في العقيدة الإسلامية كتاب الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم
أشراطُ السَّاعَةِ

أشراطُ السَّاعَةِ

الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم

الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم قالَ الله تبارك وتعالى: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ﴾ [سورة القمر/1]، ويقولُ عزَّ وجلَّ أيضًا: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا﴾ (42) ﴿فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا﴾ (43) [سورة النازعات].
اعلم رحمَكَ الله أنَّ القيامَةَ لا تقوم حتّى تحصلَ أشراطُ السّاعةِ الصُّغرى والكُبرى، أمّا العلاماتُ الصُّغرى فمنها ما أخبرَ الرسولُ عنها في الحديثِ الذي رواهُ مسلمٌ أن جبريلَ سألهُ عن أماراتِ الساعَةِ أي علاماتها فقالَ: "أن تَلِدَ الأمةُ رَبَّتَهَا - أي سيّدتها - وأن تَرَى الحفاةَ العُراةَ العالَةَ رعاءَ الشاءِ يتطاولونَ في البنيانِ" وهذا حصل.
ومنها: زَوالُ جبالٍ عن مراسيها وكثرةُ الزَّلازلِ وكثرةُ الأمراضِ التي ما كانَ يعرفها النّاسُ سابقًا، وكثرةُ الدَّجالينَ وخطباء السُّوءِ وقد حَصَلَ ذلكَ. ومنها ادّعاءُ أناسٍ النّبوةَ وقد حَصَلَ هذا أيضًا، وتغيُّر أحوالِ الهواءِ في الصيفِ يصيرُ كأنهُ في الشتاءِ وفي الشتاءِ يصيرُ كأنهُ في الصيف، وكذلك قِلَّةُ العلمِ وكثرةُ الجَهلِ أي الجهل بعلمِ الدينِ وهذا قد حَصَلَ، وكثرةُ القَتلِ والظُّلمِ، وتقاربُ الزَّمانِ، وتقاربُ الأسواقِ، وتداعي الأمم على أمّةِ محمّدٍ كتداعيهم على قصعةِ الطَّعَامِ يحيطونَ بهم من كُلّ صوبٍ، وهذا كُلُّه حَصَلَ أيضًا.
ومن علاماتِ الساعةِ أيضًا ما أخبرَ عنها النبيُّ في حديثِهِ الذي قالَ فيه: "صنفانِ من أمتي لم أرهما - أي سيأتون من بعدي - قومٌ مَعَهم سِيَاطٌ كأذنابِ البَقَرِ يضربونَ بها الناسَ"، ثم قال: "ونساءٌ كاسياتٌ عارياتٌ مُميلاتٌ مائلاتٌ"، أي أنهنَّ يلبسنَ ثيابًا لا تسترُ جميعَ العورةِ وأنهنَّ مائلات عن طاعةِ الله ويُمِلنَ غيرهن عن طاعةِ الله أي فاجراتٌ يرمينَ الناسَ في الزنى "رءوسُهُنَّ كَأَسنِمَة البُخْتِ المائِلَةِ" أي يرفَعنَ رؤوسهنَّ ليعجب بهنَّ الناس أو يمشينَ مِشيةً خاصّةً يميّزنَ بها عن غيرهنَّ، وهذا حَصَلَ في بعض ما مضَى من الزمنِ في بغداد وغيرِها، وليسَ هذا الحديثُ منطبقًا تمامَ الانطباقِ على مجردِ اللاتي يكشفنَ شيئًا من عوراتِهِنَّ، بل أولئكَ يَزدنَ على ذلكَ أنهنَّ زانيات، أخبرَ الرسولُ عنهنَّ في تَتِمَّةِ الحديثِ أنهن "لا يَدخُلنَ الجنةَ ولا يَجِدنَ ريحَهَا وإنَّ ريحَهَا لَيوجَدُ من مسيرةِ كَذَا وكَذَا"، وهذا أيضًا حصل. والحديث رواه مسلم والبيهقي وأحمد.
وءاخرُها ظهورُ المهديّ عليه السّلامُ، وهو ثابتٌ في الحديثِ الصّحيحِ الذي رواه ابن حبّانَ في صحيحِهِ واللفظ له، وأبو داود في سننِهِ والترمذيُّ في جامعه والحاكمُ في المستدرك من حديث عبدِ الله بن مسعودٍ رضي الله عنه عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "لا تقومُ السّاعَةُ حتّى يملك الناس رجلٌ من أهلِ بيتي يواطئ اسمُهُ اسمي واسمُ أبيهِ اسم أبي فيملؤها - أي الأرض - قِسطًا وعدلا"، فالمهديُّ عليه السلامُ اسمه محمّدُ بنُ عبد الله وهو حسنيٌّ أو حسينيٌّ من ولدِ فاطمةَ رضي الله عنها، وقد وَرَدَ في الأثرِ أنه يسيرُ معهُ في أوّلِ أمرِهِ مَلكٌ ينادي: "يا أيّها النّاسُ هذا خليفةُ الله المهديُّ فاتّبعوه"، وَوَرَدَ في الأثرِ أيضًا أن المهديَّ أوّل ما يخرجُ يخرجُ من المدينةِ ويخرجُ معه ألفٌ من الملائكةِ يمدُّونَهُ ثم يذهبُ إلى مكةَ وهناك ينتظرهُ ثلاثمائة من الأولياءِ هم أوّلُ من يبايعهُ، ثم يخرجُ جيشٌ لغزوهِ فيخسِفُ الله بذلك الجيش الأرض فيما بينَ مكةَ والمدينة، بعدَ ذلك يأتي إلى بَرّ الشامِ. وفي أيّام المهديّ تحصُلُ مجاعَةٌ، والمؤمنُ في ذلكَ الوقتِ يشبعُ بالتّسبيحِ والتّقديسِ أي بذكرِ الله وتعظيمِهِ، يعني المؤمن الكامل.
وأشراطُ السّاعَةِ الكبرى عشرةٌ وهي: خروجُ الدَّجَّالِ، ونزولُ المسيحِ، وخروجُ يأجوجَ ومأجوجَ، وطلوعُ الشَّمس من مغربِها، وخروجُ دابَّةِ الأرضِ، بعد ذلك لا يقبلُ الله من أحدٍ توبةً، وهاتانِ العلامتانِ تحصلانِ في يومٍ واحدٍ بين الصّبحِ والضُّحى، ودابَّةُ الأرضِ هذه تكلمُ الناسَ وتميّزُ المؤمنَ من الكافرِ ولا أحد منهم يستطيعُ أن يَهرُبَ منها، ثمّ الدُّخَانُ، ينزلُ دخانٌ ينتشرُ في الأرضِ فيكادُ الكافرون يموتونَ من شدّةِ هذا الدُّخان، وأمّا المسلمُ يصيرُ عليه كالزّكامِ، وثلاثةُ خسوفٍ خسفٌ بالمشرقِ وخسفٌ بالمغربِ وخسفٌ بجزيرةِ العربِ، وهذه الخسوفُ لا تأتي إلا بعد خروجِ الدَّجَّالِ ونزولِ المسيحِ عيسى عليه السلام وتقعُ في أوقاتٍ متقاربةٍ، والخسوفُ معناهُ انشقاقُ الأرضِ وبَلعُ من عليها، ويحتملُ أن تقعَ هذه الخسوفُ في ءانٍ واحدٍ، ونارٌ تخرُجُ من قَعرِ عدن فتسوقُ الناسَ إلى المغربِ، وعدن أرضٌ باليمنِ.
والآنَ نسردُ بعضَ تفاصيلِ بعضِ هذه العلاماتِ والتي منها خروجُ الدَّجَّال ويقالُ له المسيحُ الدجّالُ والمسيحُ الكذَّابُ، وسُمّيَ بالمسيحِ لأنّه يُكثِرُ السّياحة فهو يطوفُ الأرضَ في نحو سنةٍ ونصفٍ يسيحُ في الدنيا إلى كلّ الجهاتِ بقدرةِ الله إلا مكّة والمدينة لا يستطيعُ أن يدخلَ مكَّةَ ولا المدينة، وقد ثَبَتَ أن الدجّالَ يأتي إلى المدينةِ فيجدُ على كلّ نَقَبٍ من أنقابِها مَلكًا معه سيفٌ مُسْلَطٌ فيفرُّ. والدجّال شأنهُ غريبٌ في تنقّلِهِ ليس مثلنا ليفتنَ الله به من شاءَ من عبادِهِ فيضلّوا معه، يسهّلُ له التّنقلَ في الأرضِ بطريقٍ غريبٍ فيُضلُّ هنا وهنا وهنا يقولُ للنّاسِ أنا ربُّكم ويظهر لهم تمويهاتٍ فيؤمن بهِ اليهودُ ثم بعضُ الذين كَتَبَ الله عليهم الشّقاوةَ من غير اليهود، فلكثرةِ سياحتِهِ يُسمَّى المسيحَ، لكنّه بما أنّهُ كافرٌ يضلّ النّاسَ يسمَّى الدَّجَّال.
ولمّا يخرجُ الدّجال الذين يؤمنونَ بهِ يشبعونَ لأنَّ الله تعالى يفتنُ بهِ بعضَ الخلقِ، فالذين يؤمنونَ به ييسّرُ الله لهم الأرزاقَ ويوسّعُ عليهم، والمؤمنونَ الذين يكذّبونَهُ ولا يتّبعونَهُ تحصُلُ لهم مجاعةٌ، فيعينهم الله بالتّسبيحِ والتّقديسِ، فهذا يقومُ مقامَ الأكلِ فلا يضرُّهُم الجوعُ، ثم لمّا ينزلُ المسيحُ عيسى عليه السَّلامُ يقتُلُ الدجالَ، بعدَ ذلكَ يصيرُ رخاءٌ كبيرٌ، ويلتقي المهديُّ بعيسى أوّل نزولِهِ فعيسى يقدّمُ المهديَّ إمامًا إظهارًا لكرامةِ أمةِ محمّدٍ وإشارةً إلى أنهُ إنّما ينزلُ ليطبّق شريعةَ محمدٍ في الأرضِ، ثم في عهدِ المسيحِ يصيرُ رخاءٌ كثيرٌ وأَمنٌ فَتُخرجُ الأرضُ ما في داخِلِهَا من الذَّهبِ حتى إنَّهُ لا يوجدُ إنسانٌ يقبلُ الصدَقَةَ من عمومِ الغنى.
والأعورُ الدَّجالُ إنسانٌ من بني ءادمَ والظّاهِرُ أنه من بني إسرائيلَ، إحدى عينيهِ طافيةٌ كالعنبةِ والأخرى ممسوحةٌ فلذلك يقالُ له الأعورُ. وهو الآنَ محبوسٌ في جزيرةٍ في البحر، الملائكةُ حبسوهُ هناكَ، وهذه الجزيرةُ ليست معروفةً، رءاه واجتمعَ به الصّحابيُّ تميمُ بن أوسٍ عيانًا، ركبَ ومن معهُ السّفينةَ فتاهَت بهم السفينة شهرًا وبَعُدَت، ثمَّ وصلوا إلى جزيرةٍ فاجتمعوا بهِ مكبَّلًا بالسّلاسل، وهو رجلٌ عظيمٌ جسدُهُ، كَلَّمَهم باللسانِ العربيّ قال: أنا فلان، وسأَلَهم عن أشياء، هل صارَ كذا، هل صارَ كذا، وسألهم عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، هل ظهرَ النبيُّ العربيُّ، ثم نَزَلَ الوحيُ على رسولِ الله بمثلِ ما رأى هذا الصحابي من الدَّجَّال. وهذا الأعورُ الدّجالُ الله تعالى ابتلاءً منه يُظهِرُ على يديهِ خوارقَ، ومن عجائبهِ أنه يشقُّ رجلًا من المؤمنينَ يكذّبهُ في وجههِ نصفين ثم يحييه بإذنِ الله فيقولُ الرجلُ الذي فُعِلَ به ذلك: لم أَزدَد بهذا إلا تكذيبًا لكَ، ويقولُ للسَّماءِ أمطري فتمطرُ، ويقول للأرضِ أَخرجي زرعَكِ فتخرجهُ، معهُ نهرانِ واحد من نارٍ وهو بَرْدٌ على المؤمنينَ وواحدٌ من ماءٍ وهو نارٌ عليهم. وأوّل ما يظهرُ الدّجال يكونُ يوم كسنةٍ ويوم كشهرٍ ويوم كأسبوعٍ، وقبلَ ظهورهِ بثلاثِ سنواتٍ تُمسِكُ السماءُ ثلثَ مائها ثم بعدَ سنةٍ تمسِكُ ثلثي مائها ثم قبلَ ظهورِهِ بسنةٍ تمسِكُ كُلَّ مائِها، ثم هذا الأعورُ الدّجّالُ يصادِفُ نبيَّ الله عيسى بفلسطين فيقتُلُهُ نبيُّ الله عيسى هناكَ ببابِ لُدّ، ولُدٌّ قريةٌ من قُرَى فلسطين.
وأمّا يأجوجُ ومأجوجُ فهم في الأصلِ قبيلتانِ من بني ءادم مِنَ البشرِ كُلُّهم كفّارٌ، وأمّا مكانُهم فهو محجوبٌ عن النّاسِ في طرفٍ من أطرافِ الأرضِ. الله تعالى حَجَزَهم عن البشرِ فلا يَراهم النّاسُ، فلا هم يأتونَ إلينا ولا نحنُ نذهَبُ إليهم، الصَّعبُ ذو القرنين عليهِ السّلامُ الذي كانَ من أكابرِ الأولياءِ حَجَزَهم عن البشرِ، بقدرةِ الله تعالى بنَى سدًّا، الله تعالى أعطاهُ من كلّ شىءٍ سببًا لأنّه وليٌّ كبيرٌ، كانت الرّيحُ تحملهُ من المشرقِ إلى المغربِ، وذو القرنين عليهِ السّلامُ بكرامةٍ أعطاهُ الله إيّاها بنَى سدًّا جبلًا شامخًا من حديدٍ ثمّ أذيبَ عليه النّحاسُ فصارَ أمتن، لا يستطيعُ أحدٌ من البشرِ أن يترقَّاهُ بطريقِ العادةِ، وهم يحاولونَ أن يخترقوا هذا الجبلَ كلَّ يومٍ فلا يستطيعونَ، ويقولونَ كلّ يوم بعدَ طولِ عملٍ وجهدٍ غدًا نُكمِلُ، فيعودونَ في اليومِ القابِلِ فيجدونَ ما فتحوه قد سُدَّ إلى أن يقولوا: غدًا نكمِلُ إن شاءَ الله، فيعودونَ في اليومِ القابِلِ فيجدونَ ما بدؤوا به قد بَقِيَ على حَالِهِ فيُكمِلونَ الحفرَ حتى يتمكنوا من الخروجِ.
ثمّ يأجوجُ ومأجوجُ لا يموتُ أحدُهم حتّى يلدَ ألفًا من صلبِهِ أو أكثر كما ذكرَ الرسولُ عليه الصلاة والسلام، فيصيرُ عددُهم قبلَ خروجهم كبيرًا جدًّا، حتَّى إنَّ البشرَ يومَ القيامة بالنسبةِ لهم من حيثُ العددُ كواحدٍ من مائةٍ، الله أعلمُ كيف يعيشونَ الآن وماذا يأكلونَ، وما يُروَى من أنَّ ءاذانَهم طويلةٌ ينامونَ على واحدةٍ ويتغطّونَ بالأخرى وأنَّهم قصار القامة فغيرُ ثابتٍ.
وفي أيّامهم تحصُلُ مجاعةٌ يمرّونَ على بحيرةِ طبريَّا التي في فلسطين فيشربونَها، فيمرُّ ءاخرهم فيقولُ كانَ هنا ماءٌ، ثم لمّا ينزلُ المسيحُ عيسى عليه السّلام من السماءِ هم ينبهتونَ، فلا يتجرّأُ المسلمونَ لحربهم، فيذهبُ سيّدنا عيسى عليه السلام والمؤمنونَ إلى جبلِ الطُّورِ يدعون الله يستغيثونَ به منهم، ويتضرّعونَ إلى الله أن يُهلِكَهم، فيُنزِلُ الله عليهم دُودًا يدخلُ رقبةَ كلّ واحدٍ منهم فيرميهِ صريعًا ميّتًا، ثم الله تعالى يرسل طيورًا فتحملهم وترميهم في البحر ثم يُنزلُ مطرًا يجرِفُ ءاثارهم إلى البحرِ، وهؤلاءِ بعد أن ينزلَ سيّدنا عيسى بمدّةٍ يظهرونَ.
وأمّا نزولُ المسيحِ عيسى عليه السلام من السّماءِ فإنّه ثابتٌ بالأحاديثِ الصّحيحةِ، فقد روى أبو داود في سننهِ وأحمدُ في مسندِهِ والبيهقيُّ وغيرُهم أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس بيني وبينه نبيٌّ - يعني عيسى عليه السلام - وإنه نازلٌ، فإذا رأيتموه فاعرفوه: رجلٌ مربوعٌ إلى الحمرة والبياض، بين مُمَصّرتين كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بللٌ، فيقاتل الناس على الإسلام فيدقُّ الصليب ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك المسيح الدجال، فيمكث في الأرض أربعين سنةً ثمَّ يتوفى فيصلّي عليه المسلمون". ومن الأمورِ العجيبةِ التي تحصُلُ في ذلكَ الوقت أيضًا أنَّ الله يُنطِقُ الشَّجَرَ والحجرَ فيقولُ للمسلمِ: يا مسلمُ هذا يهوديٌّ خلفي تعالَ فاقتُلهُ إلا شجر الغرقَدِ فإنَّه لا يدلُّ عليهِ لأنّهُ من شَجَرِهم.
ثم إنَّ المسيحَ عليه السّلامُ لمَّا ينزلُ من السّماءِ ينزلُ ويداهُ على أجنحةِ مَلكينِ، ينزلُ عند المنارةِ البيضاءِ شرقيّ دمشقَ كما ذَكَر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، مع أنَّه في ذلكَ الوقتِ هذه المنارة لم تكن موجودةً شرقيّ دمشق، أمَّا الآن فهي موجودةٌ كما وَصَفَها رسولُ الله، والمنارةُ هي بمعنَى عمودِ النُّورِ وقد عُمِلَ عمود نور للمطارِ الجديدِ شرقيّ دمشق، ثمَّ إنَّ المسيحَ لمَّا ينزلُ يلتقي مع المهديّ في بلادِ الشّامِ، والشامُ ليست سوريا فقط بل لبنان والأردن وفلسطين كلُّ هذا شَامٌ. وحدُّ الشامِ من العريشِ إلى بَالِسٍ.
وقولُهُ عليه الصلاة والسلام: "ثمّ يُتوفَّى فَيُصلّي عليهِ المسلمونَ" يُعلَمُ منهُ أنَّ الله لم يُمِتهُ بَعدُ إنَّما رفعَهُ حيًّا من الأرضِ إلى السّماءِ يقظان، ومن قالَ إنه قد توفيَ من غيرِ قتلٍ ولا صلبٍ فقد غَلِطَ، ثمَّ إنَّ الرسولَ وَصَفَ لونَهُ ففي روايةٍ في صحيح البخاريّ: "أنّه ءادم". الآدم معناهُ الأسمرُ، وفي روايةٍ أنّه وصفهُ بالأحمر، فمعنى الرّوايات أنّه ليس أبيض مشرقًا بل هو أسمر سمرةً خفيفةً مع شىءٍ من الحمرة وبياضٍ خفيفَينِ، فالذي وَرَدَ في البخاري أنه أسمرُ أما في أبي داود وَرَدَ أنه أبيض.
وأمّا قولُهُ تعالى: ﴿عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [سورة ءال عمران/55] فبحسبِ اللفظِ متوفّيكَ مقدَّمٌ، أمّا بحسبِ المعنى متوفّيكَ مؤخَّرٌ ورافعُكَ مقدَّمٌ، فالتَّرتيبُ بحسبِ المعنى: إنّي رافعُكَ إليَّ أي إلى مَحلّ كرامتي أي المكان الذي هو مُشَرَّفٌ عندي وهو السَّماء، ومطهّرُكَ من الذين كفروا أي مخلّصُكَ من الذين كفروا أي اليهود، ومتوفّيكَ أي بعد إنزالِكَ إلى الأرضِ، أي مميتُكَ بعد إنزالِكَ إلى الأرضِ، هذا هو القولُ الصَّحيحُ الموافِقُ للأحاديثِ، وهكذا فَسَّرَ عبدُ الله بن عبّاسٍ ترجمان القرءانِ الآية، أي من بابِ المقدّمِ والمؤخَّرِ كما في قولِهِ تعالى: ﴿وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى﴾ (4) ﴿فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى﴾ (5) [سورة الأعلى] الغثاءُ اليابِسُ المتكسّرُ والأحوى الأخضرُ، والنّباتُ أوّلا يكونُ أحوى أي أخضر ثمّ يكونُ غثاءً أي يابسًا متكسّرًا. ويجوزُ تفسيرُ ﴿مُتَوَفِّيكَ﴾ (55) أي قابضكَ من الأرضِ وأنت حيٌّ ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ (55) أي إلى محل كرامتي، كلا التفسيرينِ جائزٌ، إنما الذي لا يجوزُ تفسيرُ متوفيكَ بمعنى مميتُكَ قبلَ رفعِكَ إلى السماءِ وإنزالِكَ إلى الأرضِ، لأنَّ هذا يعارِضُ حديث أبي داود المذكور. وما تدَّعيه القاديانية أتباع غلام أحمد القادياني نسبة إلى قاديان من الهند وتُعَدُّ اليوم من الباكستان من أن المسيح عيسى ابن مريم مات وصُلب فهو كذب، وغلام أحمد هذا دجال لأنه قال أنا نبيٌّ وقال إني أنا المسيح الموعود وقال تمويهًا على الناس إني نبي في ظل محمد، وقد كذب على الله وعلى رسوله. قال الله تعالى ﴿وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ [سورة الأحزاب/40] أي ءاخر النبيين وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انقطعت الرسالة والنبوة فلا نبيّ بعدي ولا رسول وبقيت المبشّرات".
وقد أخرجَ ابن أبي حاتمٍ والنسائيُّ عن ابن عبّاسٍ قالَ: كانَ عيسى مع اثني عشرَ من أصحابهِ في بيتٍ فقال: إنَّ منكم من يكفُرُ بي بعد أن ءامَنَ، ثمَّ قالَ: أيكم يُلقى عليه شَبَهي ويُقتَلُ مكاني فيكونُ رفيقي في الجنّةِ، فقامَ شابٌّ أحدثهم سنًّا فقال: أنا، قال: اجلس، ثم عادَ فعَادَ، فقال: اجلس، ثم عَادَ فَعَادَ الثالثةَ، فقال: أنتَ هُوَ، فأُلقِيَ عليهِ شبهُهُ، فأُخذَ الشابُّ فَصُلِب بعدَ أن رُفِعَ عيسى عليه السَّلام من رَوزنةٍ في البيتِ، وجاءَ الطلبُ من اليهود فأخذوا الشابّ، وهذا إسنادُهُ صحيحٌ، والرّوزنةُ نافذةٌ في السطحِ يصعدُ إليها، في زاويةٍ من البيتِ تكونُ.
أمّا ما يرويه بعضُهم من أنَّ يهوديًّا جاءَ مع اليهودِ ليدلهم وَوَعدوهُ مبلغ كذا من المالِ، ثم لمَّا أدخلهم إلى البيتِ أُلقِيَ عليهِ شبهُ المسيحِ فظنّوهُ هو المسيحَ فقتلوهُ فهذا غيرُ ثابتٍ لكنه مشهورٌ عند المؤرّخينَ، والصحيحُ هو ما قالَهُ عبدُ الله بن عبّاسٍ.
وفي ءاخر الزّمانِ ينزوي الإيمانُ إلى المدينةِ المنوّرةِ كما تنزوي الحَيَّةُ إلى جُحرِهَا أي إلى وكرِهَا، لأنَّ ءاخرَ قريةٍ من قُرَى الإسلام تخربُ هي المدينة كما وَرَدَ في الحديثِ الذي رواه الترمذي: "ءاخرُ قريةٍ من قُرَى الإسلامِ خرابا المدينةُ"، ولا بدَّ أن تكونَ المدينة أحسن حالا من غيرِها فيما مَضَى وفيما سيأتي.
وهذا هُوَ المرادُ بالحديثِ الذي رواهُ مسلمٌ: "إنَّ الإيمانَ ليأرِزُ إلى المدينةِ كما تَأرِزُ - أي تنزوي - الحيَّةُ إلى جُحرِهَا".
وقد خالفت الوهابية هذا الحديث الصحيح فَفَضَّلَتْ نجدها، ومن المشهور عنهم أن أحدهم إذا كان في الحجاز فعاد إلى نجد الرياض ونحوها من بلدانِهِم يقول الحمد لله دخلنا دِيرة الإيمان. فَضَّلوا نجدهم الذي قال الرسول فيه "هناك يطلع قرن الشيطان" على الحجاز وهذا من أدلة ضلالهم. والحديث رواه البخاري.
وفي ءاخرِ الزمانِ يُرفَعُ القرءانُ إلى السماءِ ولا تبقى ءايةٌ من القرءانِ في الأرضِ، عندئذٍ يموتُ الخضرُ عليه السلام.
ثمّ إنَّهُ بعدَ حصولِ أشراطِ السّاعةِ الكبرى العشرة تقومُ القيامةُ على الكفَّارِ، وقبلَ ذلك بمائةِ عامٍ تأتي ريحٌ وتَدْخُلُ تحتَ إبطِ كلّ مسلمٍ فيموت كلّ المسلمينَ ويبقى الكفّارُ فتقومُ القيامَةُ عليهم، ينفخُ إسرافيلُ عليه السلام في الصّورِ أي في البوقِ فيفزعونَ من هذا الصّوتِ، فإن صوتَ نفخةِ إسرافيل في البوقِ هولهُ عظيمٌ تتقطَّعُ منه قلوبُ الكفارِ حتَّى يموتوا من شدَّةِ هذا الصَّوتِ، وكذلك الجِنُّ الكفَّارُ يموتونَ تلك السّاعة، فلا يبقى بشرٌ ولا جنٌّ على وجهِ الأرضِ إلا وقد ماتَ، وأمّا الذين ماتوا قبلَ ذلكَ من المسلمينَ والكافرينَ فيُغشَى عليهم تلكَ الساعة أي يُغمَى عليهم إلا الشُّهَدَاء أي شهداء المعركَةِ فلا يُغشَى عليهم تلكَ السَّاعة، قالَ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ: "النَّاسُ يصعقون يومَ القيامةِ فأكون أول من يُفيق، فإذا أنا بموسى ءاخذٌ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أَفاقَ قبلي أم جوزي بصعقة الطُّور" رواه البخاريُّ. والأنبياءُ لمّا يصعقونَ في ذلكَ الوقتِ لا يصيبهم ألمٌ وكذلك الأتقياء، ولمَّا يفيقُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من تلكَ الصّعقةِ يجدُ موسى وهو ماسكٌ بقائمةٍ من قوائمِ العرشِ، ولم يتبيَّن له أمرهُ هل أُعفِيَ من الصعقَةِ فلم يُصعَق، أم صُعِقَ فأفَاقَ قَبلَهُ.
ثمّ بعدَ موتِ البَشَرِ يموتُ الملائِكَةُ، وءاخرهم موتًا عزرائيلُ، قالَ بعضُ العلماءِ: يُستثنى خَزَنَةُ الجنةِ وَخَزَنَةُ جهنَّمَ وحملةُ العرشِ والحُورُ والولدان. ثمّ بعدَ ذلكَ يُحيي الله إسرافيل الذي كانَ نَفَخَ في الصُّورِ المرّةَ الأولى، ثمّ ينفخُ مرّةً ثانيةً وذلكَ بعدَ أربعينَ عامًا فيقومُ الأمواتُ من قبورِهِم وبعدَ ذلكَ السُّؤالُ والحِسَابُ.

الشرح القويم
في حل ألفاظ الصراط المستقيم

قائمة الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم