في العقيدة الإسلامية كتاب الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم
الإرَادَةُ

الإرَادَةُ

الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم

الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم قال المؤلف رحمه الله: الإرَادَةُ
اعْلَم أنَّ الإرادَةَ وهي المشِيْئَةُ واجبةٌ لله تَعالَى، وهي صِفَةٌ أَزلِيَّةٌ أبَديَّةٌ يُخَصّصُ الله بهَا الجَائِزَ العَقْليَّ بالوجُودِ بدَلَ العدَمِ، وبِصفَةٍ دُوْنَ أُخرَى وبِوَقتٍ دُوْنَ ءاخرَ.
الشرح: أن الإرادةَ صفةٌ قديمةٌ قائمةٌ بذاتِ الله أي ثابتةٌ لذاتِهِ يُخَصّصُ بها الممكِنَ العقليَّ بصفةٍ دون صفةٍ لأن الممكناتِ العقليَّةَ كانت معدومةً ثم دخلت في الوجودِ لتخصيصِ الله تعالى لها بوجودِهَا، إذ كان في العقلِ جائزًا أن لا توجَدَ فوجودُها بتخصيصِ الله تعالى فلولا تخصيصُ الله تعالى لمَا وُجِدَ من الممكناتِ العقليّة شىءٌ، فَيُعْلَمُ من ذلك أن الله تعالى خَصَّصَ كلَّ شىءٍ دَخَلَ في الوجودِ بوجودِهِ بدلَ أن يبقى في العدمِ وبالصّفةِ التي عليها دون غيرها، فتخصيصُ الإنسانِ بصورتِهِ وشكلِهِ الذي هو قائمٌ بتخصيصِ الله تعالى، لأنه كانَ في العقل جائزًا أن يكون الإنسانُ على غيرِ هذه الصفة وهذا الشكل، ثم تخصيصُ الإنسان بوجوده في الوقتِ الذي وُجِدَ فيه دون ما قبله وما بعده هو من الله تعالى، لأنه لو شاءَ لَجَعَلَ الإنسانَ أوَّلَ العالَمِ لكن الله تبارك وتعالى ما جعلَهُ أوَّلَ مخلوقٍ بل جعلَهُ ءاخرَ الخَلقِ باعتبارِ نوعِ وجنسِ الموجوداتِ، خلق الله ءادمَ ءاخرَ ساعةٍ من يومِ الجمعة بعد خلق السمهبهوات والأرض والبهائم والأشجار ونحو ذلك.
فالحاصلُ أن المشيئة معناها تخصيصُ الممكن ببعضِ الصّفاتِ دونَ بعضٍ، فالواحدُ منا يعلم أنه ما أَوجَدَ نفسَهُ على هذا الشَّكل ولا هو أوجدَ نفسَهُ في هذا الزَّمن الذي وُجِدَ فيه فَوَجَبَ أن يكون ذلك بتخصيصِ مخصّصٍ وهو الموجودُ الأزليُّ المسمَّى الله، والبرهان النَّقليُّ على وجوبِ الإرادةِ لله كثيرٌ من ذلك قوله تعالى: ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ [سورة هود/107] أي أنه تبارك وتعالى يُوجِدُ ويفعَلُ المكوَّناتِ بإرادتهِ الأزليَّةِ.
قَالَ المُؤَلِّفُ رحمه الله: وبُرْهَانُ وُجُوبِ الإرَادَةِ لله أَنَّه لَوْ لَم يَكُن مُرِيدًا لَم يُوْجَدْ شَىءٌ مِنْ هَذَا العَالَمِ، لأَنَّ العَالَم مُمْكنُ الوُجُودِ فَوُجُودُهُ لَيْسَ وَاجِبًا لِذَاتِه عَقْلًا والعَالَمُ مَوْجُودٌ فَعَلِمْنَا أَنَّهُ مَا وُجِدَ إِلا بتَخْصِيصِ مُخصِّصٍ لوُجُودِهِ وتَرْجِيحه لَهُ على عَدَمِه، فثَبتَ أَنَّ الله مُرِيْدٌ شَاءٍ، ثُمَّ الإِرَادَةُ بِمَعْنَى المَشِيْئَةِ عِنْدَ أَهْلِ الحَقّ شَامِلَةٌ لأَعْمالِ العِبَادِ جَمِيعِها الخَيْرِ مِنْها والشَّرّ، فَكُلُّ مَا دَخَل في الوُجُود منْ أَعْمَالِ الشَّرّ والخَيْرِ ومِنْ كُفْرٍ أَو مَعَاصٍ أوْ طَاعَةٍ فَبمشِيئَةِ الله وقَعَ وحَصَلَ، وهَذا كَمالٌ في حَقّ الله تَعَالَى، لأَنَّ شُمُولَ القُدْرَةِ والمَشِيئَةِ لائِقٌ بجَلالِ الله، لأَنَّهُ لَو كانَ يَقَعُ في مُلْكِهِ مَا لا يَشَاءُ لَكانَ ذَلِكَ دَلِيلَ العَجْزِ والعَجْزُ مُسْتَحِيلٌ علَى الله. والمَشِيئَةُ تَابِعَةٌ للعِلْم أَي أَنَّهُ مَا عَلِمَ حُدُوْثَهُ فَقَدْ شَاءَ حُدُوْثَهُ وَمَا عَلِمَ أنَّه لا يكُونُ لَم يَشَأْ أنْ يكُونَ.
الشرح: أن الله شاءَ كلَّ ما يحصلُ من العباد من خيرٍ أو شرّ، فالله تعالى يحبُّ من أعمالِ العبادِ الحسناتِ ويكرهُ المعاصي وكلٌّ دَخَلَ في الوجودِ بتخصيصِ الله تعالى، لولا تخصيصُ الله تعالى للحسناتِ بالوجودِ ما وُجِدَت وكذلك الكفريَّاتُ والمعاصي لولا تخصيصُ الله تعالى لها بالوجود ما وُجِدَت. وليسَ خَلقُ القبيح قبيحًا من الله، وإرادةُ وجودِ القبيحِ ليس قبيحًا من الله، إنما القبيحُ فعلُهُ وإرادتُهُ من الخلق، كما أن خلق الله للخنزير ليس قبيحًا منه إنما الخنزير قبيحٌ لما فيه من الصفات القبيحةِ وكذلك خلق الله الفأرة وإرادته وجودها ليس قبيحًا من الله، وأما قوله تعالى: ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ (26) فليس معناه أنه خالق للخيرِ دون الشر إنما اقتُصِرَ على ذكرِ الخير هنا للاكتفاء بذكرهِ عن ذكرِ الشرّ لأنه استقرَّ في عقيدةِ المؤمنينَ أن الله خالقُ كل شىء، والشىءُ يشمَلُ الخيرَ والشرَّ ويدلُ على ذلك ما ذكرَهُ الله تعالى قبلَ هذه الآية بقوله: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء﴾ [سورة ءال عمران/26] وقد أعطى المُلكَ لمؤمنين أتقياء وأعطى لكفّارٍ وأعطى لمسلمين فسقة، ولم يعطهم إلا بمشيئتِهِ وقدرتِهِ، فالله تعالى حكيمٌ في فعلِهِ منزّهٌ عن السَّفَهِ فهو خَلَقَ الأعمالَ السّفيهةَ والأشخاصَ السُّفهاءَ ولا يكون خلقُهُ لذلكَ منه سَفَهًا كما أن خلقَهُ للهوام السّامَّةِ والحشراتِ المؤذيةِ كالفأرِ لا يكونُ ذلك سَفَهًا منه تعالى.
قال المؤلف رحمه الله: ولَيْسَت المَشِيْئَةُ تَابِعَةً للأَمْرِ بِدَليْل أنَّ الله تَعَالى أمَرَ إبراهِيْمَ بذَبْحِ ولَدِهِ إسْماعيلَ ولَمْ يَشَأ لهُ ذَلِكَ.
فإِنْ قِيْلَ: كَيْفَ يأمُرُ بما لَم يَشَأْ وقُوْعَهُ؟ فَالجَوابُ: أَنَّهُ قَدْ يأمُرُ بِمَا لم يَشَأْ، كَمَا أَنَّهُ عَلِمَ بوقُوْعِ شَىءٍ مِنَ العَبْدِ ونَهَاهُ عنْ فِعْلِهِ.
الشرح: هذه المسئلةُ مُهِمٌّ بيانُها ومن هنا يُعلَمُ فسادُ قولِ بعضهم: "كلُّ شىءٍ بأمرِهِ" لأن الله لم يأمر بارتكاب المعاصي والكفرِ، وإنما الذي يصحُّ قولُهُ: إن كلَّ شىءٍ يحصُلُ فهو يحصُلُ بمشيئتِهِ وتقديرِهِ وعلمِهِ لكنَّ الخيرَ يحصُلُ بمشيئةِ الله وتقديرِهِ وعلمِهِ ومحبَّتِهِ ورضاهُ أما الشّرُّ فيحصُلُ بمشيئةِ الله وتقديرِهِ وعلمِهِ لا بمحبَّتِهِ ورضاهُ. ومن الدّليلِ على أن الأمرَ غيرُ المشيئةِ أن الله أمرَ إبراهيمَ عليه السّلامُ بالوحي المناميّ أن يذبَحَ ابنَهُ إسماعيلَ وقيل إسحاق فلما أرادَ تنفيذَ ما أُمِرَ به فَدَى الله تعالى إسماعيلَ بِكَبشٍ من الجنةِ جاءَ به جبريلُ فلم يَذبَح إبراهيمُ ابنَهُ إسماعيل، فلو كان الأمرُ بمعنى المشيئةِ لكانَ إبراهيمُ ذَبَحَ ابنَهُ إسماعيلَ.

الشرح القويم
في حل ألفاظ الصراط المستقيم

قائمة الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم