في العقيدة الإسلامية كتاب الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم
عَودٌ إلى تقسيمِ الكُفرِ لزيادةِ فائدة

عَودٌ إلى تقسيمِ الكُفرِ لزيادةِ فائدة

الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم

الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم قال المؤلف رحمه الله: عَودٌ إلى تقسيمِ الكُفرِ لزيادةِ فائدة.
واعلم أن الكفرَ ثلاثةُ أبوابٍ: إمّا تشبيهٌ، أو تكذيبٌ، أو تعطيلٌ الشرح: أن أبوابَ الكفر ثلاثةٌ تشبيهٌ أي تشبيهُ الله بخلقه، وتكذيبٌ أي للشرع، وتعطيلٌ أي نفيُ وجود الله تعالى.
قال المؤلف رحمه الله: أحدُها التشبيهُ: أي تشبيهُ الله بخلْقِه كمن يصفُه بالحدوثِ أو الفناءِ أو الجسمِ أو اللونِ أو الشكلِ أو الكمّية أي مِقدار الحَجْم، أما ما ورَد في الحديثِ "إن الله جميلٌ" فليس معناهُ جميلَ الشكلِ وإنّما معناهُ جميلُ الصّفاتِ أو محسنٌ.
الشرح: أن من وَقَعَ في التشبيه فَعَبدَ صورةً ما أو خيالا تخيله يكون بذلك من الكافرين الخارجين عن مِلةِ المسلمين وإن زَعَمَ أنه منهم. لأن الذي يشبّهُ الله بخلقه يكون مكذبًا ل_ "لا إله إلا الله" معنًى ولو قالها لفظًا. ومعنى إن الله جميلُ الصفات أي صفاتُهُ كاملةٌ، وقوله "أو محسن" أي يُحسِنُ لعباده ويتكرمُ عليهم بِنِعَمِهِ. وأما الحديثُ الذي رواه الترمذي وهو: "إنّ الله نظيفٌ يحبُّ النّظافة" فمعناه مُنَزَّهٌ عن السُّوءِ والنَّقصِ، وقوله: "يحبُّ النظافة" أي يحب لعبادِهِ نظافةَ الخُلُقِ والعَمَلِ والثوب والبدن.
قال المؤلف رحمه الله: ثانيها التكذيبُ: أي تكذيبُ ما وردَ في القرءانِ الكريم أو ما جاءَ به الرسولُ صلى الله عليه وسلم على وجهٍ ثابتٍ وكان مما عُلِم من الدين بالضرورةِ كاعتقادِ فَنَاءِ الجنّةِ والنار، أو أن الجنةَ لذاتٌ غيرُ حسّيةٍ، وأنّ النارَ ءالامٌ معنويّةٌ، أو إنكارِ بعثِ الأجسادِ والأرواح معًا أو إنكارِ وجوب الصلاةِ أو الصيامِ أو الزكاةِ، أو اعتقادِ تحريمِ الطّلاق أو تحليلِ الخمرِ وغيرِ ذلك ممّا ثبتَ بالقطعِ وظهرَ بين المسلمين.
الشرح: أنَّ من أنواعِ الكفر والعياذُ بالله كُفرَ التكذيب ويكونُ بتكذيب ما جاءَ به القرءان مما هو ظاهر بين المسلمين كتحليل لحم الخنزير أو بردّ ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد معرفته بأن هذا الأمر مما جاءَ به محمدٌ عليه الصلاة والسلام، فمن جَحَدَ خبر القرءان وما قد ثبتَ عنده أن رسولَ الله جاء به فهو كافرٌ لا شك في ذلك، وأما إن سَمِعَ حديثًا يُوهِمُ ظاهره أن لله جوارحَ فأنكرَهُ جهلًا منه فإنه لا يكفر وذلك كأن سَمِعَ حديث: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبَّه فإذا أحببته كنتُ سمعَه الذي يسمع به وبصرَه الذي يبصر به ويدَه التي يبطش بها ورجلَه التي يمشي بها" فأنكره ظنًّا منه أنه مُفترى على الرسول وأن فيه إثبات الجوارح لله فإنه لا يكفر. وهذا الحديثُ معناه أحفظ له سَمعَهُ وبصرَهُ ويدَهُ ورجلَهُ، وقال بعضهم: أي أعطيه قوةً غريبةً في سمعِهِ وبصرِهِ ويدِهِ ورجلِهِ.
ومن كُفرِ التكذيبِ أيضًا اعتقادُ فناءِ الجنةِ والنارِ أو إحداهما وهو كفرٌ بالإجماعِ، ومثله في الحكم من يعتقدُ أن الجنةَ لذّاتها معنويةٌ فقط أو أن النار ليس فيها ءالامٌ حسيةٌ لأن هذا إنكار لنصوص الشرعِ الصريحة المتواترةِ المعروفة بين المسلمين العلماء والعوام. ومن الدليل على أن الجنةَ فيها لذات حسيةٌ ءاياتٌ منها قوله تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ {43}﴾ [سورة الحاقة]، ومن الدليل على أن النارَ فيها ءالامٌ حسيةٌ ءاياتٌ منها قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ {56}﴾ [سورة النساء].
ومن التكذيبِ للشرع إنكار بعثِ الأرواحِ والأجسادِ معًا فإن اعتقد مُعتَقِدٌ أن الأرواحَ تُبعَثُ فقط دون الأجساد فإنه يكفر والعياذ بالله تعالى، والنصوصُ الصريحةُ ببعثِ الأجسادِ كثيرةٌ منها قوله تعالى: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ {104}﴾ [سورة الأنبياء] وهذا الأمر معلومٌ عند الجاهل والعالم من المسلمين. ومن الكفر إنكارُ أي أمرٍ معلوم من الدين بالضرورة كإنكار وجوبِ الصلاةِ والصيامِ والزكاةِ، ونقَل القاضي عياض في الشفا الإجماعَ على تكفير من أنكرَ وجوبَ الصلوات الخمس وعددَ ركعاتها وسجداتها. وكذا الحكم فيمن يعتقد تحريمَ الطلاقِ على الإطلاق فإن فسادَ هذا ظاهرٌ بين عامة المسلمين وعلمائهم، ومثله حكمُ من أحلَّ شُربَ الخمرِ فقد أجمعَ على تحريمها الأئمةُ من عهد صحابةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أيامنا هذه وانتشر هذا الحكم وشُهِرَ حتى بين من يشربها من الأمة ولذلك جَزَمَ العلماءُ بتكفير من أحلَّ شربَها مطلقًا، وخالفَ في ذلك وشذَّ رَعاعٌ مرادهم هدمُ الدين وإفسادُ الشرع وإشاعةُ الفواحش والرذائل فزعموا أن ليس في القرءان نصوصٌ على تحريم الخمر بل غاية ما جاء فيه قولُه تعالى عن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام ﴿فَاجْتَنِبُوهُ {90}﴾ وغرضهم بهذا الكلام المُمَوَّهِ التوصُّل إلى إباحة الخمر، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {90} إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ {91}﴾ [سورة المائدة]، فقوله ﴿فَاجْتَنِبُوهُ {90}﴾مع قوله ﴿فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ {91}﴾ يُفهِمان التحريمَ الشديدَ ولهذا قال عمر لما سمعها: "انتَهَيْنا انتَهيْنا" رواه الترمذي وغيره، وأراقَ المسلمونَ لمَّا نزلت ءاية التحريم الخمرَ حتى جرت في شوارع المدينة.
قال المؤلف رحمه الله: وهذا بخلافِ من يَعتقدُ بوجوبِ الصلاةِ عليه مثلًا لكنه لا يصلي فإنه يكونُ عاصيًا لا كافرًا كمن يعتقدُ عَدمَ وجوبِها عليهِ.
الشرح: هذا مذهبُ أهلِ السنة والجماعة أن مرتكبَ الكبيرةِ لا يكفر إذا لم يستحلها.
قال المؤلف رحمه الله: ثالثُها التعطيلُ: أي نفيُ وجودِ الله وهو أشدُّ الكفرِ.
الشرح: كالشيوعيةِ النافين لوجودِهِ تعالى وهذا أشدُّ الكفرِ على الإطلاقِ. وكذلك كفر الوَحدة المطلقة وكفر الحلول.
قال المؤلف رحمه الله: وحكمُ من يُشبّهُ الله تعالى بخلقِهِ التكفيرُ قطعًا.
الشرح: أن مَن يشبهُ الله تعالى بخلقه فهو كافرٌ من غير شك وذلك أن المشبّهَ لا يعبُدُ الله تعالى وإنما يعبُدُ صورةً تخيلها وتوهمها ومن عَبَدَ غير الله فلا يكون مسلمًا.
قال المؤلف رحمه الله: والسَّبِيلُ إلى صَرفِ التَّشبِيهِ اتباعُ هذِهِ القَاعِدَةِ القَاطِعَةِ: "مَهْما تَصَوَّرتَ ببَالِكَ فَالله بِخِلافِ ذَلِكَ" وَهِيَ مُجمَعٌ عَلَيها عِندَ أهلِ الحَقّ، وهي مَأخُوذَةٌ مِن قَولِهِ تَعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ {11}﴾ [سورة الشورى].
الشرح: أن السبيلَ لِصَرفِ التشبيهِ والمحافظةِ على التنزيهِ هو اتباعُ قولِ ذي النونِ المصري: "مَهْمَا تَصَوَّرتَ بِبَالِكَ فالله بِخِلافِ ذلِكَ" رواه الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد، لأن ما يتصوره الإنسانُ بباله خيالٌ ومِثَالٌ والله منزهٌ عن ذلك، فهذه قاعدةٌ مجمعٌ عليها عند أهلِ الحق مأخوذةٌ من قولِ الله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ {11}﴾ [سورة الشورى].
وهذه العبارةُ ينقُلُها الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد بإسنادٍ متصلٍ إلى ذي النون المصري واسمه ثَوبان بن إبراهيم وهو من الصوفيةِ الصادقين الأكابِرِ ممن جمع بين العلم والعمل، تلقى الحديث من الإمام مالك وغيره، وأفاضَ الله على قلبه جواهِرَ الحِكَمِ، وهذا القولُ نقلَهُ أيضًا أبو الفضل التميميُّ الحنبليّ عن الإمامِ أحمدَ رضي الله عنه.
وفي معنى ذلك ما رواه أبو القاسم الأنصاري من أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "لا فكرةَ في الرَّبّ" أي أن الله لا يُدرِكُهُ الوَهمُ لأن الوَهمَ يُدرِكُ الأشياءَ التي لها وجودٌ في هذه الدنيا كالإنسانِ والغمامِ والمطرِ والشجرِ والضوء وما أشبَه ذلك. فيُفهَمُ من هذا أن الله لا يجوز تَصَوُّرُهُ بكيفيةٍ وشكلٍ ومِقدارٍ ومساحةٍ ولونٍ وكلّ ما هو من صفاتِ الخلق.
وكذلك يُفهَمُ من قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى {42}﴾ [سورة النجم] أنه لا تُدرِكُهُ تصورَاتُ العبادِ وأوهامُهُم.
قال المؤلف رحمه الله: ومُلاحَظَةُ مَا رُويَ عن الصّدّيقِ (شِعرٌ من البَسِيْط) العَجْزُ عَنْ دَرَكِ الإدْرَاكِ إدْرَاكُ والبَحثُ عنْ ذَاتِه كُفرٌ وإشراكُ الشرح: معنى ما روي عن أبي بكر الصديق أن الإنسانَ إذا عَرَفَ الله تعالى بأنه موجودٌ لا كالموجوداتِ واعتقدَ أنه لا يُمكِنُ تصويرهُ في النفسِ واقتصرَ على هذا واعترفَ بالعجزِ عن إدراكِهِ أي عن معرفةِ حقيقتِهِ ولم يبحث عن ذاتِ الله للوصولِ إلى حقيقةِ الله فهذا إيمانٌ، وهذا يقال عنه عَرَفَ الله وإنه سَلِمَ من التشبيه، أما الذي لا يكتفي بذلك ويريدُ بزعمه أن يَعرفَ حقيقته ويبحثَ عن ذاته ولا يكتفي بهذا العجز فيتصورهُ كالإنسانِ أو ككتلةٍ نورانيةٍ أو يتصوره حجمًا مستقرًّا فوق العرش أو نحو ذلك فهذا كَفَرَ بالله تعالى.
قال المؤلف رحمه الله: وقولِ بَعْضِهم: لا يَعْرفُ الله على الحقِيقَةِ إلا الله تعالى. ومَعرِفتُنا نحنُ بالله تَعالى لَيْسَتْ عَلى سَبِيْلِ الإحَاطَةِ بلْ بمَعْرِفَةِ مَا يَجِبُ لله تَعَالى كوُجُوبِ القِدَم لَهُ، وتَنْزيهِهِ عَمَّا يَستحيلُ علَيه تَعالى كاسْتِحالةِ الشّريكِ لهُ وما يجوزُ في حقّه تعالى كَخلْقِ شَىءٍ وتركِه.
الشرح: أن معرفَتَنَا بالله تعالى ليست على سبيل الإحاطة إذ لا يَعرِفُ أحدٌ من الخَلقِ الله تعالى على الحقيقةِ حتى الأنبياء والأولياء لا يعرفون الله تعالى بالإحاطةِ وإنما الله تعالى عالمٌ بذاته على الحقيقة وبما يُحدِثُهُ من مخلوقاته، ومعرفَتُنَا نحن بالله إنما هي بمعرفةِ ما يجبُ لله من الصفاتِ كالعلمِ والقدرةِ والإرادةِ والقِدَمِ، ومعرفةِ ما يستحيلُ في حقه تعالى كالعجزِ والحجمِ والشريكِ، ومعرفةِ ما يجوزُ في حقه سبحانه كإيجادِ شىءٍ وإعدامِهِ، فالله تعالى يجوزُ أن يَخلُقَ ما يشاءُ ويَترُكَ ما يشاءُ أي لا يخلقه.
قال المؤلف رحمه الله: قالَ الإمامُ الرفاعيُّ: "غايةُ المعْرفةِ بالله الإيقانُ بوجُودِه تعالى بلا كيفٍ ولا مَكانٍ".
الشرح: أنَّ أقصى ما يَصِلُ إليه العبدُ من المعرفةِ بالله الإيقانُ أي الاعتقادُ الجَازِمُ الذي لا شَكَّ فيه بوجودِ الله تعالى بلا كيفٍ ولا مكانٍ، فقولُه بلا كيفٍ صريحٌ في نفي الجسمِ والحيّزِ والشَّكلِ والحركةِ والسُّكونِ والاتّصَالِ والانفصالِ والقعودِ إذ كلُّ ذلك شىءٌ غيرُهُ والله منزَّهٌ عنه. فالكيفُ يَشمَلُ كلَّ ما كان من صفاتِ المخلوقين، فمن أيقَنَ بأن الله موجودٌ بلا كيفٍ ولا مكانٍ فقد وَصَلَ إلى غايةِ ما يَبلُغُ الإنسانُ من معرفةِ الله.

الشرح القويم
في حل ألفاظ الصراط المستقيم

قائمة الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم