في العقيدة الإسلامية كتاب الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم
أعظَمُ حُقوقِ الله على عِبَادِه

أعظَمُ حُقوقِ الله على عِبَادِه

الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم

الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم اعلم أنَّ أعظمَ حقوقِ الله تعالى على عبادِهِ هوَ توحيدُه تعالى وأن لا يُشرَك به شىءٌ، لأنَّ الإشراكَ بالله هوَ أَكبرُ ذنبٍ يقترِفُه العبدُ وهوَ الذَّنبُ الذي لا يغفرُه الله ويَغفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لمن يَشاءُ. قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء {48}﴾ [سورة النساء].
الشرح: معرفةُ الله تعالى مع إفرادِهِ بالعبادةِ أي نهايةِ التذلُّلِ هو أعظمُ حقوقِ الله على عبادِهِ، وأكبرُ ذنبٍ يقترفُهُ العبدُ هو الكفرُ وهو على نوعين: كفرٌ شركٌ وكفرٌ غيرُ شركٍ، فكلُّ شركٍ كفرٌ وليس كلُّ كفرٍ شركًا، لذلك كان أعظمُ حقوقِ الله على عبادِهِ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا.
والكفر أكبر الظلم قال الله تعالى ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ فظلم الكافر بكفره أعظم من قتل المسلم ءالاف الآلاف من المسلمين من غير استحلال لقتلهم.
وقد أخبرَ الله تعالى أنه يغفِرُ كلَّ الذنوبِ لمن شاءَ من عبادِهِ المسلمين المتجنّبين للكفرِ بنوعيه الإشراكِ بالله تعالى الذي هو عبادةُ غيرِه والكفرِ الذي ليسَ فيه إشراكٌ كتكذيبِ الرَّسولِ والاستخفافِ بالله أو برسولِهِ مع توحيدِ الله تعالى وتنزيهِهِ. وممّا يدلُّ على ذلكَ أيضًا قوله عليه الصلاة والسلامُ: "إنَّ الله ليَغفِر لعبدِهِ ما لم يقعِ الحجابُ" قالوا: وما وقوع الحجاب يا رسولَ الله؟ قال: "أن تموتَ النفسُ وهي مشركَةٌ" رواه أحمد وابن حبان وصححه.
فالكفرُ بجميعِ أنواعِهِ هو الذنبُ الذي لا يغفرُهُ الله أي لمن استمرَّ عليه إلى الموتِ أو إلى حالةِ اليأسِ من الحياةِ برؤيةِ مَلَكِ الموتِ وملائكةِ العذابِ أو إدراكِ الغرقِ بحيث أيقن بالهلاك ونحوِهِ فذاكَ مُلحَقٌ بالموتِ.
فالحاصلُ أنَّ الكفرَ لا يُغفَرُ إلا بالإسلام في الوقتِ الذي يكونُ مقبولا فيه، فمن أسلمَ بعد الوقتِ الذي يُقبَلُ فيه فلا يمحو إسلامُهُ كفرَهُ. فالكفرُ هو أعظمُ الذنوبِ وبعده قتلُ النفس التي حرَّم الله إلا بالحقّ، وأمّا قوله تعالى: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ {191}﴾ [سورة البقرة] أي الشّرك أشدُّ من القتلِ، فالشركُ هو أعظمُ الظلم لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ {13}﴾ [سورة لقمان]، وقوله: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ {254}﴾ ومعناه أكبرُ الظّلمِ هو الكفر.
قال المؤلفُ رحمهُ الله: وكذلكَ جميعُ أنواعِ الكُفرِ لا يَغفرُها الله لقولِه تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ {34}﴾ [سورة محمد].
الشرح: هذه الآية فيها النّصُّ على أنَّ من ماتَ كافرًا لا يَغفِرُ الله له، وهذا يؤخَذُ من قوله تعالى: ﴿ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ {34}﴾ لأنَّ هذا قَيدٌ لعدَمِ المغفرةِ لهم.
ومعنى ﴿وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ {34}﴾ أي ومَنَعوا الناسَ من الدّخولِ في الإسلامِ، وليس هذا شرطًا للحرمَانِ من المغفرةِ بل الكافرُ محرومٌ من المغفرةِ إن منَعَ الناسَ من الإسلامِ أو لم يمنع بل ولو ساعد المسلمين في إدخال الناس في دينهم، لكنَّ الكافرَ الذي يصدُّ الناسَ من الإسلامِ أشدُّ ذنبًا من الكافرِ الذي يكفرُ بنفسِهِ ولا يصدُّ غيرَه عن الإيمان.
قال المؤلف رحمَهُ الله: وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهِدَ أَنْ لا إله إلا الله وحدَهُ لا شريكَ لهُ وأنّ محمدًا عبدُه ورسولُه وأنَّ عيسى عبدُ الله ورسولُه وكلمتُه ألقاها إلى مريمَ وروحٌ منه والجنةَ حقٌّ والنارَ حقٌّ أدخَلَهُ الله الجنةَ على ما كانَ منَ العملِ"، رواه البخاري ومسلم.
الشرح: هذا الحديثُ الصحيحُ اتفق على إخراجهِ البخاريُّ ومسلمٌ في كتابَيهما المعروفَين بين الأمّةِ الإسلامية، ومعناه يتضمَّنُ أنَّ الإنسانَ إذا ماتَ وهو يشهدُ أن لا إله إلا الله وتجنَّبَ عبادةَ غيرِه وأنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، ويشهد أنَّ عيسى عبدُ الله ورسولُه وكلمتُهُ ألقَاها إلى مريمَ وروحٌ منه ويشهَدُ أن الجنةَ حقٌّ وأنّ النارَ حقٌّ _ أي موجودتان _ يُدخِلُه الله الجنةَ على ما كان من العملِ أي ولو كانَ من أهل الكبائر.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "وكلمته ألقَاها إلى مريمَ" أنَّ المسيحَ بشارةُ الله لمريمَ التي بشَّرتها بها الملائكةُ بأمره قبل أن تحمِلَ به، فإنَّ المَلَكَ جبريلَ بشَّرها به، قال لها أنا رسولٌ من الله لأعطيَك غلامًا زكيًّا أي طيّبًا.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وروحٌ منه" معناه أن روحَ المسيحِ روحٌ صادرةٌ من الله تعالى خلقًا وتكوينًا، أي روحُهُ روحٌ مشرَّفٌ كريمٌ على الله، وإلا فجميعُ الأرواح صادرةٌ من الله تعالى تكوينًا لا فرقَ في ذلك بين روح وروحٍ وكلمة "روح منه" ليس معناها أن المسيح عيسى جزء من الله إنما معناها روح وجدت بإيجاد الله أي الله أوجدها من العدم ليس معناها أنه جزء من الله كما ادعى بعض ملوك النصارى احتج بهذه الآية على أن المسيح جزء من الله فرد عليه القاضي أبو بكر الباقلاني بهذه الآية: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ {13}﴾ [سورة الجاثية] فسكت ذلك الملك لأن كلمة ﴿مِّنْهُ {13}﴾ في النصَّين موجودة، فكما أنها لا تدل في الآية على أن ما في السموات وما في الأرض جزء من الله كذلك لا تدل كلمة ﴿مِّنْهُ {13}﴾ في ءاية ﴿وَرُوحٌ مِّنْهُ {171}﴾ على أن روح عيسى جزء من الله.
ومعنى الآية الثانية أنّ الله تعالى سخَّر لبني ءادمَ ما في السموات وما في الأرضِ جميعًا منه أي أنَّ جميع ما في السموات وما في الأرضِ من الله خلقًا وتكوينًا وليس المعنى أنها أجزاءٌ منه تعالى. فالملائكةُ مسخَّرونَ لبني ءادمَ بحفظهم لهم وغيرِ ذلك كإنزالِ المطرِ وإرسالِ الرّياحِ التي ينتفعون بها والدعاءِ لهم أي للمؤمنين من بني ءادمَ خاصّة.
وقوله عليه الصلاة والسلام: "والجنَّةَ حقٌّ والنَّارَ حقٌّ" معناه أنَّهما موجودتان وباقيتان وأنّهما دارَا جزاءٍ، فالجنّةُ دارُ جزاءٍ للمؤمنين والنارُ دارُ جزاءٍ للكافرين.
قال المؤلف رحمَهُ الله: وفي حديثٍ ءاخَر: "فإنَّ الله حرَّمَ على النار من قالَ لا إله إلا الله يبتغي بذلكَ وجهَ الله" رواه البخاري.
الشرح: المعنى أنّ الله تعالى حرَّمَ على النَّار أي الدوامَ فيها إلى الأبدِ من قالَ لا إله إلا الله يبتغي بذلكَ وجهَ الله أي إن قال ذلكَ معتقدًا في قلبه لا منافقًا ليُرضيَ المسلمينَ وهو في قلبهِ غيرُ راضٍ بالإسلامِ إمّا بشَكّه في الوحدانيَّةِ أو بتكذيبهِ في قلبهِ محمَّدًا صلى الله عليه وسلم.
ومعنى "يبتغي بذلكَ وجهَ الله" أي يبتغي القُرب إلى الله تبارك وتعالى ليس لمراءاة الناس بدون اعتقاد. والوجه في لغةِ العرب يأتي بمعانٍ عديدة منها القصد كما قال الشاعر:
أستغفرُ الله ذنبًا لستُ مُحصِيَه ***** ربَّ العبادِ إليه الوَجْهُ والعمَلُ
أي القصد. وكذلك ورد حديث رواه ابنُ حبان وغيرُه وهذا لفظ ابن حبان: "المرأة عورةٌ فإذا خرجت استشرفها الشيطانُ وأقربُ ما تكون المرأة إلى وجه الله إذا كانت في قعر بيتها" ومعنى وجه الله هنا طاعة الله.
ومن اعتقد أن الوجهَ إذا أضيفَ إلى الله في القرءانِ أو في الحديثِ معناه الجسد الذي هو مركَّب على البدنِ فهو لم يعرف ربَّهُ لأن هذه هيئة الإنسانِ والملائكةِ والجن والبهائمِ فكيف يكونُ خالقُ العالَم مثلَهم. فالله ليس حجمًا بالمرة، لا هو حجم لطيف ولا هو حجم كثيف لأن العالم حجم كثيف وحجم لطيف. ثم هذا الحجم له صفات حركة وسكون وتغير ولون وانفعال وتحيز في المكان والجهة والله تعالى ليس كذلك إنما هو موجود غير متحيز في الجهات والأماكن لأنه كان موجودًا قبلها ولو لم يكن كذلك لكان له أمثال في خلقه.
قال المؤلفُ رحمَهُ الله: ويجبُ قرنُ الإيمانِ برسالةِ محمدٍ بشهادةِ أن لا إله إلا الله وذلك أقلُّ شىءٍ يحصلُ به النجاةُ من الخلودِ الأبديّ في النارِ.
الشرح: أن اعتقاد أن لا إله إلا الله وحدَه لا يكفي ما لم يُقرن باعتقادِ أنَّ محمدًا رسولُ الله، فالجمعُ بين الشَّهادتين ضَروريٌّ للنَّجاةِ من الخلودِ الأبدي في النارِ. والمرادُ بهذا الحديثِ الذي مرَّ ءانفًا وما أشبَهَهُ من الأحاديثِ التي لم يُذكر فيها شهادةُ أن محمدًا رسولُ الله ما يشمَل الشَّهادةَ الأخرى لأنَّ ذكرَ الشَّهادةِ الأولى صارَ في عُرفِ الشَّرعِ ملحوظًا فيه الشهادةُ الثانيةُ وهي شهادةُ أنّ محمدًا رسولُ الله، وليس المعنيُّ بهذا الحديثِ وشبهِهِ أنَّ الاقتصارَ على شهادةِ أن لا إله إلا الله بدون الشَّهادةِ الأخرى يكفي للنَّجاةِ من الخلودِ الأبديِّ في النارِ بل لا بدَّ من الجمع بينَ الشهادتين وذلك بدليلِ قوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا {13}﴾ [سورة الفتح] فتُحمَلُ هذه الأحاديثُ على ما يُوافِقُ هذه الآية، فحديثُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لا يأتي مناقضًا للقرءانِ، ومن توهَّم خلافَ ذلك فهو لقُصُورِ فَهمِهِ وشدَّةِ جهلِهِ.

الشرح القويم
في حل ألفاظ الصراط المستقيم

قائمة الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم