في العقيدة الإسلامية كتاب الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم
الاجتهادُ والتَّقليدُ

الاجتهادُ والتَّقليدُ

الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم

الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم قال المؤلف رحمه الله: الاجتهادُ والتَّقليدُ.
الاجتهادُ هو استِخراجُ الأحكامِ التي لم يَرِدْ فيها نصٌّ صريحٌ لا يحتمِلُ إلا معنًى واحدًا. فالمجتهدُ مَن له أهليّةُ ذلكَ بأن يكونَ حافظًا لآياتِ الأحكامِ وأحاديثِ الأحكامِ ومعرفَةِ أسانيدِهَا ومعرفَةِ أحوالِ رجالِ الإسنادِ.
الشرح: المجتهدُ ينبغي لهُ أن يَعرِفَ أحوالَ الرواةِ قوّةً وضعفًا فيقدم عندَ التعارُضِ الخَاصَّ على العَام والمُقيَّدَ على المُطلقِ والنصَّ على الظاهِرِ والمُحكَمَ على المتشابِهِ والناسِخَ والمتَّصِلَ والقَويَّ على مقابِلِه. والاجتهادُ هُوَ استخراجُ الأحكامِ التي لم يَرِد فيها نصٌّ صريحٌ لا يحتَمِلُ إلا معنًى واحدًا من الكتابِ والسُّنَّةِ، وأمّا ما وَرَدَ فيه نصٌّ صَريحٌ لا يحتَمِلُ تأويلًا فلا مجالَ للاجتهادِ فيهِ ولذلكَ قالَ بعضُ المجتهدينَ وهو أبو بكر بن المنذر: "إذا جاءَ الخَبرُ ارتفَع النظَرُ" يعني بالخبرِ النَّصَّ القُرءانيَّ والنصَّ الحديثيَّ. والمجتهدُ يكونُ حافظًا لآياتِ الأحكامِ وهي خمسمائة وأحاديثِ الأحكام وهي خمسمائة، وهي التي ذُكِرَ فيها أحكامٌ شرعيّةٌ، ليسَ التي هي قَصَصٌ وأخبارٌ.
قال المؤلف رحمه الله: ومعرفَةِ النَّاسِخِ والمَنسوخِ
الشرح: النَّسخُ معناهُ الإزالةُ، وحَدُّهُ: هو الخطابُ الدَّالُّ على رفعِ الحكمِ الثابِتِ بالخطابِ المتقدّمِ على وجهٍ لولاهُ لكانَ ثابتًا مع تراخيه عنهُ، ويُقالُ: رفعُ حكمٍ شرعيّ سابِقٍ بحكمٍ شرعيّ لاحقٍ.
ويجوزُ نسخُ الرَّسمِ وبقاءُ الحُكمِ، أي يجوزُ نسخُ رسمِ الآيةِ في المصحفِ وتلاوتها على أنها قرءانٌ مع بقاءِ حكمِها والتَّكليفِ بهِ نحو ءايةِ الرَّجمِ وهي: "الشيخُ والشيخةُ إذا زَنَيَا فارجموهما البتّةَ نكالا من الله".
ويجوزُ نسخُ الحُكمِ وبقاءُ الرَّسمِ مثلُ قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ﴾ [سورة البقرة/240]. نُسِخَت بالآيةِ التي قَبلَها وهي: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [سورة البقرة/234].
ويجوزُ النسخُ إلى بدلٍ كما في نسخِ استقبالِ بيتِ المقدِسِ باستقبالِ الكعبةِ.
ويجوزُ النسخُ إلى غيرِ بدلٍ كما في نَسخِ قولِهِ تعالى:﴿إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾ [سورة المجادلة/12].
ويجوزُ النسخُ إلى ما هُوَ أغلظ كَمَا في نسخِ التَّخييرِ بين صومِ رمضانَ والفديةِ بالطَّعَامِ إلى تعيينِ الصَّومِ.
ويجوزُ النّسخُ إلى ما هو أخفُّ كما في قولِهِ تعالى: ﴿إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ﴾ ثم قال: ﴿الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ﴾ [سورة الأنفال/66].
ويجوزُ نسخُ الكتابِ بالكتابِ كما في ءايتي العِدَّةِ وءايتي المُصَابَرَةِ.
ويجوزُ نسخُ السُّنةِ بالكتابِ كما في نسخِ استقبالِ بيتِ المقدسِ الثابتِ بالسنةِ الفعليةِ في حديثِ الصحيحينِ بقولهِ تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [سورة البقرة/144].
ويجوزُ نسخُ السنةِ بالسنَّةِ كما في حديثِ مسلمٍ: "كنت نَهَيتُكُم عن زيارةِ القُبورِ أَلا فَزورُوهَا"، ويجوزُ نسخُ المتواتِرِ بالمتواتِرِ منهما أي القرءان والسنةِ، ويجوزُ نسخُ الآحادِ بالآحادِ وبالمتواتِرِ، ولا يجوزُ نسخُ المتواتِرِ بالآحادِ.
تنبيهٌ: لا يلزمُ من النسخِ البدَاءُ كما ادعت اليهودُ أن النسخَ باطلٌ لأنهُ يؤدي إلى أنَّ الله ظَهَرَ لهُ أمرٌ كان خافيًا عليهِ، ومعنى البَدَاء ظهور أمرٍ كانَ خافيًا. يقالُ لهم: النسخُ لا يستلزمُ ذلكَ بل فيهِ حكمةٌ لأن أحوالَ العبادِ ومصالِحَهُم تختلفُ باختلافِ الأزمانِ كما أن الطبيبَ يَصِفُ الدواءَ في وقتٍ وينهَى عنهُ في وقتٍ ءاخرَ لكونِ الوقتِ الأولِ مناسبًا لحالِ المريضِ غير مناسبٍ لحالِهِ الثاني، فالله تعالى عالمٌ بمصالحِ عبادِهِ فينزلُ حُكمًا ثم ينسخُهُ لِمَا في ذلكَ من مصلحةِ العبادِ. ومرادُهُم بِدَفعِ النسخِ تأييد دعوَاهُم أنّ موسى قالَ "إن شريعتي باقيةٌ إلى يومِ القيامَةِ" افتروا على موسى ما لم يَقُلهُ، وهم يعلمون أنَّ الجمعَ بين أختينِ كانَ جائزًا في شرعِ يعقوبَ ثم نَسَخَ الله تعالى ذلكَ في شرعِ موسى، ويكفي لِرَد دعواهُم أن تزويجَ الأخِ بالأختِ التي ليست توأمًا لهُ كانَ جائزًا في شرعِ ءادمَ لأن ءادمَ كانَ يُزَوجُ الرجلَ من بنيهِ بأختِهِ التي هي توأمةُ أخٍ لهُ ءاخر، ولا يزوجُ واحدًا منهم بتوأمتِهِ، ثم نَسَخَ الله ذلكَ بعدَهُ، وهذا معلومٌ عندَهُم لكنَّ العنادَ يحملهُم على الافتراءِ على موسى.
قال المؤلف رحمه الله: والعَامّ والخَاصّ الشرح: العامُّ هو ما عَمَّ شيئينِ فصاعدًا، والعمومُ من صفاتِ النُّطقِ، ولا يجوزُ دعوى العموم في غيرِهِ من الفعلِ وما يجري مَجرَاهُ. والخاصُّ يقابِلُ العامَّ، والتّخصيصُ تمييزُ بعضِ الجُملَةِ.
ويجوزُ تخصيصُ الكتابِ بالكتابِ نحو: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ﴾ [سورة البقرة/228] الشامِل لأولات الأحمالِ فخصَّ بقولِهِ: ﴿وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [سورة الطلاق/4].
ويجوزُ تخصيصُ الكتابِ بالسُّنَّةِ كتخصيصِ قولِهِ تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ﴾ (11) الآية، الشامِل للمولودِ الكافرِ بحديثِ الصَّحيحَينِ: "لا يرِثُ المسلمُ الكافرَ ولا يَرِثُ الكافرُ المسلمَ".
ويجوزُ تخصيصُ السنةِ بالكتابِ، مثل تخصيصِ حديثِ الصحيحينِ: "لا يَقبَلُ الله صلاةَ أحدِكم إذا أَحدَثَ حتى يَتَوَضَّأ" بقولِهِ تعالى: ﴿وَإِن كُنتُم مَّرْضَى﴾ (43) إلى قولِهِ سبحانَه ﴿فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ﴾ [سورة المائدة/6] وإن وَرَدَت السّنةُ بالتيمّمِ أيضًا بعدَ نزولِ الآية.
ويجوزُ تخصيصُ السُّنَّةِ بالسُّنَّةِ مثل تخصيصِ حديثِ الصحيحينِ: "فيما سَقَت السَّمَاءُ والعيون العُشر" بحديثِ: "ليسَ فيما دونَ خمسةِ أَوسُقٍ صَدَقَةٌ" متفق عليه.
ويجوزُ تخصيصُ النُّطقِ بالقياسِ ونعني بالنُّطقِ قول الله سبحانَه وتعالى وقول الرسولِ صلى الله عليه وسلم، ومثال تخصيص الكتابِ بالقياسِ قوله تعالى:
﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ﴾ [سورة النور/2] خصَّ عمومهُ الشَّامِل للأمةِ بقولِهِ تعالى: ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ [سورة النساء25]، وخصَّ عمومهُ أيضًا بالعبدِ المقيسِ على الأمَةِ.
قال المؤلف رحمه الله: والمُطلَقِ والمُقَيَّدِ.
الشرح: المطلقُ الدالُّ على الماهيَّةِ بلا قَيدٍ أي من حيث هي مِن غيرِ اعتبارِ عَارِضٍ من عوارِضِهَا كقولِنا: الرجلُ خيرٌ مِنَ المرأةِ، فيخرُجُ بقولِهِم بلا قيدٍ المعرفَةُ والنَّكِرَةُ، أما المعرفةُ لأنها تَدُلُّ على الحقيقةِ مع وَحدةٍ معيَّنةٍ كزيدٍ، وأما النكرةُ فلأنها تَدُلُّ عليها مع وَحدةٍ غيرِ معيَّنةٍ كرجلٍ وهذا الفرقُ بين المطلقِ والنَّكرَةِ، وقال الآمدي: لا فرقَ بينهُمَا فقال: النَّكِرَةُ المُطلقُ في سياقِ الإثباتِ.
وذلكَ كحديثِ: "يمسَحُ المسافِرُ ثلاثَةَ أيامٍ" فإنه مطلقٌ في روايةٍ وَوَرَدَ مقيدًا في رواية: "إذا تطهَّرَ فَلَبِسَ"، فاللفظُ الأولُ مطلقٌ والثاني مُقَيَّدٌ، كذلكَ حديثُ: "لا يُمسِكَنَّ أحدُكُم ذَكَرَهُ بيمينِهِ وهو يَبولُ" مع الروايةِ الأخرى بالنهي عن مَسّهِ باليمينِ مُطلقًا مِن غير تقييدٍ بحالَةِ البولِ.
وكذلكَ قولُهُ تعالى في كفّارَةِ القَتل: ﴿وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً﴾ [سورة النساء/92]، وقالَ في كفّارةِ الظّهَارِ: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ [سورة المجادلة/3] بدونِ تقييدِهَا بالإيمانِ.
وفي كتابِ المجموع المُذَهب للحافظِ العَلائي ما نصُّهُ: "فصلٌ في حَملِ المطلقِ على المقيَّدِ وبيانِ صُوَرِهِ: وجملتُها أنَّ المطلقَ والمقيَّدَ إما أن يتحدَا في الحكمِ والسببِ المقتَضي لهُ أو يَختَلِفَا فيهما أو يَتَّحدَا في الحُكم دونَ السببِ أو بالعكسِ بأن يَختَلِفا في الحكمِ أو يَتَّحِدَا في السببِ فهذه أربعةُ أقسامٍ وعلى كُلّ منهما إما أن يكونا ثبوتَينِ أو نفيَينِ أو يكون أحدُهُما ثبوتًا والآخرُ نفيًا فهذه أربعةُ أقسامٍ أُخَر تصيرُ الجملةُ سِتّ عَشرَةَ صورةً، فمتى اختَلَفَ الحكمُ والسَّببُ لم يُحمَل المُطلَقُ على المقيّدِ أبدًا، وإن استَوَيَا كانا ثُبوتَينِ أو نَفيَين أو مختلِفَينِ فَسَقَطَ بهذهِ أربعةُ أقسامٍ. ومن أمثِلَتِهِ قولُهُ تعالى: ﴿فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا﴾ [سورة المجادلة/4] مع قوله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ [سورة الطلاق/2] ولا يُحمَلُ الإطلاقُ في لفظِ المساكين على التَّقييدِ بالعدالَةِ في الآيةِ الأخرى وذلكَ ظاهرٌ، ومثالُ اتحادِ السببِ والحُكمِ وهما ثُبوتَانِ قولُه تعالى: ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾ [سورة المائدة/5] مع قوله تعالى: ﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ [سورة البقرة/217] الآية، وقوله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ [سورة البقرة282] مع قوله تعالى: ﴿وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ﴾ (282) إلى قوله: ﴿مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء﴾ (282)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "الحُمَّى من فَيحِ جَهَنَّمَ فَأبرِدوها بالماءِ" وفي حديثٍ ءاخَرَ: "فَأبرِدوها مِن مَاءِ زَمزَمَ"، وكذلكَ حديث: "خَمسٌ فَوَاسِقُ تُقتَلنَ في الحِلّ والحَرَمِ" وذكرَ منها الغُراب، وفي حديثٍ ءاخَرَ تقييدُ الغُرابِ بالأبقَعِ.
ومثالُ اتحادِهما وهما نَفيانِ قولُه صلى الله عليه وسلم: "لا تَبيعوا الذَّهَبَ بالذَّهَبِ إلا مِثلًا بِمِثلٍ" مع قولِهِ في الحديثِ الآخرِ: "إلا يدًا بيدٍ، ولا تبيعوا شيئًا منها غائبًا بِنَاجِزٍ".
وقد نَقَلَ اتفاقَ العلماءِ على حَملِ المطلقِ على المقيَّدِ في هذا القسمِ القاضي أبو بكر بنُ الباقلّانيِّ وابنُ فُورك وأبو نصر بن القُشيريّ وابنُ برهان والمَازَرِي والآمِديُّ وءاخرونَ، وحَكَى الإمامُ أبو المظفَّر بن السِّمعانيِّ عن بعضِ الحنفيةِ مَنعَ ذلكَ مطلقًا وهو خلافٌ شَاذٌّ جدًّا، نَعَم قالَ جمهورُ الحنفيةِ إنه إذا تأخَّرَ المقيَّدُ يكونُ نسخًا لمقتَضَى الإطلاقِ فيُشترطُ فيهما ما يُشترَطُ بين النَّاسِخِ والمَنسوخِ مِنَ التَّوَافُقِ في القَطعِ أو الظَّن، وقد مَثَّلَ الآمديُّ وابنُ الحاجِبِ وغيرُهما اتحادَ الحكمِ والسببِ وهُما نفيانِ بمَا إذا قالَ: "لا تُعتِقْ مُكَاتَبا"، وقالَ في مَرةٍ أُخرى: "لا تُعتِقْ مُكَاتَبًا كافِرًا" فإنهُ يُعمَلُ بِهِمَا جميعًا، وجعلوا ذلكَ من الواضِحِ، وغيرُهم خَرَّجَ ذلكَ على اعتبارِ مفهومِ الصفةِ وتخصيصِ العمومِ بهِ، فإن مقتَضَى مفهوم التّقييدِ بالكافِرِ في الثاني يقتَضي نفيَ الحكمِ عما عداهُ فلا يكونُ غيرُ الكافِرِ منهيًّا عنهُ وإن كانَ مُكاتَبًا، وإذا قُلنا بأن المفهومَ يخصّصُ العمومَ قيَّدنَا النهيَ المطلقَ بما إذا كانَ كافرًا وهذا ظاهرٌ، وإن كانَا نَفيينِ نعم لا يجيءُ مثلُهُ في حديثِ الربَا الذي مَثَّلنَا بهِ إذ لا مفهومَ صفةٍ فيه يُعتبرُ.
وأما اختلافُ السببِ مع اتحادِ الحُكمِ فمثالُهُ قولُهُ تعالى في ءاية الظّهارِ: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا﴾ [سورة المجادلة/3] وقولُهُ في ءايةِ القتلِ: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ﴾ (92) فإن الحكمَ واحدٌ وهو العِتقُ والسببُ مُختَلِفٌ، وقد أطلقَ الرقبَةَ في موضعٍ وقيَّدهَا بالإيمانِ في الآخرِ.
ومثالُ اتحادِ السببِ واختلافِ الحُكم في جانبِ الثبوتِ قولُه تعالى في ءايةِ التيممِ: ﴿فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ﴾ [سورة المائدة/6] مع قوله في ءايةِ الوضوءِ: ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ (6) فإن السببَ واحدٌ وهو التَّطهر للصلاةِ بعدَ الحَدَثِ، والحكمُ مختلفٌ بالغَسلِ في أحدِهِما والمسحِ في الآخرِ، فأما النوعُ الأولُ فمذهبُ الشافعي حَملُ المطلقِ فيه على المقيَّدِ لكن اختلفَ أصحابُنَا في وجهِهِ فقالَ بعضُهم إنه بِحُكمِ اللفظِ ومُقتَضَى اللسانِ كما في القسمِ المتفَقِ عليهِ، وَذَهَبَ الجمهورُ إلى أنَّ ذلكَ بطريقِ القِيَاسِ عندَ وجودِ الوصفِ الجامِعِ واستِجمَاعِ شروطِهِ وفي النّوعِ الثاني يوقفُ أيضًا، ومقتَضَى المذهب حملُ المطلَقِ على المقيدِ بالوصفِ الجامِعِ أيضًا، والقولُ بأنَّ ذلكَ من نَفسِ اللفظِ بعيدٌ، والله أعلمُ.
مسألةٌ تابعةٌ: ترجمةٌ خاصَّةٌ: تأخيرُ البيانِ عن وقتِ الحاجَةِ غيرُ جائزٍ اتّفَاقًا إلا على القولِ بجوازِ التّكليفِ بما لا يُطاقُ ولا تفريعَ عليهِ، ونظيرُهُ من الفقهِ مسائِل منها إذا أقرَّ لغيرِهِ بشىءٍ مُجمَلٍ فَطولِبَ بالتفسيرِ فامتَنَعَ فثلاثةُ أوجُهٍ أصحُّهَا أنه يُحبَسُ كما يُحبَسُ إذا امتَنَعَ عن أداءِ الحَقّ لأنّ التفسيرَ والبيانَ حَقٌّ واجبٌ عليهِ، والثاني أنهُ إن وَقَعَ الإقرارُ المُبهَمُ في جوابِ دعوَى وامتنَعَ من البيانِ جُعِلَ ذلكَ إنكارًا منهُ لِمَا وَقَعَت به الدعوَى فَتُعرَضُ عليهِ اليمينُ فإذا أصرَّ جُعِلَ نَاكلًا وحُلّفَ المُدّعِي أما إذا أقرَّ بالمجمَل ابتداءً فيقالُ للمُقَرّ لهُ ادّعِ عليهِ حَقَّكَ فإذا ادَّعَى عليهِ شيئًا مُعيَّنًا فإن أَنكَرَ أُجرِيَ عليهِ حكمُهُ وإن قَالَ لا أدري جَعلناهُ مُنكِرًا فإن أصرَّ جعلناهُ ناكلًا.
والثالثُ أنهُ إن أقرَّ بغصبٍ مُبهَمٍ وامتَنَعَ من بيانِهِ حُبِسَ، وإن أقرَّ بدَينٍ مُبهَمٍ فالحُكمُ كما في الوجهِ الثاني" اهـ.
قال المؤلف رحمه الله: ومعَ إتْقانِ اللُّغَةِ العربيّةِ بحَيثُ إنّه يَحفَظُ مَدْلُولاتِ ألفاظِ النُّصوصِ على حسَب اللُّغَةِ التي نزَل بها القرءانُ.
الشرح: يَنبَغي على المجتهدِ أن يُتقِنَ لغةَ العَرَبِ ويعرفَ مدلولاتِ النُّصوصِ الشرعيةِ ويعرفَ النحوَ والصَّرفَ والبَلاغَةَ. هذا في غير السليقي أما السليقي كالصحابة ومن كان مثلهم في كونِ كلامهِ مطابقًا للغةِ العربيةِ على حسبِ أصولِها وأسالِيبِها فهو غنيٌّ عن تعلمِ النحوِ والصَّرفِ لأنه مطبوعٌ على النطقِ بالصوابِ في اللغةِ.
قال المؤلف رحمه الله: ومعرفةِ ما أجْمَعَ عليهِ المجتهدونَ وما اختَلَفُوا فيهِ لأنّهُ إذا لم يَعْلَمْ ذلكَ لا يُؤمَنُ عليهِ أن يَخْرِقَ الإجماعَ أي إجْماعَ مَن كانَ قبلَهُ.
الشرح: ينبغي للمجتهدِ أن يعرفَ أقوالَ العلماءِ إجماعًا واختلافًا فلا يُخَالِفهُم في اجتهادِهِ.
والمجتهدُ يَستَدِلُّ على ما احتملَ التّأويلَ بالسُّنَّةِ وبالإجماعِ، فإن لم يكن فبالقياسِ على ما في الكتابِ، فإن لم يكن فبالقياسِ على ما في السُّنّةِ، فإن لم يكن فبالقياسِ على ما اتفَقَ عليهِ السَّلَفُ وإجماعُ النّاسِ ولم يُعرَف لهُ مخالفٌ، ولا يجوزُ القولُ في شىءٍ من العلمِ إلا من هذهِ الأوجُهِ. ولا يكونُ صالحًا لأن يقيسَ حتى يكونَ عالمًا بما مَضَى قبلهُ من السُّننِ وأقوالِ السلفِ وإجماعِ الناسِ واختلافِ العلماءِ ولسانِ العربِ، ويكون صحيحَ العَقلِ ليفرّقَ بين المشتبهاتِ، ولا يَعجَلُ ويسمعُ ممَّن خالفَهُ ليتنبّهَ بذلكَ على غفلةٍ إن كانت، وأن يبلغَ غاية جهدِهِ، وينصفَ من نفسِهِ حتى يعرفَ من أينَ قالَ ما قالَ.
ومما يشترطُ في المجتهدِ أن يعرفَ المُجمَلَ والمُبيَّنَ والظَّاهِرَ. والمجملُ: ما افتَقَرَ إلى البيانِ، والبيانُ هو إخراجُ الشىءِ من حَيّزِ الإشكالِ إلى حيّزِ التَجَلّي أي الظهورِ والوضوحِ، وأما الظاهِرُ فهو ما احتملَ أمرينِ أحدُهُمَا أظهرُ من الآخرِ. ويؤوَّلُ الظاهِرُ بالدليلِ ويُسمَّى الظاهر بالدليلِ مثل قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾ [سورة الذاريات/47] أي بقوّةٍ، فإنَّ ظاهرهُ جمعُ يَدٍ وهو محالٌ في حَقّ الله تعالى، فَصُرِفَ عنهُ إلى معنَى القوَّةِ بالدليلِ العَقليّ القاطِعِ كما يُعرَفُ ذلك بالنَّص القرءاني الصَّريحِ كقولِهِ تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ (11).
قال المؤلف رحمه الله: ويُشْتَرَطُ فوقَ ذلكَ شرطٌ وهو ركنٌ عظيمٌ في الاجتهادِ وهو فِقْهُ النَّفْسِ أي قُوّةُ الفَهْمِ والإدراكِ.
وتشترَط العدالةُ وهي السلامَةُ من الكبائِرِ ومن المداومَةِ على الصَّغَائِرِ بحيثُ تَغْلِبُ على حسَناتِهِ من حيثُ العَدَدُ.
الشرح: ليسَ كلُّ مسلمٍ يستطيعُ أن يستخلِصَ علمَ الدينِ من القرءانِ والحديثِ مباشرةً لأن القرائِحَ تختلِفُ، هذا ذكاؤهُ أقوَى من هذا وهذا ذكاؤه أقوَى من هذا، وهذا بليدٌ وهذا أبلدُ، وهؤلاءِ الأئمَّة المجتهدون كُلهم الله تعالى أعطاهُم قَرَائحَ قويّةً أذهانًا قويّةً. ومما يدلُّ على قوّةِ قرائِحِهِم أنهُ كانَ في زَمَنِ وجودِ الشافعي بالمدينةِ عندَ مالكٍ بعدَ أن دَرَسَ على مالكٍ زمانًا جاءَ رجلٌ حلفَ قالَ: عليَّ الطَّلاقُ أن هذا القمريّ لا يهدأ مِن صِياحٍ، والقمريُّ نوعٌ من الحَمَامِ، فَسَأَلَ مالكًا قالَ أنا حَلفتُ بطلاقِ زوجتي أن هذا القمريَّ لا يهدأُ من صياحٍ فقالَ لهُ مالكٌ رضي الله عنه: طَلقت امرأتُكَ، ومالكٌ قالَ له ذلكَ لأنه معلومٌ أنه لا بدَّ أن يهدأَ مِن الصيَاحِ بعض الوقتِ، ثم عَرَفَ الشافعيُّ أن مالكًا أفتَى هذا الإنسانَ بطلاقِ زوجتِهِ فقالَ لهُ: لم تَطلُق زوجتكَ، الشافعيّ نَظَرَ فقالَ هذا الرجلُ لما حلفَ بطلاقِ زوجتِهِ أن هذا القمريَّ لا يهدأ من صياحٍ ما قَصَدَ أنهُ كلَّ ساعةٍ لا يهدأُ، إنما قصدُهُ أنه كثيرُ الصّيَاحِ، فلم تنكَسِر يمينهُ فلم تطلق المرأةُ، ثم رَجَعَ الرَّجلُ إلى مالكٍ فقالَ له: هنا فتًى أفتاني بأنهُ لم تطلق زوجتي، قال: مَن هو، قال: هذا، فَحَضَرَ الشافعيُّ فقالَ له مالكٌ: كيفَ قلتَ للرَّجلِ إن امرأتَكَ لم تَطلُق، قال: أليسَ أنتَ حدَّثتنا أنّ رجلينِ خَطَبَا امرأةً يُقالُ لها فاطمةُ بنت قيسٍ أحدُهُمَا معاويةُ والآخرُ أبو جهمٍ فقالَ الرسولُ: "أما أبو جهمٍ فلا يَضَعُ عَصَاه عن عاتِقِهِ، وأما معاوية فصُعْلُوكٌ لا مالَ له"، فهل أرادَ الرسولُ لما قالَ: "لا يضعُ عَصَاه عن عاتِقِهِ" أنهُ في حالِ النَّومِ وفي حالِ الأكلِ العَصَا تظلُّ على عاتِقِهِ؟ أم أرادَ أنهُ كثيرُ الحملِ والملازمةِ للعصا لأنه يحبُّ الضَّربَ؟ من هذا الحديثِ أخذتُ الحُكمَ، فسكتَ مالكٌ ولم يعارِضهُ.
قال المؤلف رحمه الله: وأمّا المقلّدُ فهو الذي لم يَصِلْ إلى هذهِ المَرتَبَةِ.
الشرح: المقلّدُ لهُ رخصةٌ بأن يعمَلَ بأيّ مذهبٍ يُريدُ إنْ شاءَ يقلّدُ مذهبَ الشافعيّ أو مالكٍ أو أبي حنيفةَ أو أحمدَ أو غيرِهم، وإن شاءَ مرّةً يُقلّدُ هذا ومرّةً هذا ومرّةً هذا، أمّا المجتهدُ فلا يَعمَلُ بغيرِ اجتهادِهِ.
قال المؤلف رحمه الله: والدَّليلُ على أن المسلمينَ على هاتين المَرتَبتَينِ قولُه صلى الله عليه وسلم: "نضَّرَ الله امرأً سَمِعَ مقالَتِي فَوَعَاهَا فأدَّاهَا كما سمِعَها، فرُبَّ مُبَلِّغٍ لا فِقْهَ عندَهُ". رواهُ التّرمذيُّ وابنُ حِبَّانَ.
الشرح: الرسولُ دَعَا في حديثِهِ هذا لمن حَفِظَ حديثَهُ فأدَّاهُ كما سمِعَهُ من غيرِ تحريفٍ بنَضْرةِ الوَجهِ أي بِحُسنِ وجهِهِ يومَ القيامَةِ، وبالسلامةِ من الكآبةِ التي تحصُلُ من أهوالِ يومِ القيامةِ لأنَّ يومَ القيامة يومُ الأهوالِ العِظَامِ والشّدائدِ الجِسَامِ.
قال المؤلف رحمه الله: الشَّاهِدُ في الحديثِ قولُه: "فَرُبَّ مُبَلِّغٍ لا فِقْه عندَهُ"، وفي روايةٍ: "ورُبَّ مُبَلَّغ أوْعَى من سَامِعٍ"، فإنَّه يُفهِمنا أنَّ ممن يَسمعونَ الحديثَ منَ الرسولِ مَن حظه أن يرويَ ما سمعَهُ لغيرهِ ويكون هو فهمه أقل من فهمِ من يبلغه بحيثُ إن من يبلغه هذا السامع يستطيع من قوةِ قريحتهِ أن يستخرجَ منه أحكامًا ومسائل - ويسمى هذا الاستنباط - والذي سمعَ ليس عنده هذه القريحة القوية إنما يفهم المعنى الذي هو قريب من اللفظ. من هنا يعلم أن بعضَ الصحابةِ يكون أقل فهمًا ممن يسمع منهم حديث رسول الله. وفي لفظٍ لهذا الحديثِ: "فرُبَّ حاملِ فِقْهٍ إلى من هوَ أفقَهُ منهُ"، وهاتانِ الرّوايتانِ في التّرمذي وابنِ حبَّان.
وهذا المجتهدُ هو مَوْرِدُ قولِه صلى الله عليه وسلم: "إذَا اجتَهدَ الحاكمُ فأصابَ فلَهُ أجْرانِ وإذا اجتهدَ فأخطأَ فله أجرٌ" رواهُ البخاريُّ، وإنّما خَصَّ رسُولُ الله في هذا الحديثِ الحاكمَ بالذّكْرِ لأنَّهُ أحْوجُ إلى الاجتهادِ من غَيرِهِ فقد مضَى مُجتهدونَ في السّلَفِ مع كونِهم حاكمينَ كالخلفاءِ الستَّةِ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليّ والحسَنِ بنِ عليّ وعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ وشُرَيْحٍ القَاضي.
الشرح: أفهمَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في أحاديثِهِ المرويَّةِ عنهُ أن الناسَ قسمانِ قسمٌ يَروي الحديثَ عن رسولِ الله فقط من غيرِ أن يعرفَ ما يدلُّ عليهِ هذا الحديثُ من الأحكامِ وهم أكثرُ الناسِ، وقسمٌ يعرفونَ ما يَدُلُّ عليهِ هذا الحديثُ من الأحكامِ وهم الأقلُّ وهذا القسمُ هم المجتهدونَ، وليس شرطًا أن تكونَ اجتهاداتُهم متَّفقةً في كلّ المسائلِ بل تختلفُ اجتهاداتُهُم في كثيرٍ من المسائِلِ وفي ذلكَ رحمة للعبادِ وتسهيل لهم، وأما دعوةُ الألباني أيَّ إنسانٍ أن يَعمَلَ بحديثِ: "استَفتِ قلبَكَ وإن أفتاكَ المفتونَ" فيه تشجيعُ العَوَام على تركِ العملِ بما عليهِ أهلُ الاجتهادِ والعملِ بما يميلُ إليه قلبُه، ولا يخفَى أن العاميَّ قد يميلُ قلبُهُ إلى ما يخالفُ الشرعَ، فكيفَ يَترُكُ فتوى المجتهدين المعتبرين ويَعمَل بما تميلُ إليهِ نفسُهُ، وهذا الحديثُ كانَ الخطابُ فيه لوابصةَ بن مَعبدٍ وهو من مجتهدي الصحابَةِ، فوابصةُ ومن كان مثلهُ مجتهدًا فهو الذي يأخُذُ بما ينشرح به قلبه وليسَ أيّ إنسانٍ، وإلا لأدَّى ذلكَ إلى الفَوضى قالَ الأفوهُ الأودِيُّ:
لا يَصلُحُ الناسُ فوضَى لا سَراةَ لهم ***** ولا سَراةَ إذا جُهَّالُهم سَادوا
والسراة هم الأشرافُ أهل الفهمِ الذين يَصلحون للقيادةِ.
ويُعلَمُ أنهُ ليسَ لكلّ من سَمِعَ حديثًا أهليّة الاجتهادِ أي استنباطِ الأحكامِ من حديثِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم: "نَضَّرَ الله امرأً سَمِع مقالتي فوعَاهَا فربَّ حامِلِ فقهٍ ليس بفقيهٍ" وفي روايةٍ: "فربّ حاملِ فقهٍ إلى مَن هو أفقهُ منهُ" وقد أفهَمَنا الرسولُ عليه السلامُ بذلكَ أنه قد يسمَعُ منهُ الشخصُ الحديثَ المتضمّنَ أحكامًا ولا يكونُ عندَهُ أهلية الاستنباطِ ويحملُهُ إلى من هُوَ أفقه منهُ أي إلى مَن لهُ أهليةُ الاستنباطِ. وفي قولِهِ عليه السلام: "ورُبَّ حاملِ فقهٍ ليس بفقيهٍ" دليلٌ على أن الذين لا يستطيعونَ أن يستخرِجوا الفقهَ مِن الحديثِ أكثر من الذين يستطيعونَ، فمن ثَمَّ كان بعض الصحابة مقلدين وهذا موافقٌ لقولِ النحويّينَ: "رُبَّ للتَّكثيرِ كثيرًا". ويكفي شاهدًا لذلك أن أكثرَ المحدثينَ والحفاظِ منهم مقلدون للشافعي أو أبي حنيفة أو مالك أو أحمد بن حنبل وما أكثر من يكون مقلدًا للشافعي من الحفاظِ فإنَّ الحفاظ الذين يقلدون مذهب الشافعي أكثر الحفاظ فمن أين لمثلِ الألباني دعوى الاجتهاد والاكتفاء بفهمه عن تقليدِ الأئمةِ وهو لا يحفظ عشرة أحاديث بأسانيدِها فإذا كان الحافظُ الواحدُ يحفظُ مائةَ ألف حديث باعتبارِ كثرةِ أسانيدِ الحديثِ الواحدِ لأن الحديثَ الواحدَ أحيانًا يبلُغُ إسنادُه نحو عشرة وقد يبلُغُ عدد الإسناد إلى عشرينَ وإلى أكثرَ من ذلك فباعتبار تعدد هذه الطرقِ والأسانيدِ يقال إن فلانًا من الحفَّاظِ حَفِظَ مائةَ ألفٍ وأكثرَ من ذلك وهذا الألباني لم يبلُغْ مرتبةَ المُحدّثِ، وقد شهره من لا يعرف حقيقته باسم المحدّث وهو اعترفَ بأنه ليس بحافظٍ قال أنا محدثُ كتابٍ لست محدِّثَ حفظٍ.
وقد جَعَلَ الله تبارك وتعالى في كلّ زمانٍ مجتهدًا لا تَخلو الأرضُ منهُ، فقد روى كَميلُ بن زيادٍ عن عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه أنهُ قالَ: "لا تَخلو الأرضُ من قائِمٍ لله بِحُجَجِهِ" أي لا تَخلو من مجتهدٍ، وصحح الفقيه الأصولي الزركشي أنه لا يخلو العصر من مجتهد خلاف ما اشتهر عند الناس أن بعد المائة الرابعة انقطع الاجتهاد.
وقد روى أبو هريرةَ رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الله يَبعَثُ لهذهِ الأمَّةِ على رأسِ كلّ مائةِ سنةٍ من يُجَدّدُ لها دِينَهَا" رواهُ أبو داود، ويشترَطُ في المجدّدِ أن يكونَ حيًّا عندَ تمامِ القَرنِ مع كونِهِ بصفةِ العِلمِ والتَّقوى، ذابًّا عن السُّنّةِ، قامِعًا للبدعَةِ، ينفعُ الناسَ ببيانِهِ، يبيّنُ الضلالات ويحذّرُ منها، ويبيّنُ السُّنَنَ ويحثُّ عليها، والسُّننُ هي الأمورُ التي شَرَعَهَا رسولُ الله من فرائض وغيرِ فرائض. وأوّلُ مُجدّدٍ كانَ في هذه الأمّةِ هو عمرُ بنُ عبد العزيز الذي كانَ حاكمًا عَدلا، ولم يجتمع لِمَن جاءَ بعدَهُ من المُجدّدين أن جَمَعَ بينَ صفةِ المُجَدّديةِ والحُكمِ، ثم بعدهُ الإمامُ محمّدُ بن إدريس الشّافعيُّ، وقد توفّي بعدَ تمامِ القَرنِ الثاني بأربعةِ أعوام، ثم بعدَهُ ابنُ سريجٍ الذي هو أحدُ أئمةِ الشافعيةِ، ثم بعدَهُ أبو الطَّيبِ سهلُ بن محمّد الصُّعلوكي، ذَكَرَ هذا الترتيبَ الحافِظُ الحاكمُ صاحبُ كتابِ المستدرَكِ، وقال في هذا الأخير:
والرّابِعُ المشهورُ سَهْلُ محمَّدٍ ***** أضْحَى إمامًا عندَ كلّ مُوَحّدِ
وكانَ من أصْحابِ الإمامِ أبي الحَسنِ الأشعريّ رضي الله عنهُم وجَزاهُمُ الله عن الإسلامِ خَيْرًا.
ثم إن مما ينبغي بيانهُ أن الأئمةَ تكونُ اجتهاداتُهُم في الفروعِ وليسَ في أصولِ العقيدةِ كمعرفةِ الله، وكذلكَ لا يحلُّ الاختلافُ في المنصوصِ عليهِ كالصّلواتِ المفروضاتِ وتحريمِ الزنى واللّوَاط.
وأما الاختلافُ في غيرِ المنصوصِ عليهِ والمُجمَعِ عليهِ فيسوغُ فيه الاجتهادُ كاختلافِ بعضِ الصحابَةِ في بعضِ المسائل، فقد اختلفَ اجتهادُ أبي بكر عن اجتهادِ عليّ وزيدِ بن ثابتٍ في مسئلةِ توريثِ الإخوةِ مع الجَدّ.
وكذلكَ اختلاف الشافعيّ وأبي حنيفةَ في مسئلةِ نَقضِ مَسّ المرأةِ الأجنبيّةِ بلا حائلٍ الوضوء.
وأما الذي يَدَّعي الاجتهادَ في عَصرِنا هذا ويخرجُ عما أجمعَ المُتَقدّمونَ على أنهُ جائزٌ فيجعلهُ غير جائزٍ أو يأتي إلى مسئلةٍ أجمعَ الذين مَضَوا على أنها غير جائزةٍ فيجعلهَا جائزةً صحيحةً فهذا لا يُقبَلُ منهُ، وهذا دليلٌ على أنه ليسَ مجتهدًا لأنهُ لو كانَ مجتهدًا لاجتَهَدَ في حادثةٍ لم تَسْبِق فيما مَضَى فأعطى فيها الحكمَ الشرعيَّ باجتهادِهِ لأن أولئكَ ما تكلَّموا فيها بالمَرَّةِ لأنها ما حَدَثَت في عصورِهم، ففي هذه الحال يُقبلُ اجتهادُ هذا المجتهدِ المتأخّرِ الذي ظَهَرَ بعد الأربعمائةِ في أيّ قرنٍ كانَ وكذلك إن اجتهدَ بترجيحِ قولٍ قال به بعضُ المجتهدينَ الماضينَ قبلَهُ، وهذا المهديُّ المُنتَظَرُ مجتهدٌ لكنهُ لا ينقضُ ما أَجمَعَ عليهِ مَن قبلَهُ، إنما يُرَجّحُ رأيًا من تلكَ الآراءِ أو يُحدِثُ حُكمًا باجتهادِهِ في حوادث لم تسبق أيّامَ الأوّلينَ، هنا مجالُ الاجتهادِ، أما أن يدَّعيَ الاجتهاد فينقض ما اتَّفَقَ عليهِ الأئمةُ وهم نحو أربعينَ أي المعروفينَ عندَ العلماءِ الذين لهم ذِكرٌ في مؤلفاتِهِم فليس لهُ، وليسَ المجتهدونَ الأئمة هؤلاءِ الأربعة فقط، هناكَ مجتهدونَ أَخفِيَاء.
وقد يَتوهَّمُ بعضُ الناس أن للمجتهدِ أن يَنقُضَ جميعَ أقوالِ من مَضَوا قبلَهُ، وهذا غلطٌ.
وأما حديثُ: "إذا اجتهدَ الحاكِمُ" فالمرادُ به المجتهدُ وقد قالَ النوويُّ في شرحِ مسلمٍ: "قالَ العلماءُ: أَجمَعَ المسلمونَ على أن هذا الحديثَ في حاكِم عالِمٍ أهلٍ للحكمِ فإن أصابَ فلهُ أجران أجرٌ باجتهادِهِ وأجرٌ بإصابتِهِ وإن أخطأَ فلهُ أجرٌ باجتهادِهِ"، ثم قال: "قالوا: فأما مَن ليسَ بأهلٍ للحُكمِ فلا يحلُّ له الحكمُ فإن حَكَمَ فلا أجرَ لهُ، بل هو ءاثمٌ ولا ينفَّذُ حكمُهُ سواءٌ وَافَقَ الحقَّ أم لا، لأن قوله وإن وافقَ الحقَّ فليسَ صادرًا عن أصلٍ شَرعيّ فهو عاصٍ في جميعِ أحكامه سواء وافقَ الصوابَ أم لا، ولا يعذرُ في شىءٍ من ذلك".
وليُعلَم أن مَورِدَ الاجتهادِ فيما لم يَرِد فيهِ نصٌّ صريحٌ لا يحتمِلُ إلا وجهًا واحدًا كقولِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ (59).
مع حديثِ: "مَن خَرَجَ مِنَ الطاعَةِ قِيدَ شبر فقد خَلَعَ رِبقَةَ الإسلامِ من عنقِهِ حتى يراجعه" أي حتى يتوب. شبهه الرسول بالبقرةِ أو الشاةِ التي أدخلت عليها عروة الحبل ثم هي انفلتت من هذا فعرضت نفسها للهلاك. وحديثِ: "من خَلَعَ يدًا من طاعَةٍ لقي الله يومَ القيامةِ لا حُجَّةَ له، ومن ماتَ وليس في عنقِهِ بَيعَةٌ ماتَ ميتةً جاهليةً" أي ميتته تشبه ميتة عباد الأوثان. روى الأول ابنُ حبّانَ والثاني مسلمٌ، فإنه لا يجوزُ الخروجُ على وليّ الأمرِ ما لم يَكفُر، فلا يجوزُ الخروجُ على ولي الأمر لمجردِ مخالفتِهِ لما يراهُ بعضُ الناسِ، فلا عذرَ لمن خَرَجَ على أميرِ المؤمنينَ عليّ رضي الله عنه في الوقائعِ الثلاثِ وقعةِ الجَمَلِ ووقعةِ صفينَ ووقعةِ النهروانِ، وليسَ خروجُ هؤلاءِ اجتهادًا شرعيًّا داخلًا تحتَ حديثِ: "إذا اجتهدَ الحاكِمُ فأصابَ فله أجرانِ وإذا اجتهدَ فأخطأَ فلهُ أجرٌ" ومن هنا قال الإمامُ أبو الحسن الأشعري إن الذين قاتلوا أميرَ المؤمنين عليًّا ءاثمونَ بمن فيهم طلحة والزبير وعائشة وقال رضيَ الله عنه أما طلحة والزبير فذنبهما مغفورٌ للبشارةِ النبويةِ لهما بالجنةِ وكذلك قال في عائشةَ مغفورٌ لها لأجلِ البشارةِ قال الأشعري رضي الله عنه وأما من لم تسبق له البشارةُ من مقاتلي علي فذنبهم مجوَّزٌ غفرانهُ والعفوُ عنه، نقلَ ذلك تلميذُ تلميذِهِ الإمام المقدم محمد بن فُورَك. فإذا كان قول الرسول صلى الله عليه وسلم للزبيرِ رضيَ الله عنه: "إنك لتقاتلن عليًّا وأنت ظالم له" يشهد بإثم الزبير في قتاله لعليّ أي وقوفه مع المقاتلين من غير أن يقتل أحدًا ثم انصرفَ لما ذكَّرَهُ عليّ بهذا الحديثِ تركَ المعسكرَ ماتَ تائبًا وطلحة كذلك انصرفَ فقتله مروان غضبًا منه لأنه تركَ المعسكرَ، فكيف بالذين قاتلوا أميرَ المؤمنين ثلاثة أشهر وقتلوا من جيشهِ عشرينَ ألف نفسٍ فيهم أهل بدر وفيهم أهل أحد وفيهم أهل بيعة الرضوان وهم خيار الصحابة. فما أبعد قولَ من قالوا إن مقاتلي عليّ من الصِحابِ ليسوا ءاثمين عن الصواب والحق.
فمن قالَ إن معاوية اجتهدَ في قتالهِ لعليّ فأخطأَ فهو معذورٌ فهو غلط لم يكن قتاله لعليّ عن اجتهادٍ شرعيّ لأن عليًّا رضي الله عنه قال: "إن بني أميّةَ يقاتلونني يزعمونَ أني قتلتُ عثمانَ وكَذَبوا إنما يريدونَ المُلكَ ولو أنني أعلمُ أنهم يردهم عما هُم عليهِ أن أحلفَ عندَ المقامِ والله ما قتلتُ عثمانَ ولا أمرتُ بقتلِهِ لفعلتُ ولكنهم يريدونَ الملك" رواه الحافظُ مُسدَّدٌ في مسندِهِ، ورواهُ الحافِظُ سعيدُ بن منصور في سننِهِ، وسيدنا عليٌّ أعلمُ بحالِ معاويةَ ومن مَعَهُ من بعضِ المُؤلفين الذين قالوا إنه اجتهدَ فأخطأَ فهو معذورٌ.
قال المؤلف رحمه الله: وقد عَدَّ عُلَمَاءُ الحَديثِ الذين ألَّفُوا في كتُبِ مُصطَلحِ الحديثِ المُفْتِينَ في الصَّحابةِ أقَلَّ مِن عشَرةٍ قِيلَ: نحو سِتّةٍ، وقالَ بعضُ العلماءِ: نحو مائتينِ منهم بَلَغَ رُتْبَةَ الاجتهادِ، وهذا القولُ هو الأصَحُّ.
فإذا كانَ الأمرُ في الصَّحابَةِ هكذا فمِن أينَ يصحُّ لِكُلّ مسلمٍ يستطيعُ أن يقرأَ القرءانَ ويطالعَ في بعضِ الكتبِ أن يقولَ أولئكَ رجالٌ ونحنُ رجالٌ فليسَ علينا أن نقلّدَهُم، وقَدْ ثبتَ أنّ أكْثرَ السَّلَفِ كانوا غير مجتهدينَ بلْ كانوا مُقلّدِينَ للمجتهدينَ فيهم، ففي صحيحِ البُخاريّ أن رجلًا كان أجِيرًا لرجُلٍ فزنى بامرأَتِه فسألَ أبوه فقيلَ له: إنَّ على ابنِكَ مائة شاةٍ وأَمَة، ثمّ سألَ أهلَ العِلْم فقالوا له: إنّ على ابنِك جَلْدَ مائةٍ وتغريبَ عامٍ، فَجَاءَ إلى الرسولِ صلى الله عليه وسلم مع زوجِ المرأةِ فقالَ: يا رسولَ الله إنّ ابني هذا كان عَسِيفًا - أي أجِيْرًا - على هذا وزَنَى بامرأتِهِ فقالَ لي ناسٌ: على ابنكَ الرجمُ ففديتُ ابني منهُ بمائةٍ مِنَ الغنمِ ووليدةٍ، ثم سألتُ أهلَ العِلمِ فقالوا: إنما على ابنك جلدُ مائة وتغريبُ عام، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لأقضِيَنَّ بينكُمَا بكتابِ الله، أمَّا الولِيْدَةُ والغَنَمُ فرَدٌّ عليهِ، وعلى ابْنِكَ جَلْدُ مائةٍ وتغريبُ عامٍ". فهذا الرجلُ معَ كونِهِ مِنَ الصَّحابةِ سألَ أناسًا مِنَ الصَّحابةِ فأخطأوا الصوابَ ثم سأَلَ علماءَ منهم ثمّ أفْتَاهُ الرسولُ بما يوافِقُ ما قالَهُ أولئكَ العلماءُ، فإذا كانَ الرسولُ أفهَمنا أنّ بعضَ مَنْ كانوا يسمعونَ منه الحديثَ ليس لهم فِقْهٌ أي مَقْدِرَةٌ على استخراجِ الأحكامِ مِن حديثِهِ وإنما حَظُّهُمْ أن يَرْوُوا عنهُ ما سمِعُوهُ معَ كونهِم يفهَمُونَ اللغةَ العربيّةَ الفُصْحَى فما بالُ هَؤلاءِ الغوْغاءِ الذين يتجرَّءونَ على قولِ: "أولئك رجالٌ ونحن رجالٌ"، أولئكَ رجالٌ يعنونَ المجتهدينَ كالأئِمَّةِ الأربَعةِ.
وفي هذا المعنَى ما أخرَجَهُ أبو داودَ مِنْ قِصّةِ الرّجلِ الذي كانت برأسِهِ شَجَّةٌ فأجْنَبَ في ليلةٍ باردَةٍ فاستَفْتَى من معَهُ فقالُوا له: اغتَسِل، فاغتسَلَ فماتَ فأُخبِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ: "قتَلُوهُ قتلَهُمُ الله، ألا سَأَلُوا إذْ لم يعلموا، فإنّمَا شِفاءُ العِيّ السُّؤالُ" أي شِفَاءُ الجَهلِ السؤالُ أي سؤال أهل العلمِ، وقالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: "إنما كانَ يكفيهِ أن يتيممَ ويعصب على جُرحِهِ خرقةً ثم يمسحُ عليها ويَغسِلُ سائرَ جسدِهِ" الحديثُ رواهُ أبو داودَ وغيرُه، فإنّه لو كانَ الاجتهادُ يصِحُّ مِنْ مُطلَقِ المسلمينَ لَما ذمَّ رسولُ الله هؤلاءِ الذينَ أفْتَوهُ ولَيْسُوا من أهلِ الفَتْوَى.
ثمّ وظيفةُ المجتهدِ التي هي خاصّةٌ لهُ القياسُ، أي أن يعتَبِرَ ما لَم يَرِدْ به نصٌّ بما وردَ فيهِ نصٌّ لشَبَهٍ بينَهُما.
الشرح: القياسُ هو إلحاقُ الفَرعِ الذي هو غيرُ منصوصٍ عليهِ بالأصلِ الذي هو منصوصٌ عليهِ، ومثالُ ذلكَ وَرَدَ في القرءانِ تحريمُ التّأفيفِ بالأبوينِ نصًّا لكن لم يَرِد لا تضربهما لا تَجرحهما بحديدةٍ إلى ءاخرِ ما هنالكَ من هذهِ التفاصيلِ، فهذهِ من طريقِ القياسِ تُلحَقُ بالأصلِ المنصوصِ عليه وهو تحريمُ التّأفيفِ لأنَّ التّأفيفَ أذًى خفيف بالنسبةِ للضَّربِ ونحوِهِ.
ويقالُ: القياسُ هو ردُّ الفرعِ إلى الأصلِ بعلَّةٍ تَجمعهُما في الحكمِ، وهو ينقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ.
قال المؤلف رحمه الله: فالحذرَ الحذرَ مِنَ الذينَ يحثّونَ أتباعَهُمْ على الاجتهادِ مَعَ كونِهِمْ وكونِ متبوعِيهِمْ بعيدينَ عَنْ هذِهِ الرتبةِ فهؤلاء يُخَرّبُونَ ويَدعونَ أَتباعَهُم إلى التخريبِ في أُمورِ الدّين. وشَبيهٌ بهؤلاءِ أُنَاسٌ تَعَوَّدُوا في مجالِسِهِمْ أن يُوَزّعوا على الحَاضِرينَ تفسيرَ ءايةٍ أو حديثٍ مَعَ أنهُ لم يسبق لَهُمْ تلقٍّ مُعْتَبَرٌ مِن أفواهِ العلماء. فهؤلاء المدعونَ شَذُّوا عَنْ علماءِ الأصولِ لأن علماءَ الأصولِ قالوا: "القياسُ وظيفةُ المجتهدِ" وخالفوا علماءَ الحديثِ أيضًا.
الشرح: كم من حُفاظٍ يحفظونَ الآلاف المؤلفة منَ المتون والأسانيد وأحوَال الرواةِ ومواليدهم وروايتهم مقلدين لا يروْنَ لأنفسهم رتبة الاجتهادِ لعدَمِ فقه النَّفسِ التي هي شرطٌ في الاجتهادِ. هذا البيهقيّ الذي هو من أئمةِ المحدثينِ الحفَّاظ مقلدٌ للإمامِ الشافعي وكذلك كلُّ المحدثينَ إلا النادر منهم بلغَ رتبةَ الاجتهادِ كمحمدِ بنِ إبراهيمَ بن المنذر كان درسَ فِقهَ الشافعيّ على تلميذِ الشافعي الربيع المرادي ثم تمكَّنَ في الحديث ورُزق الفهمَ بمعاني الكتابِ والسنةِ فاجتهدَ فصارَ اجتهادهُ يوافقُ في بعض الأشياء الشافعي وفي بعض غَيْرَ ما قال الشافعي.

الشرح القويم
في حل ألفاظ الصراط المستقيم

قائمة الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم