في العقيدة الإسلامية كتاب الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم
المخَالفَةُ للحَوادِثِ

المخَالفَةُ للحَوادِثِ

الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم

الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم قال المؤلف رحمه الله: المخَالفَةُ للحَوادِثِ
يَجِبُ لله تَعالى أنْ يكونَ مُخَالِفًا للحَوادِثِ بِمَعْنى أَنَّهُ لا يُشْبِهُ شَيئًا من خَلْقِه فلَيْسَ هُوَ بِجَوْهَرٍ يَشْغَلُ حَيّزًا ولا عَرَضٍ، والجَوْهَرُ مَا لَهُ تَحيُّزٌ وقِيَامٌ بِذَاتِه كالأَجْسَام، والعَرَضُ مَا لا يَقُومُ بِنَفْسِهِ وإِنَّما يَقُوْمُ بِغَيْرِهِ كالحَرَكَةِ والسُّكُونِ والاجْتِمَاع والافْتِرَاقِ والألْوَانِ والطُّعُوْمِ والرَّوَائِح، ولِذَلِكَ قَالَ الإمَامُ أبُو حَنِيفَةَ في بعضِ رسائلِهِ في علمِ الكلامِ: "أَنَّى يُشْبِهُ الخَالِقُ مَخْلُوقَهُ" مَعناهُ لا يصحُّ عقلًا ولا نقلًا أن يُشْبِهَ الخَالِقُ مَخْلُوقَه، وقال أبو سُلَيمَانَ الخَطَّابِيُّ: "إِنَّ الذي يَجبُ عَلَيْنَا وعلَى كُلّ مُسْلِم أَنْ يَعْلَمَهُ أَنَّ رَبَّنَا لَيْسَ بِذِي صُوْرَةٍ وَلا هَيْئَةٍ فإنَّ الصُّوْرَةَ تَقْتضي الكَيْفِيَّةَ وهي عن الله وعَنْ صِفَاتِهِ مَنْفيَّةٌ" رَواهُ عنه البَيْهَقِيُّ في الأَسْماءِ والصّفَاتِ.
الشرح: أن معنى مخالفةِ الله للحوادثِ أنه لا يشبهُ المخلوقات، وهذه الصّفةُ من الصّفاتِ السَّلبيَّةِ الخمسةِ أي التي تدلُّ على نفي ما لا يليقُ بالله. والدَّليلُ العقليُّ على ذلك أنه لو كان يشبهُ شيئًا من خلقِهِ لجازَ عليه ما يجوزُ على الخلقِ من التّغيُّرِ والتَّطوُّرِ والعجزِ والضعفِ والصحةِ والمرضِ ولو جازَ عليه ذلك لاحتاجَ إلى من يغيّره من حال إلى حال والمحتاجُ إلى غيره لا يكون إلهاً فَوَجَبَ أنه لا يشبهُ شيئًا، والبرهانُ النَّقليُّ لوجوبِ مخالفتِهِ تعالى للحوادثِ ءاياتٌ منها قولُهُ تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ (11) وهو أوضحُ دليلٍ نقليّ في ذلك جَاءَ في القرءان، لأنَّ هذه الآية تُفهِمُ التَّنزيهَ الكلّيَّ لأن الله تبارك وتعالى ذَكَرَ فيها لفظ شىءٍ في سياقِ النَّفي، والنَّكرةُ إذا أوردت في سياقِ النَّفي فهي للشُّمولِ، فالله تبارك وتعالى نفَى بهذه الجملة عن نفسه مشابهةَ الأجرامِ والأجسامِ والأعراضِ فهو تبارك وتعالى كما لا يشبهُ ذوي الأرواح من إنسٍ وجنّ وملائكةٍ وغيرِهم لا يشبهُ الجمادات من الأجرامِ العلويَّةِ والسُّفليَّةِ، فالله تبارك وتعالى لم يقيّد نفي الشَّبهِ عنه في هذه الآية بنوعٍ من أنواعِ الحوادثِ بل شَمَلَ نفي مشابهتهِ لكلّ أفرادِ الحادثات، ويشمل نفي مشابهةِ الله لخلقه تنزيهه تعالى عن الكمّيَّةِ والكيفيَّةِ، فالكمّيَّةُ هي مقدارُ الجِرمِ فهو تبارك وتعالى ليس كالجرمِ الذي يدخله المقدارُ والمساحةُ والحدُّ فهو ليس بمحدودٍ ذي مقدارٍ ومسافةٍ ومن قال في الله تعالى إن له حدًّا فقد شبَّهَهُ بخلقِهِ لأن كل الأجرام لها حدٌّ إما حدٌّ صغير وإما حدٌّ كبير وذلك ينافي الألوهيَّة، والله تبارك وتعالى لو كانَ ذا حدّ ومقدارٍ لاحتاجَ إلى من جعلَهُ بذلك الحدّ والمقدارِ كما تحتاجُ الأجرامُ إلى من جعلها بحدودِها ومقاديرِها لأن الشَّىءَ لا يخلقُ نفسَهُ على مقدارِهِ، ولا يصحُّ في العقل أن يكونَ هو جَعَلَ نفسَهُ بذلك الحدّ، والمحتاجُ إلى غيرِهِ لا يكون إلهًا لأن من شرطِ الإلهِ الاستغناءَ عن كلّ شىءٍ.
قال المؤلف رحمه الله: وقَدْ تُطْلَقُ الكَيْفِيَّةُ بِمَعْنَى الحَقِيقَةِ كَمَا فِي قَوْلِ بَعْضِهِم:
كَيْفِيَّةُ المَرْءِ لَيْسَ المَرْءُ يُدْرِكُهَا ***** فَكيْفَ كَيْفِيَّة الجَبَّارِ في القِدَمِ
ومُرَادُ هَذَا القَائِلِ الحَقِيقَةُ. وهذا البيتُ ذكرَهُ الزركشيُّ وابن الجوزيّ وغيرُهُما.
الشرح: معنى هذا البيت أن الإنسانَ إذا كانَ لا يحيطُ عِلمًا بكلّ ما فيه وكذا حقيقتُهُ لا يحيطُ بها علمًا، فكيفَ يحيطُ علمًا بحقيقةِ الجبَّارِ الأزليّ الذي لا يُشبهُ العَالَم؟ معناهُ أنه لا يحيطُ علمًا بالله لأنه لا يَعرِفُ الله على الحقيقةِ إلا الله.
قال المؤلف رحمه الله: وقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيّ: "وَمَنْ وَصَفَ الله بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِي البَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ". وهوَ مِنْ أَهْلِ القَرْنِ الثَّالِثِ، فَهُوَ دَاخِلٌ في حَدِيثِ: "خَيْرُ القُرُونِ قَرْني ثُمَّ الذيْنَ يَلُونَهُم ثُمَّ الذيْنَ يَلُونَهُم" رواهُ الترمذيُّ، والقرنُ المرادُ به مائة سنة كما قالَ ذلكَ الحافظُ أبو القاسِمِ بنُ عساكرَ في كتابهِ تَبيين كذبِ المفتري الذي ألَّفهُ في التنويهِ بأبي الحسنِ الأشعري رضيَ الله عنه.
الشرح: هذا الحديثُ معناه من حيث الإجمالُ وليس معناهُ كلُّ من كان من أهل القرونِ الثَّلاثة الأولى هو خيرٌ ممَّن جاءَ بعدَه بل كانَ فيمن جاءَ بعد ذلك من هو خيرٌ من بعضِ من كان فيها أي من بعضِ الأفرادِ لأن الصَّحابةَ لم يكونوا كلُّهم أولياء، والفضلُ عندَ الله بالتَّقوى ليسَ بالنَّسبِ ونحوِ ذلك، قالَ الله تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [سورة الحجرات/13]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أولى الناسِ بي المتقونَ من كانوا وحيثُ كانوا" رواه ابن حبان وصحَّحَهُ. ولا منافاة بين هذا الحديثِ وبين حديث: "خيرُ القرونِ قرني ثم الذين يَلُونهم ثم الذين يَلُونهم" فإن حديثَ ابن حبَّانَ فيه الحكمُ على الأفرادِ، وحديثَ الترمذي: "خير القرون" إلى ءاخره الحكمُ فيه من حيث الجملةُ فيقال باعتبار الإجمالِ الصحابةُ خيرُ هذه الأمّةِ لأن فيهم من لا يلحقه بعلوّ مرتبتِهِ أحدٌ ممن جاءَ بعدَهم وأما من حيثُ الحكمُ على الأفرادِ فبعضُ أفرادِ الصحابةِ أقلُّ درجةً ممن جاءَ بعدَهم، فكيف يُساوَى بين صحابي قالَ الرسولُ فيه لمّا ماتَ في الغزو معهُ وكان موكَّلًا بِثَقَلِ النبي خادمًا له: "هُوَ في النّار" فنظروا فَوَجدوا معَهُ شَملةً سرقها من الغنيمةِ وبينَ عمر بن عبد العزيز، فهل يجوز أن يقال إن هذا أفضلُ من عمرَ بن عبد العزيز لأنه لم يرَ الرسول. فما أشدَّ فساد قولِ من قال إن كلَّ فردٍ من أفرادِ الصحابةِ خيرٌ ممن جَاءَ بعدَهُم.

الشرح القويم
في حل ألفاظ الصراط المستقيم

قائمة الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم