في العقيدة الإسلامية كتاب الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم
الكَلامُ

الكَلامُ

الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم

الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم قال المؤلف رحمه الله: الكَلامُ
الكَلامُ هُو صِفةٌ أزَليّةٌ أبديّةٌ هُوَ متكَلِمٌ بها ءامِرٌ، نَاهٍ، وَاعِدٌ، مُتَوعّدٌ، لَيْسَ ككَلامِ غَيْرِه، بلْ أزَليٌّ بأَزَليَّةِ الذّاتِ لا يُشْبِهُ كَلامَ الخَلْقِ وليْسَ بِصَوْتٍ يَحدُثُ منَ انْسِلالِ الهَواء أو اصطِكَاكِ الأَجْرامِ، ولا بِحَرفٍ يَنْقَطِعُ بإطباقِ شَفَةٍ أو تَحْرِيكِ لِسَانٍ.
ونَعتَقدُ أنَّ مُوسَى سَمِعَ كَلامَ الله الأَزَليَّ بِغَيْرِ حَرْفٍ ولا صَوْتٍ كمَا يَرَى المؤمِنُونَ ذاتَ الله في الآخِرَةِ من غيرِ أن يَكُونَ جَوْهَرًا ولا عَرَضًا لأَنَّ العَقْلَ لا يُحِيلُ سَماعَ مَا لَيْسَ بِحَرفٍ ولا صَوْتٍ.
وكَلامُه تَعالَى الذَّاتيُّ لَيْسَ حُرُوفًا مُتَعَاقِبَةً كَكَلامِنا، وإذَا قرَأ القَارِئ مِنَّا كَلامَ الله فقِرَاءَتُه حَرْفٌ وصَوْتٌ لَيْسَتْ أَزَلِيّةً.
الشرح: يجبُ لله تعالى الكلامُ وهو صفةٌ أزليَّةٌ أبديَّة لا يُشبهُ كلامَ المخلوقين لأن كلامَ المخلوقين حادثٌ وكلامَ الإنسان صوتٌ يعتمدُ على مخارجَ ومقاطعَ ويُبتدأُ ويُختَتَمُ ويكون بلغاتٍ وحروفٍ، ومنه ما يحصل بتصادم جسمين، ويُعبَّر عنه - أي كلام الله - بالقرءانِ وكذلك غيره من الكتب المنزّلة، وليست هذه الكتبُ المنزّلةُ عينَ الكلام الذّاتيّ بل هي عباراتٌ عنه. والدّليلُ على ذلك من حيث العقلُ أنه لو لم يكن متكلمًا لكان أبكمَ والبَكَمُ نقصٌ والنَّقصُ مستحيلٌ على الله، وأما دليلهُ النّقليُّ النّصوصُ القرءانيّةُ والحديثيّةُ ومن ذلك قولُه تعالى: ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [سورة النساء/164] أي أسمعَهُ كلامَهُ الأزليَّ الأبديَّ ففهم منه موسى ما فهم، فتكليمُ الله أزليٌّ وموسى وسماعُهُ لكلامِ الله حادثٌ.
فائدةٌ مهمةٌ: إن مما استدلَّ به أهل الحقّ على أنَّ كلامَ الله تعالى ليس حرفًا ولا صوتًا ءايات منها قوله تعالى: ﴿ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾ [سورة الأنعام/62] وقالوا لو كانَ الله تعالى يتكلمُ بحرفٍ وصوتٍ كخلقه لجازَ عليه كلّ صفات الخلق من الحركةِ والسكونِ وغيرِ ذلك وهذا محالٌ، فلذلك وَجَبَ أن يكونَ كلام الله غير حرف وصوت، ويدلُّ على ذلك قوله تعالى: ﴿وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾ (62) وذلك لأن الله يكلمُ كل إنسانٍ يوم القيامة فيُسمعهُ كلامه ويحاسِبُ من يحاسبه منهم به فيَفهمُ العبد من كلام الله السؤال عن أفعالِهِ وأقوالِهِ واعتقاداته، وينتهي الله عزَّ وجلَّ من حسابهم في ساعة أي وقت قصير من موقفٍ من مواقِفِ القيامةِ، ويومُ القيامة كُلُّه خمسونَ ألفَ سنة.
فلو كانَ حسابُ الله لخلقِهِ من إنسٍ وجِنّ بالحرفِ والصوتِ ما كان ينتهي من حسابهم في مائةِ ألفِ سنة لأن الخلقَ كثيرٌ ويأجوج ومأجوج وحدهم يوم القيامة البشر كلهم بالنسبة لهم كواحدٍ من مائة، وفي روايةٍ كواحدٍ من ألفٍ، وبعضُ الجن يعيشون ءالافًا من السنين، فلو كان حسابُ الخلق بالحرفِ والصوتِ لكان إبليسُ وحده يأخذُ حسابه وقتًا كثيرًا لأن إبليسَ يجوز أن يكون عاشَ مائة ألف سنة ولا يموتُ إلا يوم النفخة، وحسابُ العبادِ ليس على القولِ فقط بل على القولِ والفعلِ والاعتقادِ. وكذلك الإنسُ منهم من عاشَ ألفي سنة ومنهم من عاشَ ألفًا وزيادة، ومنهم من عاشَ مئات من السنين فلو كان حسابُهُم بالحرفِ والصوتِ لاستغرقَ حسابُهُم زمانًا طويلا جدًّا ولم يكن الله أسرع الحاسبين بل لكان أبطأ الحاسبين، والله تعالى يقول: ﴿وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾ (62) ، ثم الحروفُ تتعاقَبُ مهما كانت سريعةً تأخُذُ شيئًا من الوقت. أما الله تعالى فكلامُهُ أزليٌّ أبديٌّ ليس حرفًا ولا صوتًا ولا يُبتدأُ ولا يُختَتَمُ ولا يزيدُ ولا ينقُصُ، فمعنى قولِنا القرءانُ كلامُ الله ليس بمعنى أن الله نطقَ به كما نحنُ نقرؤه، إنما معناهُ أنه يدلُّ على كلامِ الله الذي ليس حرفًا ولا صوتًا، على هذا المعنى نقولُ القرءانُ كلام الله.
والله تعالى أسمعَ جبريلَ عليه السلام قبل أن ينزلَ بالقرءانِ على سيدنا محمد كلامًا غير كلامه الأزلي الذي ليس حرفًا ولا صوتًا، أسمعَهُ كلامًا مخلوقًا بصوتٍ وحروفٍ متقطعةٍ على ترتيبِ اللفظِ المنزلِ وفَهِمَ منه جبريلُ هذا اللفظ المنزل، الله تعالى خلقَ صوتًا بحروفِ القرءانِ فأسمعَ جبريلَ ذلك الصوت وجبريلُ تلقاهُ ونَزلَ به على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بأمر الله، وكذلك وَجَدَ جبريلُ هذا الصوتَ الذي سمعَهُ مكتوبًا في اللوحِ المحفوظِ، جبريل أخذه من هناك كما سمع هذا الصوت.
فَيُفهَمُ من هذا أن جبريلَ لم يسمع القرءانَ من كلامِ الله الأزلي الذي ليسَ حرفًا ولا صوتًا.
وليس معنى ذلك أن جبريلَ لا يسمعُ كلامَ الله، بل جبريلُ من الملائكةِ الذين يسمعونَ كلامَ الله ويفهمونَ منه الأوامرَ، فسمعَ جبريلُ كلامَ الله وفَهِمَ منه أن الله يأمرُهُ بأن يقرأَ ذلك الصوت الذي سمعهُ مرتَّبًا بحروفِ القرءانِ على سيدنا محمد، فأنزلَهُ على سيدنا محمد مُفَرَّقًا على حَسَبِ ما أمرَهُ الله.
أما الدليلُ على أن العبادَ يسمعونَ كلامَ الله يومَ القيامة فمأخوذٌ من حديثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحدٍ إلا سيكلمه ربُّه يومَ القيامة ليس بينه وبينه تَرجمانٌ ولا حَاجِبٌ يحجبهُ" رواه البخاري.
فإن قالوا أي المشبهة: دليلُنَا على أن كلامَ الله بالحرفِ والصوتِ قولُه تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (82) فالجوابُ: لو كان الأمرُ كما تدَّعونَ لتناقَضَت هذه الآيةُ مع غيرِها من الآياتِ والقرءانُ يتعاضَدُ ولا يتناقَضُ.
وإنما معنى هذه الآية أن الله يُوجِدُ الأشياءَ بدون تعبٍ ومشقةٍ وبدون ممانعةِ أحدٍ له، أي أنه يخلقُ الأشياءَ التي شاءَ أن يخلقَهَا بسرعةٍ بلا تأخرٍ عن الوقتِ الذي شاءَ وجودها فيه، فمعنى ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ (82) يدل على سرعةِ الإيجادِ وليس معناه كلما أرادَ الله خلقَ شىءٍ يقول كن كن كن وإلا لكان معنى ذلك أن الله كلّ الوقتِ يقولُ كن كن كن وهذا محالٌ لأن الله عزَّ وجلَّ يخلقُ في اللحظةِ الواحدةِ ما لا يَدخُلُ تحتَ الحَصرِ.
ثم "كن" لغةٌ عربيةٌ والله تعالى كانَ قبلَ اللغاتِ كلها وقبلَ أصنافِ المخلوقاتِ فعلى قولِ المشبهةِ يلزَمُ أن يكونَ الله ساكتًا قبل ثم صار متكلمًا وهذا محالٌ لأن هذا شأن البشرِ وغيرِهم، وقد قالَ أهل السنة: لو كانَ يجوزُ على الله أن يتكلمَ بالحرفِ والصوتِ لجازَ عليه كل الأعراضِ من الحركةِ والسكونِ والبرودةِ واليبوسةِ والألوانِ والروائحِ والطعومِ وغيرِ ذلك وهذا محالٌ، والله تعالى خَلَقَ بعض العالمِ متحركًا دائمًا كالنجوم وخلقَ بعض العالمِ ساكنًا دائمًا كالسموات، وخلقَ بعض العالم متحركًا في وقتٍ وساكنًا في وقتٍ وهم الإنسُ والجن والملائكةُ والرياحُ والنورُ والظلامُ والظّلالُ، وهو سبحانه وتعالى لا يُشبِهُ شيئًا من هذه العوالمِ كُلّها.
وقال بعض أهل السنة إن الله يخلق الخلق بكن أي بالحكم الأزلي بوجوده فالآية عندهم عبارة عن أن الله تعالى يخلق العالم بحكمه الأزلي، والحكم كلام أزلي في حق الله ليس كلامًا مركبًا من حروف ولا صوت.
وأما ما ذهبت إليه المجسمة من أن الله ينطق بالكاف والنون عند خلق كل فرد من أفراد المخلوقات فهو سَفَهٌ لا يقول به عاقل لأنهم قالوا قبل إيجاد المخلوق ينطق الله بهذه الكلمة المركبة من كاف ونون فيكون خطابًا للمعدوم، وإن قالوا إنه يقول ذلك بعد إيجاد الشىء فلا معنى لإيجاد الموجود.
وأما التفسيران اللذان ذهب إليهما أهل السنة فإنهما موافقان للعقل والنقل، ثم إنه يلزم على قول المجسمة بشاعة كبيرة وهي أن الله تبارك وتعالى لا يتفرغ من النطق بكلمة كن وليس له فعل إلا ذلك، لأنه في كل لحظة يخلق ما لا يدخل تحت الحصر. فكيف يصح في العقل أن يخاطب الله كل فرد من أفراد المخلوقات بهذا الحرف. كيف يُعقل أن ينطق الله تعالى بالكاف والنون بعدد كل مخلوق يخلقه فإن هذا ظاهر الفساد لأنه يلزم عليه أن يكون الله ليس له كلام إلا الكاف والنون. فما أبشع هذا الاعتقاد المؤدّي إلى هذه البشاعة.
فالتفسيران الأوّلان أحدهما وهو الأول قال به الإمام أبو منصور الماتريدي والثاني قال به الأشاعرة كالبيهقي.
ثم إن الله ما وصف نفسه بالنطق إنما وصف نفسه بالكلام أي بأنه متكلم فلو كان كلام الله نطقًا لجاءت بذلك ءاية من القرءان. والموجود في القرءان الكلام والقول وهما عبارة عن معنًى قائم بذات الله أي ثابتٍ له معناه الذكر والإخبار وليس نطقًا بالحروف والصوت. وقد ألّف الحافظ أبو المكارم المقدسي جزءًا في تضعيف أحاديث الصوت على وجه التحقيق، والبيهقي رحمه الله قد صرّح بأنه لا يصح حديث في نسبة الصوت إلى الله.
وأما ما في كتاب فتح الباري في كتاب التوحيد من القول بصحة أحاديث الصوت فهو مردود وهو نفسه في كتاب العلم ذكر خلاف ما ذكره في كتاب التوحيد،
على أنّ ما ذكره في كتاب التوحيد من إثبات الصوت قال إنه صوت قديم ولم يحمله على الظاهر الذي تقوله المشبهة إنه صوت حادث يحدث شيئًا فشيئًا يتخلله سكوت كما قال زعيم المشبهة ابن تيمية إن كلامه تعالى قديم النوع حادث الأفراد، ومثل ذلك قال في إرادة الله وكلا الأمرين باطل. والحافظ لا يعتقد قيام الحادث بذات الله، فشرحه هذا مشحون بذكر نفي الحركة والانتقال ونحو ذلك في مواضع كثيرة عن الله تعالى، فهو يؤوّل الأحاديث التي ظاهرها قيام صفة حادثة بذات الله على غير الظاهر.
ثم إنه يلزم من قول إن الله يخلق بلفظ كن الذي هو لفظ مركب من حرفين خَلْقُ المخلوق بالمخلوق وهذا محال، إنما يخلق الله المخلوقات بقدرته القديمة ومشيئته القديمة وعلمه القديم.
ثم إن القول بأن الله يتكلم بصوت مخالف لمعتقد أهل السنة الأشاعرة والماتريدية فليحذر. ومن شاء الاطلاع على عدم صحة أي حديث في نسبة الصوت إلى الله فليطالع جزء أبي المكارم. ولا حجة للمشبهة الصوتية فيما رُوي من أن الله تعالى يقول بعد أن يقبض عزرائيل أرواح الخلق والملائكة فيقبض الله روح عزرائيل: لمن الملك اليوم فيجيب نفسه بنفسه: لله الواحد القهار، لأنه حديث ضعيف رواه الطبراني. يقال لهم أليس الله تعالى كان موجودًا قبل هذه الحروف فهي محدثة أحدثها هو فكيف يتصف الله بشىء محدث. بل قولهم فيه نسبة الحدوث إلى ذات الله لأن ما يتّصف بالحادث فهو حادث وإنما تأويل ما ورد في القرءان من هذه الألفاظ أنها عبارة عن كلامه الأزلي الأبدي. فالكلام الأزلي يُعَبَّرُ عنه باللفظ الماضي وبلفظ المضارع وبلفظ الأمر فكلام الله القائم بذاته غير متجزئ ولا متبعض كما أن حياته صفة قائمة بذاته لا تتجزأ ولا يتخللها انقطاع.
وأحسن منه من حيث الإسناد ما رواه أبو بكر عبد الله بن أبي داود في كتابه "البعث" ص26 قال أخبرنا أبو بكر محمد قال حدثنا أبو بكر عبد الله بن أبي داود قال حدثنا الحسن بن يحيى بن كثير قال حدثنا أبي قال حدثنا سُليم ابن أخضر عن التيمي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ينادي منادٍ بين يدي الصيحة يا أيها الناس أتتكم الساعة - ومدَّ بها التيمي صوته - قال فيسمعه الأحياء والأموات وينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا ثم ينادي مناد لمن الملك اليوم لله الواحد القهار. أخرج هذا الحديث الديلمي في فردوس الأخبار وعزاه السيوطي لابن أبي الدنيا في البعث وعزاه لعبد بن حميد في زوائد الزهد لابن أبي حاتم والحاكمُ وصححه وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس موقوفًا عليه. وهذا سالم من نسبة النطق بالصوت إلى الله وهو عقيدة أهل التنزيه وهم أهل الإثبات والتنزيه، يثبتون لله ما أثبته لنفسه وما أثبته له نبيُّه مع تجنّب حمل النصوص على ظواهر المتشابه بل يعتقدون للمتشابه معاني تليق بالله ليس فيها إثبات صفة حادثة لله كما أنهم ينزّهون ذاتَه عن الحجميّة والجسميّة فينبغي أن لا يلتفت إلى ما يذكر في كثير من التفاسير من أن الله تعالى هو الذي يقول بعد فناء الخلق كلهم سوى الجن والملائكة مجيبًا لنفسه لمن الملك اليوم لله الواحد القهار فإنه يتبادر إلى ذهن المطالع أن الله ينطق بالصوت في ذلك الوقت وهذا مما لا يجوز اعتقاده.
قال المؤلف رحمه الله: والقُرْءانُ لَهُ إطْلاقَانِ: يُطْلَقُ علَى اللّفْظِ المُنزَّلِ على محمدٍ وعلَى الكَلامِ الذَّاتيّ الأزلي الذي لَيْسَ هُوَ بِحَرْفٍ ولا صَوْتٍ ولا لُغَةٍ عَربيَّةٍ ولا غَيْرِها. فَإن قُصِدَ بهِ الكَلامُ الذَّاتيُّ فهو أزليٌّ ليس بحرفٍ ولا صوتٍ، وإن قُصدَ به وبسائرِ الكتبِ السماوية اللّفْظُ المُنَزَّلُ فمنه ما هو باللغةِ العبريةِ ومنهُ ما هو باللغةِ السُّريانيةِ وهذه اللغاتُ وغيرُها من اللغاتِ لم تكن موجودةً فخلقَهَا الله تعالى فَصَارت موجودةً والله تعالى كانَ قبلَ كلّ شىءٍ، وكانَ متكلمًا قبلَها ولم يزل متكلمًا وكلامُهُ الذي هو صفتُهُ أزليٌّ أبديٌّ وهو كلام واحد وهذهِ الكتبُ المنزلةُ كُلُّها عباراتٌ عن ذلكَ الكلامِ الذاتيّ الأزلي الأبدي، ولا يلزمُ من كونِ العبارةِ حادثةً كونُ المعبَّر عنه حادثًا ألا تَرَى أننا إذا كَتَبنَا على لوحٍ أو جدارٍ "الله" فقيلَ هذا الله فهل معنَى هذا أن أشكالَ الحروفِ المرسومة هي ذات الله لا يتوهَّمُ هذا عاقلٌ إنّما يُفهمُ من ذلكَ أن هذه الحروف عبارةٌ عن الإلهِ الذي هو موجودٌ معبودٌ خالقٌ لكلّ شىءٍ ومعَ هذا لا يقالُ القرءانُ مخلوقٌ لكن يُبَيَّن في مقامِ التَّعليمِ أن اللفظَ المنزّلَ ليسَ قائمًا بذاتِ الله بل هو مخلوقٌ لله لأنه حروفٌ يسبِقُ بعضُها بعضًا وما كانَ كذلك حادثٌ مخلوقٌ قطعًا. لكِنّه ليْسَ مِنْ تصنِيفِ مَلَكٍ ولا بَشَرٍ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَن الكَلامِ الذَاتيّ الذي لا يُوصفُ بأنَّه عَرَبيٌّ، ولا بأَنّهُ عِبْرانيٌّ، ولا بِأَنَّهُ سُرْيَانِيٌّ، وكُلٌّ يُطْلَق علَيْهِ كَلامُ الله، أيْ أنَّ صِفَةَ الكَلامِ القَائِمَة بذَاتِ الله يُقالُ لَها كَلامُ الله، واللّفْظُ المُنَزَّلُ الذي هُو عِبَارَةٌ عَنْهُ يقَالُ لَه كَلامُ الله.
الشرح: التلفظ بهذه العبارة القرءان مخلوق حرام، لكن يبيّن في مقام التعليم أن اللفظ المنزل ليس قائمًا بذات الله بل هو مخلوق لله لأنه حروف يسبق بعضها بعضًا وما كان كذلك فهو حادث مخلوق قطعًا وإلا فالتلفظ بهذه العبارة القرءان مخلوق حرام، فمن كفّر من السلف المعتزلة لقولهم القرءان مخلوق فذلك لأن المعتزلة لا تعتقد أن لله كلامًا هو صفة له بل تعتقد أن الله متكلم بكلام يخلقه في غيره كالشجرة التي سمع موسى عندها فكفروهم لذلك.
قال المؤلف رحمه الله: وقد نُقِلَ هذا التفصيلُ عن أبي حنيفةَ رضي الله عنه وهوَ من السلفِ أدركَ شيئًا من المائةِ الأولى ثم توفيَ سنة مائةٍ وخمسينَ هجرية قالَ: "والله يتكلمُ لا بآلةٍ وحرفٍ ونحنُ نتكلّم بآلةٍ وحرفٍ" فليُفهم ذلكَ، وليسَ الأمرُ كما تقولُ المشبهةُ بأن السلفَ ما كانوا يقولونَ بأن الله متكلمٌ بكلامٍ ليسَ بحرفٍ وإنما هذا بدعةُ الأشاعرة، وهذا الكلامُ من أبي حنيفة ثابتٌ ذكرهُ في إحدى رسائلِهِ الخمسِ.
الشرح: القرءانُ يُطلَقُ ويرادُ به الكلامُ الذّاتيُّ الذي هو معنًى أي صفةٌ قائمةٌ بذاتِ الله ويُطلَقُ على اللَّفظِ المنزَّلِ على سيدنا محمد، ومن الأدلَّة الواضحةِ في بيانِ أن القرءانَ يُطلَقُ ويُرادُ به اللّفظُ المنزَّلُ قوله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ﴾ [سورة الفتح/15] فالكفَّارُ يريدون تبديلَ اللفظِ المنزَّلِ وليس الصّفةَ الذّاتيةَ، وكذلك قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءانَهُ﴾ [سورة القيامة/18] أي إذا جمعناه لك في صدرك فاتبع قرءانه أي اعمل به، ويقال قرأت الماء في الحوض أي جمعته.
فائدة: من الدليلِ الصريحِ على أن الله تعالى لم يقرإ القرءانَ على جبريل كما قرأهُ جبريلُ على محمدٍ وقرأهُ محمدٌ على صحابتِهِ قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ [سورة الحاقة/40] فلو كانَ القرءانُ بمعنى اللفظ المنزلِ عينَ كلامِ الله الذي هو صفتُهُ لم يقل ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ (40) أي جبريل بإجماع المفسرين، فالآيةُ صريحةٌ في أن القرءانَ بمعنى اللفظِ المنزلِ المقروءِ هو مقروءُ جبريلَ وليس مقروءَ الله تعالى، وهذا دليلٌ مفحِمٌ للمشبّهةِ، فلو كان الأمرُ كما تقولُ المشبهة لكانت الآية: إنه لقولُ ذي العرشِ.
ومن أشد المشبهة تعلقًا بقولهم الفاسد ابنُ تيمية فإنه قال إن كلام الله حروف متعاقبة يسبق بعضها بعضًا ويتخلله سكوت، وكذلك قال إرادة الله تحدث شيئًا فشيئًا، فجعل الله تعالى متصفًا بصفتين حادثتين فيكون هو نسب الحدوث إلى الله لأن من يقوم به صفة حادثة فهو حادث، وقد قال أبو حنيفة من اعتقد أن صفة الله حادثة فهو كافر، وكذلك من شك في ذلك أو توقف اهـ وذلك في إحدى رسائله الخمس التي هي صحيحة النسبة إليه كما قال المحدث الحافظ محمد مرتضى الزبيدي وذلك في شرحه على إحياء علوم الدين في أوائل الجزء الثاني، قال ذلك بعد ذكر اختلاف الناس في نسبتها إليه. وهذا دليل فساد فهم ابن تيمية وفساد عقله. ولقد صدق الحافظ أبو زرعة العراقي في قوله: إن علمه أكبر من عقله، أي أن محفوظاته كثيرة وعقله ضعيف.ولا معنى لقول إن الله يتكلم بصوت لا كأصواتنا كما أنه لا معنى لقول المجسمة الله جسم لا كالاجسام.
قال صاحب الخصال الحنبلي قال أحمد: "من قال الله جسمٌ لا كالأجسام كفر". فتبين أن المجسمة والمعتزلة كلتاهما فرقتان ضالتان.
قال الحافظ محمد مرتضى الزبيدي: "لم يتوقف أصحابنا من أهل ما وراء النهر في تكفير المعتزلة" اهـ أي لقولهم بأن العبد يخلق أفعاله. فتبين بهذا بطلان قول من احتج بقول الإمام أحمد للمعتصم يا أمير المؤمنين. قال هذا القائل لأن المعتصم وافق المعتزلة في عقيدتهم ومع ذلك لم يكفره الإمام أحمد بل خاطبه بأمير المؤمنين. فالجواب أن المعتصم ومأمونًا وغيرهما من الخلفاء الذين وافقوا المعتزلة في القول بأن القرءان مخلوق ودعوا الناس إلى ذلك بالقوة والتعذيب لم يوافقوا المعتزلة في القول بأن العبد يخلق أفعاله ولا في القول بأن الله متكلّم بكلام يخلقه في غيره وليس له صفة الكلام القائمة بذاته، وقد شهد بذلك شيخ المعتزلة ثمامة ابن أشرس فقال: إن المأمون لم يوافقهم إلا في القول بخلق القرءان اهـ. فليحذر كلام محمد سعيد البوطي في بعض مؤلفاته حيث إنه استدل بقول الإمام أحمد للمعتصم يا أمير المؤمنين وجعله حكما للمعتزلة بأنهم لا يُكفَّرون. ثم إن المعتزلة ثبت عنهم أنهم يقولون بأن الله كان قادرًا على خلق حركات العباد وسكناتهم قبل أن يعطيهم القدرة عليها فلما أعطاهم القدرة عليها صار عاجزًا عن خلقها، ذكر ذلك الإمامان أبو منصور الماتريدي وأبو منصور البغدادي، وإمام الحرمين والإمام أبو سعيد المتولي والإمام أبو الحسن شيث بن إبراهيم،كل هؤلاء في مؤلف له نص على ذلك، وكذلك نص عليه أبو المعين النسفيّ الحنفي قال فالمعتزلة قالوا الله أعطى العبد القدرة على أعماله فلم يبق لله سلطان بل هو عاجز عن خلق مقدور العبد اهـ. فكيف يستجيز مسلم أن يقول عمن هذا اعتقاده إنه مسلم.
ثم إنه على قولهم نسبوا إلى الله البَكَم لأنه لا يوصف الذات بأنه متكلمٌ بكلامٍ قائمٍ بغيره. فالله تعالى عند المعتزلة متكلم بمعنى أنه خالق الكلام في غيره لا أنه موصوف بكلام قائم بذاته وهذا إثبات البكم لله والبَكَم نقص.
قال المؤلف رحمه الله: والإطلاقانِ من بَابِ الحَقِيقَةِ لأنَّ الحَقِيقَةَ إِمَّا لُغَوِيَّةٌ وإِمّا شَرْعِيَّةٌ وإمَّا عُرْفِيَّةٌ.
الشرح: اللفظُ إذا كان يُستَعمَلُ لمعنًى واحدٍ أو لأكثرَ من معنًى فإذا استُعمِلَ في معناهُ الحقيقيّ يقال له حقيقةٌ لغويّةٌ، وإن نُقِلَ إلى معنًى ءاخرَ فذلك المعنى الآخرُ مجازٌ بالنّسبةِ لهذا اللّفظ.
وأما الحقيقةُ الشَّرعيَّةُ فالمرادُ بها أن حَمَلَةَ الشَّرعِ أحيانًا يستعملونَ تلك الكلمة في معنًى معروفٍ عندهم اصطلحوا عليه، فهذا الإطلاقُ الذي اصطلحوا عليه يقالُ له حقيقةٌ شرعيَّةٌ بحيث إذا أُطلِقَ هذا اللّفظ يَتَبَادَرُ منه هذا المعنى الذي تعارفه حملة الشّرعِ.
وأما الحقيقةُ العُرفيَّةُ فالمرادُ بها في عُرفِ الناسِ وعادَاتِهِم، مثال ذلك كلمةُ الدَّابّة في الأصلِ معناها كلُّ ما يَدِبُّ على وجهِ الأرض من إنسانٍ وبهائمَ وحشراتٍ ونحو ذلك، ثم الناسُ جعلوه للحمار وشبهِ ذلك، فعلى الحقيقةِ العرفيَّةِ هذه الكلمةُ معناها الحمارُ وشبه ذلك.
قال المؤلف رحمه الله: وتَقْريبُ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ الجَلالَةِ "الله" عِبَارَةٌ عن ذَاتٍ أزَليّ أبَدِيّ، فَإِذَا قُلْنَا نَعْبدُ الله فَذَلِكَ الذّاتُ هُوَ المَقْصُودُ، وإذَا كُتِبَ هذَا اللّفْظُ فقِيْلَ: مَا هَذا؟ يُقَال: الله، بِمعنَى أنَّ هذِه الحُروفَ تَدُلُّ على ذلكَ الذّاتِ الأزَليّ الأبَدِيّ لا بمَعْنى أنَّ هذِهِ الحُروفَ هي الذَّاتُ الذي نَعبُدُهُ.
الشرح: تقريبُ ذلك أنه يصحُّ أن يقالَ تلفَّظتُ "الله" أي نطقت بهذا اللفظ الذي يدلُّ على ذاتِ الله المقدَّسِ، ويقال كتبتُ "اج" أي أشكالَ الحروفِ الدّالّةِ على الذّاتِ القديمِ، فإن قيل إذا لم يكن اللّفظُ المنزَّلُ عين كلامِ الله الذّاتيّ فكيفَ كان نزوله على سيدنا محمدٍ؟ فالجوابُ ما قاله بعض العلماء: إن جبريلَ وَجَدَهُ مكتوبًا في اللّوحِ المحفوظِ فأنزلَهُ بأمرِ الله له على سيدنا محمدٍ قراءةً عليه لا مكتوبًا في صُحُفٍ، ويدلُّ لذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ [سورة التكوير/19] أي مقروءُ جبريلَ فلو كان هذا اللفظُ المنزَّلُ عينَ كلامِ الله الذَّاتيّ لم يقل الله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ (19) أي جبريل لأن جبريلَ هو المرادُ بالرسولِ الكريمِ باتفاق المفسرين. وقال بعضهم إن الله خلق صوتًا بهيئة ألفاظ القرءان فسمعه جبريل فقرأه على النبي. قاله القونوي شارح الطحاوية.

الشرح القويم
في حل ألفاظ الصراط المستقيم

قائمة الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم