في العقيدة الإسلامية كتاب الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم
الإيْمانُ بِعَذابِ القَبْرِ ونَعِيمِه وسُؤَالِهِ

الإيْمانُ بِعَذابِ القَبْرِ ونَعِيمِه وسُؤَالِهِ

الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم

الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم قال المؤلف رحمه الله: الإيْمانُ بِعَذابِ القَبْرِ ونَعِيمِه وسُؤَالِهِ
قال الله تعالى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [سورة غافر/46].
الشرح: يُخبِرُ الله تبارك وتعالى أنَّ ءالَ فرعونَ أي أتباعهُ الذين اتّبعوهُ على الكفرِ والشّركِ يُعرضونَ على النّارِ في البرزخِ أي في مدّةِ القبرِ، والبرزخُ ما بين الموتِ إلى البعثِ، يُعرضونَ على النّارِ عَرضًا من غير أن يدخلوها حتّى يمتلئوا رُعبًا، أوّل النّهارِ مرّةً وءاخر النّهارِ مرّةً. ووقتُ الغَداةِ من الصّبحِ إلى الضُّحَى، وأمّا العشيّ فهو وقتُ العَصر ءاخرَ النّهارِ، ﴿وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ﴾ (46) أي يقالُ للملائكةِ أدخلوا ءالَ فرعونَ أشدَّ العذابِ، ءالُ فرعون هم الذين عَبَدوه واتّبعوهُ في أحكامِهِ الجائرةِ، ليس معناهُ أقاربه.
ومن جملةِ عذابِ القبرِ ضغطةُ القبرِ حتى تختَلِفَ الأضلاعُ وهذا للكفارِ وبعضِ أهلِ الكبائرِ من المسلمين كمن لا يتجنبُ البولَ وليست الضغطة لكل صغيرٍ وكبيرٍ كما قالَ به بعضُ العلماءِ. وأمّا المؤمنُ التّقيُّ فهو في نعيمٍ أينما دُفِنَ ولو دُفِنَ وسطَ الكفّارِ وقد يُسَخّرُ الله له من الملائكةِ من ينقلُهُ من المكانِ الذي هوَ فيه إلى المكانِ الذي يُحِبُّ أن يُدفَنَ فيهِ.
قال المؤلف رحمه الله: وقَالَ تَعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾ [سورة طه/124].
الشرح: أنّ الكفّارَ الذين أعرضوا عن الإيمانِ بالله تعالى إذا ماتوا يتعذَّبونَ في قبورِهم وهذا هو المرادُ بـ ﴿مَعِيشَةً ضَنكًا﴾ (124) أي المعيشة الضّيّقة، وليسَ المرادُ بـ ﴿مَعِيشَةً ضَنكًا﴾ (124) معيشة قبل الموتِ إنّما المرادُ حالهم في البرزخِ.
ففي هاتينِ الآيتينِ إثباتُ عذابِ القبرِ، الأولى صريحةٌ وأمّا الثّانيةُ فقد عُرِفَ كونُ المرادِ بها عذاب القبرِ من الحديثِ المرفوعِ إلى النّبي هو فَسَّرَ هذه الآية: ﴿مَعِيشَةً ضَنكًا﴾ (124) بعذابِ القبرِ. رواه ابن حبّانَ وغيرُه. وفي هذا دليلٌ على أن الميتَ في القبرِ بعدَ عودِ الروحِ إليه يكونُ له إحساسٌ بالعذابِ إن كانَ من المعذّبين للكفرِ أو للمعاصي.
قال المؤلف رحمه الله: فَهاتانِ الآيتانِ وارِدَتانِ في عَذابِ القَبْرِ للكُفَّار، وأمّا عُصَاةُ المسْلمينَ من أهْلِ الكَبائرِ الذينَ ماتُوا قبلَ التّوبَةِ فهُم صِنْفانِ: صِنْفٌ يُعْفِيهِمُ الله من عذَابِ القَبْرِ وصِنفٌ يُعَذّبُهمْ ثمَّ يَنقطِعُ عَنهُم ويُؤخّرُ لهم بقيَّةَ عذابِهم إلى الآخرةِ.
الشرح: لِيُعلَم أنّه لا يُقالُ إن الميّتَ إذا كانَ يُرَى في القبرِ في هيئةِ النّائمِ ولا يُرَى عليه شىءٌ من الاضطراباتِ ولا يصرخُ فإذًا هو ليسَ في عذابٍ إلا أن يكونَ روحهُ بلا جسمهِ معذّبةً فقد قالَ بعضُ الفقهاءِ: "عدمُ الوِجدانِ لا يستلزِمُ عَدَمَ الوجودِ" معناه عدم الاطلاع على الشىء لا يستلزم عدم وجود ذلك الشىء، فإذا نحنُ لم نَرَ الشىءَ بأعينِنَا فليس معناهُ أنَّ هذا الشّىء ليسَ موجودًا، فكثيرٌ من الأمورِ أخفَاهَا الله عنّا وبعضُها يَكشِفُهَا الله لبعضِ عبادِهِ.
قال المؤلف رحمه الله: فَقد رَوى البُخاريُّ ومُسْلمٌ والترمذيُّ وأبو دَاودَ والنَّسائيُّ عن ابنِ عَبّاسٍ مَرَّ رسُولُ الله على قَبرينِ فَقالَ: إنَّهُما ليُعَذَّبانِ ومَا يُعذَّبانِ في كَبيرِ إثْم، قال: بَلَى، أمَّا أحَدُهُما فكانَ يمْشِي بالنّمِيمةِ، وأمَّا الآخرُ فكَانَ لا يَسْتَتِرُ من البَوْلِ، ثمّ دَعا بعَسِيْبٍ رَطْبٍ فشَقَّهُ اثنينِ فغَرسَ على هذا واحدًا وعلى هَذا واحدًا، ثمَّ قالَ: "لعَلَّهُ يُخَفَّفُ عنهما".
الشرح: هذا الحديثُ حجّةٌ بعد كتابِ الله على إثباتِ عذابِ القبرِ، الرسولُ مرَّ على قبرينِ فقال: "إنّهما لَيُعذَّبانِ وما يعذّبانِ في كبيرِ إثمٍ" ثمّ قال: "بلى"، أي بحسبِ الظّاهرِ بحسبِ ما يَرَى النّاس ليسَ ذنبهما شيئًا كبيرًا لكنّه في الحقيقةِ ذنبٌ كبيرٌ لذلك قال: "بلى"، "أمّا أحدُهما فكانَ يمشي بالنّميمةِ" وهي نقلُ الكلام بين اثنينِ للإفسادِ بينهما يقولُ لهذا فلانٌ قالَ عنكَ كذا ويقولُ للآخرِ فلانٌ قالَ عنكَ كذا لِيُوقِعَ بينهما الشحناءَ، "وأمّا الآخرُ فكان لا يستترُ من البولِ" أي كانَ يتلوّثُ بالبولِ، وهذا من الكبائرِ، فقد قالَ عليه الصلاةُ والسّلام: "استنزهوا من البولِ فإنّ عامَّةَ عذابِ القبرِ منه" رواه الدارقطني من حديث أبي هريرة، معناه تحفّظوا من البولِ لئلا يُلوّثَكُم، معناهُ لا تُلوّثوا ثيابَكُم وجلدَكُم بهِ لأنَّ أكثر عذاب القبرِ منهُ.
هذانِ الأمرانِ بحسبِ ما يراهُ النّاسُ ليس ذنبًا كبيرًا لكنّهما في الحقيقةِ عندَ الله ذنبٌ كبيرٌ، فالرسولُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ رءاهما بحالةٍ شديدةٍ وأنّهما يعذّبانِ، وليسَ من شرطِ العذابِ أن تمسَّ النارُ جسدَهُ، الله جَعَلَ عذابًا كثيرًا غير النّارِ في القبرِ. الرّسولُ رأى ذلك وبعضُ المؤمنينَ الصالحينَ يَرَون عذابَ القبرِ ويرونَ النّعيمَ، الله يكاشِفهم، الشيخُ محمدُ ابن عبد السّلامِ كانَ يمرُّ بقبرِ عالمٍ تقيّ صالحٍ يقفُ عليه ويقول: إنّهُ في نعيمٍ عظيمٍ، يراهُ يكاشفُه الله، يَرى موضعَ قبرِهِ أنّه منوّرٌ وأنّه موسَّعٌ وأنّه مملوءٌ خضرةً وغير ذلك. وأمّا الدّلائلُ أنّ المقبورَ إن كانَ من أهلِ التَّقوى يكونُ في نعيمٍ فالشَّوَاهِدُ والأدلَّةُ على ذلكَ كثيرةٌ.
قال المؤلف رحمه الله: واعلَم أنَّه ثَبَتَ في الأَخْبارِ الصَّحيحةِ عَودُ الرُّوحِ إلى الجسَدِ في القَبْرِ كحدِيْثِ البَراءِ بنِ عازِبٍ الذي رواهُ الحاكمُ والبَيهقيُّ وأَبُو عُوَانَةَ وصَحَّحهُ غَيْرُ وَاحدٍ، وحديثِ ابنِ عبّاسٍ مَرفُوعًا: "مَا مِن أحَدٍ يَمُرُّ بقَبْرِ أخِيهِ المؤمنِ كَانَ يَعْرفهُ في الدُّنيا فَيُسَلّمُ علَيه إلا عَرَفَهُ وَردَّ عليهِ السَّلامَ". رواهُ ابنُ عبدِ البَرّ وعبدُ الحقّ الإشْبِيليُّ وصَحَّحهُ.
الشرح: نحنُ نؤمِنُ بما وَرَدَ في هذا الحديثِ ولو لم نكن نَسمَعُ ردَّ السَّلامِ من الميتِ لأنَّ الله حَجَبَ عنَّا ذلكَ، وحديثُ البراءِ بن عازبٍ حديثٌ طويلٌ فيه: "ويُعَادُ الروحُ إلى جَسَدِهِ"، أما حديثُ ابن عباس رواهُ ابنُ عبد البرّ في التمهيدِ والاستذكارِ وصَحَّحَهُ الحافظ عبدُ الحقّ في كتابه العاقِبَةِ.
قال المؤلف رحمه الله: فيَسْتَلزِمُ ذلكَ رجُوعَ الرُّوحِ إلى البَدنِ كلّهِ وذلك ظاهِرُ الحديثِ أو إلى بعضِهِ. ويتأَكَّدُ عَودُ الحياةِ في القَبْرِ إلى الجسَدِ مَزيدَ تأكُّدٍ في حقّ الأنبياءِ، فإنّه ورَدَ منْ حديثِ أنَسٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "الأَنْبياءُ أحْياءٌ في قبُورهم يُصَلُّونَ" صَحَّحهُ البيهقيُّ وأقرَّهُ الحافِظُ.
الشرح: عودُ الرُّوح إلى الجسدِ ثابتٌ في حقّ كلّ الأشخاصِ الصّالحينَ والطّالحينَ، وأمّا في حَقّ الأنبياءِ فأقوَى، فقد صحَّ حديث: "الأنبياءُ أحياءٌ في قبورِهم يُصلّونَ" هذا ثابتٌ لكلّ نبيّ، وأمَّا غيرهم من الصّالحينَ قد يحصُلُ لبعضِهم لكنّه ليس عامًّا، كما حَصَلَ للتّابعيّ الجليلِ ثابتٍ البنانيّ فقد شُوهِدَ في قبرِهِ بعد موتِهِ وهو يُصَلّي.
وقال ابن رجب في كتابه أهوال القبور: "روى أبو نعيم بإسناده عن محمدِ بن عبدِ الله الأنصاري قال حدثني إبراهيمُ بن الصِّمَّةِ المُهَلَّبي قال: حدثني الذين كانوا يمرونَ بالجِصّ بالأسحارِ قالوا: كنَّا إذا مَرَرنا بجَنَبَاتِ قبرِ ثابتٍ البناني رضي الله عنه سمعنا قراءةَ القرءانِ.
وبإسنادهِ عن سيّار بن حسن عن أبيه قال: أنا والذي لا إله إلا هو أَدخَلتُ ثابتًا البنانيَّ لحدهُ ومعي حُمَيدٌ ورجلٌ غيرُهُ فلمَّا سَوَّينا عليهِ اللّبِنَ سقطت لبنةٌ فنزلت فأخذتها من قبره فإذا به يصلّي في قبرِهِ، فقلت للذي معي: ألا تراه؟، قال: اسكُت، فلمَّا سوَّينا عليه الترابَ وفَرَغنا أتينا ابنته فقلنا لها: ما كانَ عملُ ثابت، قالت: وما رأيتم، فأخبرنَاها، فقالت: كانَ يقومُ الليلَ خمسينَ سنةً فإذا كانَ السَّحَرُ قال في دعائه: اللهم إن كنتَ أعطيت أحدًا من خَلْقِكَ الصلاةَ في قبرِهِ فأعطنيها، فما كانَ الله ليردَّ ذلكَ الدعاء" اهـ.
وروى أيضًا عن سالم بن عبد الله بن عمرَ عن أبيه قال: "خرجتُ أسيرُ وحدي فمررتُ بقبورٍ من قبورِ الجاهليةِ فإذا رجلٌ قد خَرَجَ عليَّ من قبرٍ منها يلتهبُ نارًا وفي عنقِهِ سلسلةٌ من نارٍ ومعي إداوة من ماءٍ فلما رءاني قال: يا عبد الله اسقني، يا عبد الله صُبَّ عليَّ، قال: فوالله ما أدري أَعَرَفني أو كلمة تقولها العَرَبُ أي لأن العرب كان من عادتهم أن يقولوا لمن لا يعرفونه يا عبد الله أو يا أخا العرب، إذ خَرَجَ رجلٌ من القبرِ وقال: يا عبدَ الله لا تَسقِهِ فإنَّهُ كافرٌ قال: فأخذَ السّلسلةَ فاجتذبَهُ حتى أدخلَهُ القبرَ، قال: وءاوانيَ الليلُ إلى منزلِ عجوزٍ إلى جانبِ بيتِها قبرٌ وقال: سمعتُ هاتفًا يهتفُ بالليلِ يقول: بولٌ وما بولٌ شَنٌّ وما شَنٌّ فقلت للعجوز: ويحكِ ما هذا فقالت: زوجٌ لي وكانَ لا يتنزَّهُ من البولِ فأقولُ لهُ ويحكَ إنَّ البعيرَ إذا بالَ تفاجَّ - أي باعد ما بين رجليه - فكان لا يبالي قالت: وبينما هو جالسٌ إذ جاءَهُ رجلٌ فقال: اسقني فإنّي عطشان قال: عندكَ الشّنُّ وشَنٌّ لنا معلَّقٌ فقال: يا هذا اسقني فإني عطشان الساعةَ أموتُ، قال: عندكَ الشنُّ قالت: ووقع الرَّجُلُ ميّتًا، قالت: فهوَ ينادي من يوم ماتَ "بول وما بول شن وما شن"، قال: فلما قَدِمتُ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أخبرتُهُ بما رأيتُ في سفري فَنَهَى عندَ ذلكَ أن يسافِرَ الرجلُ وحدَهُ" اهـ.
فصل: وأمّا ما شُوهِدَ من نعيمِ القبرِ وكرامَةِ أهلِهِ فكثيرٌ أيضًا وقد سَبَقَ في البابِ الأولِ والرَّابعِ بعضُ ذلك، وروى ابن أبي الدنيا في كتابِ الرّقَّةِ والبكاءِ بإسنادهِ عن مسكينِ بن مكين أن ورَّاد العجليَّ لما مَاتَ فَحُمِلَ إلى حفرتِهِ نزلوا ليدفنوهُ في حفرتِهِ فإذا اللّحدُ مفروشٌ بالريحان فأخذَ بعضُهم من ذلك الريحان فمكثَ سبعينَ يومًا طريًّا لا يتغيَّرُ يغدو الناسُ ويروحونَ ينظرونَ إليه، فأكثرَ الناسُ في ذلكَ فأخذهُ الأميرُ وفرّقَ الناسَ خشيةَ الفتنةِ فَفَقَدَهُ الأميرُ من منزلِهِ لا يدري كيف ذَهَبَ ا.هـ.
والكافرُ يقالُ له انظر إلى مقعدكَ من الجنةِ أبدَلَكَ الله به مقعدًا من النارِ فيراهُمَا جميعًا، ومعنى ذلك أن روحَهُ تُؤخَذُ إلى مكانٍ دونَ السماءِ الأولى فيرَى من هناكَ مثالَ مقعدِهِ أن لو كانَ ماتَ على الإيمانِ، وتؤخَذُ روحُهُ إلى مكانٍ قريبٍ من جهنَّمَ فيرَى مقعدَهُ في النارِ.
قال المؤلف رحمه الله: ورَوَى البُخَاريُّ ومُسْلِمٌ عن أنَسٍ عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنَّ العَبْدَ إذَا وُضِعَ في قَبْرِه وتَوَلَّى عَنْهُ أصْحابهُ وإنَّه لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهم إذَا انْصَرَفُوا أتَاهُ مَلَكانِ فيُقْعِدَانِه فيقولانِ: ما كنْتَ تَقُولُ في هَذا الرَّجُلِ محمَّدٍ؟ فأمَّا المؤمنُ - أي الكاملُ - فيقولُ: أشْهَدُ أنَّه عَبْدُ الله ورَسُولُهُ، فَيُقالُ لهُ: انْظُرْ إلى مَقْعَدِكَ من النَّارِ أبدَلَكَ الله به مَقْعَدًا من الجنَّةِ فَيراهُمَا جَميعًا. وأمَّا الكَافِرُ أو المنافِقُ فيَقُول: لا أدْرِي كنتُ أقولُ ما يقولُ النَّاسُ فيه، فيُقالُ: لا دَرَيْتَ ولا تَلَيْتَ، ثمّ يُضرَبُ بمِطرقةٍ من حَدِيْدٍ بينَ أذُنَيْه فيَصِيحُ صَيْحةً يَسْمَعُها مَنْ يليهِ إلا الثَّقَلَينِ".
الشرح: أنَّه تؤخذُ روحُهُ إلى مكانٍ يَنْظُرُ مِنهُ إلى جهَنَّمَ فيَرى مَقْعَدَه في النَّارِ لو كانَ ماتَ على الكفْرِ، وتؤخَذُ روحُهُ إلى مكانٍ قربَ الجنّةِ فيَرى مَقْعَدَهُ الذي يَتَبوَّؤُه في الآخِرَةِ فيَعْرِفُ فَضْلَ الإسْلامِ حينَ ذلكَ معرِفةً عِيانِيّةً كما كانَ يَعْرفُ في الدُّنْيا مَعْرِفةً قَلْبِيَّةً.
ومعنى: "لا دريتَ ولا تليتَ" أي لا عرفْتَ، وإنَّما قيلَ ولا تلَيتَ لتأكيدِ المعنَى لأنّ المعنَى واحدٌ كما تَقولُ العربُ حسنٌ بسنٌ والمعنَى واحدٌ وإنما يُقالُ ذلكَ لتأكيدِ المعنَى ثم إنَّ منكرًا ونكيرًا يضربانِهِ بهذه المطرقةِ ضربةً لو ضُرِبَ بها الجبلُ لاندكَّ، فيصيحُ صيحةً يسمعُهَا من يليهِ من بهائمَ وطيورٍ إلا الإنس والجنّ فإنَّ الله حَجَبَ عنهم ذلك.
ولفظُ الإشارةِ المذكورُ في هذا الحديثِ في قوله: "ما كنت تقولُ في هذا الرجل محمّدٍ" ليس المعنى أنّهُ في تلكَ السّاعةِ يكونُ ظاهرًا مرئيًّا مشاهدًا، وإنّما هذه الإشارةُ تسمَّى إشارةً للمعهودِ الذّهنيّ.
قال المؤلف رحمه الله: وعَن عَبدِ الله بنِ عَمْرو أنَّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم ذكَرَ فَتّاني القَبْرِ فقالَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رضيَ الله عنهُ: أتُرَدُّ علينا عقُولُنا يا رسُولَ الله، قال: "نَعم كهَيئتِكُمُ اليَومَ"، قال: فبفِيهِ الحجَرُ.
الشرح: الفتَّانُ هو الممتحنُ منكرٌ ونكيرٌ سمّيا بذلكَ لأنّهما يمتحنانِ النّاسَ. منكرٌ معناه هذه الهيئة غير معروفة هيئتهما تختلف عن سائر الملائكة وعن الإنس والجن. هذا معنى منكر وليس معناه باطل قال تعالى: ﴿قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ﴾ [سورة الذاريات/25] وسؤالُ القبرِ خاصٌّ بأمّةِ محمدٍ لم يكن قبلَ سيّدنا محمّدٍ أن يُسألَ الميّتُ ماذا تقولُ في موسى، ماذا تقول في عيسى، وإنّما هذا زيادةٌ في شرعِ محمدٍ.
وقوله: "أتردُّ علينا عقولُنَا" يعني عند السُّؤالِ، فقال له الرسول: "نعم كهيئتكُم اليومَ"، أي يكونُ الجوابُ من الجسمِ مع الرّوحِ، فقال: "فبفيهِ الحَجَرُ"، أي ذاكَ الخبرُ الذي لم أكن أعرِفهُ وسكتَ وانقطعَ عن الكلامِ، معناهُ ليس له حجّةٌ على ما كانَ يظنُّ، هو كانَ يظنُّ أنّه لا تردُّ عليهم عقولهم فلمَّا قالَ له الرّسولُ بأنّه تردُّ عليهم عقولهم عَرفَ خطأَ ظنّهِ.
قال المؤلف رحمه الله: وعَن أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قُبِرَ الميّتُ أو الإنْسانُ أتَاهُ مَلَكانِ أسْوَدانِ أزْرَقانِ يُقالُ لأحدِهِما مُنْكَرٌ وللآخَرِ نكِيرٌ فيَقولانِ لهُ: ما كنتَ تقُولُ في هذَا الرَّجُلِ محمَّدٍ؟ فَهوَ قائلٌ ما كَانَ يقُولُ. فَإنْ كَانَ مؤْمِنًا قَالَ: هُو عَبدُ الله ورسُولُه أشْهدُ أن لا إلهَ إلا الله وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُه فيَقُولانِ لَهُ: إنْ كنَّا لنَعْلَمُ أنَّكَ لتَقُولُ ذَلكَ، ثمَّ يُفسَحُ لهُ في قَبْرِه سَبْعينَ ذِراعًا في سَبْعينَ ذِراعًا ويُنَوَّرُ لَهُ فيهِ، فَيُقالُ لَهُ: نَمْ، فينَامُ كنَومِ العَرُوسِ الذي لا يُوقِظُه إلا أحَبُّ أهْلِه حتَّى يَبْعثَهُ الله من مَضْجَعِه ذَلكَ.
الشرح: بعدما يدفَنُ الإنسانُ يأتيه ملكانِ أسودانِ أزرقانِ أي لونهما ليسَ من السَّوادِ الخالصِ بل من الأسودِ الممزوجِ بالزُّرقَةِ وهذا يكونُ أخوف ما يكونُ من الألوانِ، حتّى يفزع الكافرُ منهما، أمّا المؤمنُ التَّقيُّ لا يخافُ منهما الله تعالى يثبّتهُ، يلهمهُ الثباتَ، وهما لا ينظرانِ إليه نظرةَ غَضَبٍ، أمّا الكافر يرتاعُ منهما.
وقد سُمّيا منكرًا ونكيرًا لأنّ الذي يراهُمَا يفزعُ منهما، وهما اثنانِ أو يكون هناكَ جماعة كلُّ واحدٍ منهم يسمَّى منكرًا وجماعةٌ كلُّ واحدٍ منهم اسمه نكيرٌ فيأتي إلى كلّ ميّتٍ اثنان منهم أحدُهما من هذا الفريقِ والآخرُ من ذاك الفريق، ويحتَمِلُ أن يعطيَ الله لهؤلاءِ أشباحًا فيحضران إلى كلّ ميّتٍ بشبحينِ إمَّا بالشَّبحِ الأصليّ وإمَّا بالشَّبحِ الفرعيّ، وكذلك عزرائيلُ يحتَمِلُ أنّه يتطوَّرُ إلى أشباحٍ كثيرةٍ ويقبضُ هذه الأرواحَ الكثيرةَ، ولو كان في اليومِ الواحدِ وفي السّاعةِ الواحدةِ أرادَ أن يقبِضَ مائة ألفِ نفسٍ يستطيعُ أن يحضرَ ويقبضَ هؤلاءِ الأرواحَ، ثم يتناولُ منهُ الملائكةُ إمَّا ملائكةُ الرحمةِ وإمَّا ملائكةُ العذابِ، ملائكةُ الرحمةِ منظرُهُم جميلٌ أمّا ملائكةُ العذابِ منظرُهُم مخيفٌ، فلا يتركونَ الروحَ في يدِ عزرائيلَ بعدما يقبضها طرفةَ عينٍ، يذهبونَ بها إلى السماءِ إن كانت الروحُ مؤمنةً، وإن كانت كافرةً فإلى الأرضِ السّابعةِ إلى سِجّين.
ففي الحديث أن منكرًا ونكيرًا يقولان للمقبورِ: "ما كنتَ تقولُ في هذا الرجلِ" أي محمّدٍ صلى الله عليه وسلم، يسمّيان الرسولَ باسمه وليسَ الرّسولُ شاهدًا حاضرًا للسؤالِ. بعضُ أهلِ الغُلو يدّعونَ أنَّ الرسولَ بذاتِهِ يحضُرُ يكون شاهدًا، هذا لا أساسَ له، إنما هي إشارةٌ إلى المعهودِ ذِهنًا. فيقولُ الرّجلُ ما كانَ يقولُهُ قبلَ الموتِ، المسلمُ قبلَ الموتِ كانَ يقولُ عبدُ الله ورسولُهُ فيقولُ ذلكَ ويَقرِنُهُ بالشّهادةِ يقول: أشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وأشهدُ أنّ محمّدًا رسولُ الله، الله تعالى يلهمهُ ويقدرهُ على الجوابِ، كلُّ مسلمٍ يجيبُ بذلكَ، إنّما الذي لا يستطيعُ الجوابَ هو الذي يُنكِرُ ويجزمُ بنفي رسالةِ سيّدنا محمّدٍ، الكافرُ المُعلِنُ والمنافِقُ كلاهما يقولانِ: كنتُ أقولُ ما يقولُ الناسُ.
ثم إن المؤمنَ التقيَّ يوسَّعُ قبرُهُ سبعينَ ذراعًا طولا في سبعين ذراعًا عرضًا وذلك بذراعِ اليد وهي شبران تقريبًا، وبعضُهُم أكثر من ذلكَ كما حَصَلَ للعلاء بِن الحضرميّ الصحابيِ الجليلِ الذي كان من أكابرِ الأولياءِ، فإنه اتسعَ قبرُهُ مدَّ البصرِ شاهدوا ذلكَ لما نبشوا القبرَ ليدفنوهُ في مكانٍ ءاخرَ لأن المكانَ الذي دفنوه به كثيرُ السباعِ. وينوَّرُ قبره أي المؤمن التقي ويفتَحُ لهُ في قبرِهِ بابٌ إلى الجنّةِ فيأتيه نَسيمُهَا، ويُملأ عليهِ خَضِرًا أي يوضَعُ في قبرِهِ من نباتِ الجنّةِ الأخضرِ، وهذا كلُّهُ حقيقيٌّ ليسَ وهمًا لكنَّ الله يحجُبُ ذلكَ عن أبصارِ النّاسِ أي أكثرهم أمّا أهلُ الخصوصيَّةِ من عبادِ الله الكاملينَ فيشاهدونَ. والحكمةُ في إخفاءِ الله حقائق أمور القبرِ وأمورِ الآخرةِ ليكونَ إيمانُ العبادِ إيمانًا بالغيبِ فَيَعْظُمَ ثوابُهُ. ثمَّ إن المؤمنَ التَّقيَّ يُقال لهُ: نَم، فينامُ كنومِ العروسِ الذي لا يوقظهُ إلا أحبّ أهلِهِ إليهِ، أي لا يحسُّ بقلقٍ ولا وَحشةٍ، أمَّا الآن الناسُ يخافونَ من الموتِ، لكن في تلكَ السّاعةِ لا يخافونَ لأنَّ الله ءامنهم من الخوفِ. وقد ورد في الأثر أن المؤمن أي الكامل يقول له الملائكة السلام عليك يا وليّ الله فلا يبقى بعد ذلك فيه خوف من الموت والقبر.
قال المؤلف رحمه الله: فإن كانَ مُنافقًا قالَ: لا أدْري، كنتُ أسْمَعُ الناسَ يقولونَ شَيئًا فكنتُ أقولُهُ، فيَقُولانِ لهُ: إنْ كنَّا لنعلمُ أنّكَ تَقُولُ ذلكَ، ثُم يُقالُ للأَرْضِ التَئِمي فتَلْتَئمُ عليه حتَّى تَخْتلفَ أضْلاعُهُ فلا يَزَالُ مُعَذَّبًا حَتّى يبْعثَهُ الله تعالى من مَضجَعِهِ ذلكَ".
الشرح: سؤالُ الملكينِ للكافرِ "من رَبُّكَ" وهما يعلمانِ أنّه سيقولُ لا أدري لأنّهما يعرفانِ أنّه لا يقولها عن اعتقادٍ إنّما يقولها عن دَهشةٍ، يقولُها عن سبقِ لسانٍ من شدّةِ الفَزَعِ من غيرِ ضبطِ لسانِهِ ولا يعتقد ذلك إنما يخبر عما مضى له في الدنيا. بعض الناس يستشكلون يقولون إذا كان لا يجوز أن يقال للكافر ما دينك مع العلم بأنه سيجيب أنا يهوديّ أو مجوسي فكيف يجوز للملكين في القبر أن يسألا الكافر وهما يعلمان أنه سيجيب لا أدري. فالجواب: أنه يجيب مخبرًا عما كان يعتقده في الماضي قبل الموت من غير أن يعتقد الآن أنه حق وبهذا زال الإشكال.
وقولُهما "إن كُنَّا لَنَعلَمُ" معناهُ قد كُنَّا نَعلَمُ، "إن" هذه تُسمَّى مُخَفَّفَةً من الثقيلةِ أي المشددة، يقالُ في اللغة: "إن كنتُ أعلمُ كذا وكذا" أي قد كُنتُ أعلمُ كذا وكذا، هذه أصلها إنَّ ولكن خُفّفَت بتركِ الشَّدَّةِ، والتقديرُ أنَّهُ كنّا نعلمُ ذلكَ، وهذه اللامُ تسمَّى لام التَّوكيدِ أي أنَّنا كنَّا قبلَ أن تجيبَ أنَّك كنتَ على هذا الاعتقاد نعلمُ بذلكَ. والمنافقُ هو الذي يُبطِنُ الكفرَ ويتظاهَرُ بالإسلامِ كعبدِ الله بن أبيّ فإنهُ مع ما ظهرَ منه من النفاقِ كان يتشهدُ ويصلي خلفَ الرسولِ ولما سُئِلَ أنتَ قلتَ كذا أي ليخرجنَّ الأعز منها الأذلّ أنكرَ قال لم أقل، ومرادُهُ بالأعزِ نفسهُ، وبالأذلِ الرسولُ، لكن الرسولَ كان يُجري عليهِ أحكامَ المسلم لأنه لم يَعترف بل بَقِيَ متظاهرًا بالإسلامِ فكان الرسولُ يُجري عليه في الظاهرِ أحكامَ المسلم، وعندما ماتَ ظَنَّ الرسولُ أنه زَالَ عنهُ النفاقُ وبناءً على هذا الظن صَلَّى عليهِ، هذا هو الصوابُ كما قالَ الحافظُ ابنُ حجر وغيرُه، وأما من قالَ إن الرسولَ كانَ يعلَمُ أنهُ بَعدُ منافقٌ كافرٌ ثم صلى عليهِ فقد جَعَلَ الرسولَ متلاعبًا بالدين، جعلَهُ كأنهُ يقولُ في صلاتِهِ عليه اللهم اغفر لمن لا تَغفِرُ لهُ وذلك كفر.
ثم يقالُ للأرضِ التئمي عليه فيضيقُ عليه القبرُ حتّى تتشابَكَ أضلاعُهُ، ثم هذا العبدُ لا يزالُ معذَّبا بهذا العذابِ حتّى يبعثهُ الله، ثم بعدَ أن يُبعَثَ يعذّب بأشياء غير التي كانَ يعذَّبُ بها وهو في القبرِ ثم بعدَ دخولِهِ النّار يكونُ أشدّ وأشدّ.
قال المؤلف رحمه الله: والحدِيْثانِ رَواهُما ابن حِبَّانَ وصحَّحَهُما، ففي الأوَّلِ منهُما إثْباتُ عَوْدِ الرُّوحِ إلى الجسَدِ في القَبْرِ والإحْسَاسِ، وفي الثَّاني إثْباتُ استِمْرارِ الرُّوحِ في القَبْرِ وإثْباتُ النَّومِ وذلكَ ما لم يَبْلَ الجسَدُ.
وهَذَا النَّعيمُ للمؤمنِ القَويّ وهوَ الذي يؤدّي الفرائِضَ ويَجتَنِبُ المعَاصيَ، وهوَ الذي قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فيه: "الدُّنْيا سِجْنُ المؤْمنِ وسَنَتُهُ فإذَا فَارقَ الدُّنيا فارَقَ السّجْنَ والسَّنَةَ"، حديثٌ صَحيحٌ أخرجَه ابنُ حِبَّانَ، يعني المؤمنَ الكَاملَ.
الشرح:قولُهُ عليه الصَّلاةُ والسلامُ: "سِجنُ المؤمِنِ" أي بالنّسبةِ لما يلقاهُ من النّعيمِ في الآخرةِ الدّنيا كالسّجنِ، وقوله "وسَنَتُهُ" أي دار جوعٍ وبلاءٍ.
وفي كتاب أهوال القبور: وفي كتابِ ابن أبي الدنيا خرّجَ لأبي القاسم إسحاق بن إبراهيم الخُتلي قال: سمعتُ عبيدَ الله بن محمد العبسيَّ يقول: حدَّثه عمرو بن مسلم عن رجلٍ حَفَّارِ القبورِ قال: حفرتُ قبرين وكنتُ في الثالثِ فاشتدَّ عليَّ الحرُّ فألقيتُ كسائي على ما حفرتُ واستظلَّيتُ فيهِ فبينما أنا كذلكَ إذ رأيتُ شخصين على فرسينِ أشهبَينِ فوقَعَا على القبرِ الأولِ فقال أحدُهما لصاحبِهِ: اكتب، فقال: ما أكتب، قال: فرسخٌ في فرسخٍ، ثم تحوَّلا إلى الآخرِ فقال: اكتب، قال: ما أكتب، قال: مَدّ البَصَرِ، ثم تحوَّلا إلى الآخرِ الذي أنا فيه قالَ: اكتب قالَ: ما أكتب، قال: فترٌ في فترٍ، فقعدتُ أنظرُ الجنائزَ فجيء برجلٍ معهُ نفرٌ يسيرٌ فوقفوا على القبرِ الأولِ قلت: ما هذا الرجلُ؟ قال إنسانٌ قرابٌ يعني سقاء ذو عيالٍ ولم يكن له شىءٌ فجمعنا لهُ فقلت: رُدوا الدراهمَ على عيالِهِ ودفنتُهُ، ثم أُتيَ بجنازةٍ ليسَ مَعَهَا إلا من يحملُهَا فسألوا عن القبرِ فجاؤوا إلى القبرِ الذي قالوا مدّ البصرِ قال: مَن هذا الرجلُ؟ قالوا: إنسانٌ غريبٌ ماتَ على مزبلةٍ لم يكن له شىءٌ فلم ءاخذْ منهم شيئًا وصليتُ عليه معهم، وقعدتُ أنتظرُ الثالثَ فلم أزل إلى العشاءِ فجيءَ بجنازةِ امرأةٍ لبعضِ الأمراءِ فسألتُهم الأجرةَ فضربوا رأسي وأَبَوا أن يعطوني ودفنوهَا في ذلك القبر. انتهى ما ذكره الحافظ أبو القاسم، والشخصان ملكانِ من الملائِكةِ.
قال المؤلف رحمه الله: ثُمَّ إذَا بَلِيَ الجسَدُ كُلُّه ولم يَبْقَ إلا عَجْبُ الذّنَبِ يكونُ رُوحُ المؤمِنِ التَّقيّ في الجنّةِ وتكونُ أرْوَاحُ عُصَاةِ المسلمينَ أهْلِ الكبَائِرِ الذينَ ماتُوا بلا تَوبةٍ بَعدَ بِلَى الجسَد فيما بَينَ السَّماءِ والأَرْضِ، وبعضهُم في السَّماءِ الأُولَى. وتكونُ أرْواحُ الكفَّارِ بعدَ بِلَى الجَسَدِ في سِجّينَ، وهو مكانٌ في الأَرْضِ السُّفْلى.
الشرح: عَجْبُ الذَّنَبِ لا يَبْلَى ولَو سُلّط عليه نَارٌ شَدِيدةٌ، وهوَ عَظْمٌ صَغيرٌ قَدرُ حَبَّةِ خَرْدَلَةٍ، وقَد ورَدَ في الصحيح: "مِنْه خُلِقَ الإنْسَانُ وعلَيه يُرَكَّبُ" أي أنَّ سائرَ العِظَامِ تُرَكَّبُ على هذا العَظْمِ الصَّغيرِ.
وأمَّا الذينَ لا تَبْلَى أجسَادهُم فَهُم الأنبياءُ وشُهداءُ المعركةِ وبعضُ الأَولياءِ.
قال المؤلف رحمه الله: وأَمَّا الشُّهداءُ فتَصعَدُ أرواحُهم فَورًا إلى الجنّةِ.
تَنبيهٌ: يُسْتَثْنَى من السُّؤالِ الأنْبياءُ والشُّهداءُ أي شهداءُ المعركة وكذَلِكَ الطِفْلُ أي الذي ماتَ دُونَ البُلوغِ.
الشرح: الشّهداءُ الذين ماتوا وهم يقاتلونَ في سبيل الله خصّهم الله بمزايا عديدةٍ منها أنهم لا تَبلى أجسادُهُم وتصعَدُ أرواحُهم فورًا إلى الجنّةِ، وقد وَرَدَ في الحديثِ الذي رواه مسلمٌ وغيرُه: "أرواحُهُم في جوفِ طَيرٍ خُضرٍ لها قناديلُ معلقةٌ بالعرشِ تسرحُ من الجنةِ حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل"، والمعنى أنهم قبلَ يوم القيامة يخلق الله لهم أجسادًا تكون بصورةِ طيورٍ وأرواحُهم تكون في حوصلةِ هذه الطيور يطيرونَ في الجنةِ ويأكلونَ من ثمارِها، أما يوم القيامةِ فكلّ واحدٍ منهم يأخُذُ متبوّأهُ الخاصّ، لا يدخلونَ في حواصلِ الطّيورِ التي في الجنةِ.
والأولياءُ والوليّاتُ بعدما يأكلُ الترابُ أجسادهم أرواحُهم تصعَدُ إلى الجنّةِ فتسرحُ في الجنةِ بشكلِ طائرٍ، ليس بشكلِ جسدِهِ الذي كانَ عليه في الدنيا، الروحُ يتشكَّلُ بشكل طائرٍ فيأكلُ من ثمارِ الجنّةِ ثم بعدَ البعثِ تعودُ الأرواحُ إلى أجسادِها ثم يدخلونَ الجنةَ ءامنينَ. وفي ذلكَ وَرَدَ الحديثُ: "إنما نسمة المؤمن طير يَعلق في شجر الجنة حتى يُرجعه الله إلى جسده يوم يَبعثه" رواه مالك، أرواحُهم بعد بِلَى أجسامِهم تكونُ في الجنةِ تأكلُ من أشجارِ الجنة لكن لا يتبوّؤنَ المكانَ الذي هُيّءَ لهم ليدخلوهُ في الآخرةِ، إنّما لهم مكانٌ ينطلقونَ فيه في الجنّةِ فيأكلونَ من أشجارِها ومن ثمارِها.

الشرح القويم
في حل ألفاظ الصراط المستقيم

قائمة الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم