ (أي إلى غير العورة) فإذا بطنُها كمَا وصَفَتْ وإذا قد اتّخَذَتْ كِيْسًا فضَمَّتِ القُطْنَ وشَدَّتْهُ على بَطنِها كي لا ينقصِفَ ظهرُها إذا مشَت، ثمّ لم أزل أختلِفُ إلى هزَاراسْبْ بينَ السّنتين والثّلاثِ فتَحضُرُني فأعيدُ مسألتَها فلا تَزيدُ ولا تَنْقُصُ، وعَرَضْتُ كلامَها على عبدِ الله بنِ عبدِ الرّحمنِ الفَقيهِ، فقالَ: أنا أسمَعُ هذا الكلامَ منذُ نشأتُ فلا أجِدُ من يدفَعُهُ أو يَزْعُمُ أنّه سَمِعَ أنّها تأكلُ أو تَشْرَبُ أو تتَغوَّطُ. انتهى.
فهذه القِصَّةُ فيها أن لا تَلازُمَ عقلِيٌّ بين فِقْدانِ الأَكْلِ وبينَ المرَضِ وذَهابِ الصّحَّةِ وانْهِدام البُنْيَةِ وكذلكَ سائرُ الأسْبابِ العَاديّةِ يصِحُّ عقلًا أن تتخلَّفَ مفعولاتُها وأن الأشْياءَ بمشيئةِ الله تعالى، وأنَّ الشُّهداءَ لهم حَياةٌ برْزخِيَّةٌ فسُبْحانَ القَدِيرِ على كلِّ شىءٍ.
الشرح: هذه القصّةُ تفيدُنا أنّه لا تلازمَ عقلي بين الأسبابِ ومسبَّباتِها من حيثُ الذَّاتُ، إنّما هي أسبابٌ يخلُقُ الله تعالى عندَها المُسَبَّبات، يخلقُ الله تعالى عند الأكلِ الشّبعَ وعندَ الشُّربِ الرّيَّ وقد لا يخلقُ الشّبعَ والرّيَّ عند الأكلِ والشّربِ، جائزٌ عقلًا أن لا يخلقَ الشّبعَ بعدَ الأكلِ والرّيَّ بعد الشّربِ، هذا يجوزُ وهذا يجوزُ. كذلك تفيدنا أنّه قد يحصُلُ ضررٌ بخلقِ الله بتركِ الأكلِ والشّربِ وقد لا يحصلُ، هذه المرأةُ تركت الأكلَ والشربَ زمانًا طويلًا فلم تَنضَرَّ، وأكثرُ النّاسِ إذا تَرَكوا الأكلَ والشُّربَ لأيّامٍ معدودةٍ خمسة أو ستّةِ أيام يموتونَ من الجوعِ، فيعلَمُ من ذلكَ أن هذه الأسباب لا تخلُقُ شيئًا، الأكلُ لا يخلُقُ الشبعَ وتركُ الأكلِ لا يخلقُ الضَّررَ، الله هو الذي يخلقُ الشّبعَ عندَ الأكلِ ويخلُقُ الضّرَر عندَ تركِ الأكلِ إن شاء. وكذلكَ النّارُ إذا مسّت شيئًا يخلقُ الله الإحراقَ عند مماسّةِ ذلكَ الشىء للنارِ وقد لا يخلقُ الله ذلك، كلٌّ على حسبِ مشيئة الله الأزليّةِ، فهذا سيّدنا إبراهيمُ الخليلُ عليه السلام رماهُ قومُهُ في النّارِ العظيمةِ فلم تحرقهُ ولا ثيابهُ وإنّما أحرقت القيدَ الذي قيّدوه بهِ وكانت النارُ عليه بردًا وسلامًا، وكذلك حَصَلَ لأبي مسلمٍ الخولانيّ رضي الله عنه لما رماهُ الأسودُ العنسيُّ في النّارِ فلم تحرقهُ، وكذلكَ حَصَلَ لكثيرينَ من هذه الأمّةِ بعدَ ذلك من رفاعيّةٍ وقادريّةٍ وغيرِهم. كلُّ هذا فيه دلائل على أنَّ الأسبابَ لا تخلقُ مسبّباتها فالدّواء لا يخلقُ الشّفاءَ كم من مرضى يأخذونَ دواءً لعلّةٍ واحدةٍ فهذا يتعافى والآخر لا يتعافى، وقد قالَ أحدُ شعراءِ الأندلسِ في القرنِ السّابعِ الهجري واسمه يعقوب بن جابر المنجنيقيّ:
قُل لمن يدَّعي الفَخَارَ دَع الفَخـ ***** رَ لذي الكبرياءِ والجبروتِ
نسج داودَ لم يُفِد ليلةَ الغَا ***** رِ وكانَ الفخارُ للعنكبوتِ
وبقاءُ السَّمَندِ في لهبِ النَّا ***** رِ مزيل فضيلةَ اليَاقوتِ
وكذاكَ النّعامُ يلتقِمُ الجَمـ ***** رَ وما الجمرُ للنَّعامِ بقُوتِ
معناه قل للمتفاخر المتبجّح اترك الكبرياء والفضل لله تعالى، الله تعالى هو يفضل بعض خلقه على بعض، الفخر يأتي بمعنى الفضل والفخارُ كذلك.
والكبرياء معناه قريب من معنى العظمة ليس عين العظمة.
ونسجُ داودَ عليه السلام هو دروع الحديدِ، الله ألانَ له الحديدَ فكان يصنعُ بيديهِ دروعَ الحديدِ، وليلة الغار أي ليلة كانَ النبيّ مع صاحبهِ أبي بكرٍ في الغارِ ولحقَ بهما المشركون.
وأمّا السَّمَندُ فهو حيوانٌ يَدخُلُ النَّارَ ينام فيها فلا تؤثّرُ فيه وكانوا إذا أرادوا تنظيفَ جلدِهِ رموه في النارِ فيحترقُ ما سواهُ، وهو حيوانٌ نادرُ الوجودِ كان يوجدُ منه في بلادِ الصّينِ. ومعناهُ أنَّ الياقوتَ حجرٌ فلا يعجب الإنسان إذا لم تؤثّر فيه النارُ كما يعجب من عدمِ تأثيرها في السّمندلِ الذي هو من لحمٍ ودمٍ، كذلك ذَكَرَ كيف تأكل النعام الجمر الأحمر وتستمرئه مع أنَّ النّعامَ من لحمٍ ودمٍ، فسبحانَ القدير على كلّ شىءٍ.
ثمّ إنَّ هذه القصّة التي حصلت لهذه المرأة أيضًا فيها دلالةٌ على أنّ الشّهداءَ لهم حياةٌ برزخيّةٌ أي في مدّةِ القبرِ إلى قيامِ السّاعةِ، أبدانُهم لها حياةٌ وإن كان الذي ينظرُ إليها كهيئةِ جسمِ شخصٍ نائمٍ لكن هي فيها حياة، الشّهيدُ لما يُفتَحُ قبرُهُ فيُنظَرُ إليه يُرى كهيئةِ رجلٍ نائم، مع ذلك نحنُ نقولُ فيه حياةٌ، روحُهُ التي في الجنّةِ متّصلةٌ بِهِ ويحسُّ بلذّةِ الطّعامِ والشّرابِ الذي يأكلهُ الرّوحُ في الجنّةِ، يصلُ إليه فيظلُّ فيه دمٌ، لو بعدَ ألف سنة جُرِحَ يطلع منهُ دمٌ.
هذا إن كانت عقيدتُهُ صحيحةً ونيّتهُ صحيحةً فقاتلَ الكفَّارَ فقتلوهُ، أمّا إذا كانت العقيدة فاسدةً يكون كغيره، بعد نحو ثلاثة أيّامٍ ينتفخُ ويطلعُ من أنفِهِ سائل، رطوبة كريهة منتنة ثم يأكلهُ التّرابُ، وكذلك يحصُلُ لمن كانت نيتُهُ فاسدةً لمن قاتلَ ليقولَ الناس عنه شجاعٌ، ليس تقرّبًا إلى الله فقط.

الشرح القويم
في حل ألفاظ الصراط المستقيم

قائمة الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم