في العقيدة الإسلامية كتاب الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم
مَا جَاءَ في بَدءِ الخلْقِ

مَا جَاءَ في بَدءِ الخلْقِ

الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم

الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم قال المؤلف رحمه الله: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عِنْدَمَا سُئِلَ عَن بَدءِ الأمرِ: "كَانَ الله وَلَم يَكُنْ شَىءٌ غَيْرُهُ وكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماءِ، وكَتبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَىءٍ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمواتِ والأَرْضَ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ. أَجَابَ الرّسولُ صلى الله عليه وسلم علَى هَذا السُّؤالِ بأنَّ الله لا بدَايةَ لِوُجودِه (أي أزليٌّ) ولا أزليَّ سِوَاه، وَبِعبارَةٍ أُخْرَى فَفِي الأَزَلِ لَم يكُنْ إلا الله تعَالى، والله تعَالى خَالقُ كُلّ شَىءٍ، أي مخرِجُه من العدم إلى الوجود.
الشرح: السائل هم أناس من أهل اليمن قالوا يا رسول الله جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن بدء هذا الأمر ما كان فأجابَهم وأفادَهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأهم مما سألوا عنه. فقولُه: "كان الله" أي في الأزل، وقولُه: "ولم يكن شىء غيره" أي أنه لا أزليَّ سواه لأنه في الأزل لم يكن ماءٌ ولا هواءٌ ولا نورٌ ولا مكانٌ ولا ظلامٌ ولا ليل ولا نهار، وقوله: "وكان عرشه على الماء" أي وُجِدَ عرشُهُ على الماء أي أن الماءَ خُلِقَ قبلَ العرش ثم خُلِقَ العرشُ وبوجودِ الماءِ وُجِدَ الزمانُ والمكانُ أما قبل ذلك لم يكن زمان ولا مكان. فيُعلَمُ من هذا أن الماءَ والعرشَ هما أوَّلُ المخلوقات من الأشياء المحسوسة، أما من غير المحسوسة فالزمان والمكان وجدا بوجود الماء، والعرشُ سريرٌ كبيرٌ له أربعةُ قوائم ليس كسريرنا يحملُه أربعةٌ من الملائكة.
فالماءُ أصلٌ لغيره وهو خُلِقَ من غير أصلٍ، فبدايةُ العالم من غير مادةٍ، ولا يحيلُ العقل وجودَ أصلِ العالم من العدم من غير مادةٍ. فكان الأُولى في الحديثِ للأزلية أما كان الثانية في قوله: "وكان عرشه على الماء" فهي للحدوث.
فمن هنا يُعلَمُ فسادُ قولِ من يقول إن نورَ محمدٍ خُلِقَ قبل كلّ شىءٍ، فالذي يعتقدُ أن الله خَلَقَ نورَ محمدٍ قبل كلّ الأشياء لا يُكفَّر لكنه يُغَلَّطُ لمخالفته ثلاثةَ أحاديثَ ثابتةٍ، وكذلك الذي يعتقد أن روحَ محمدٍ خُلِقَ من نورٍ لا يكفَّر، لكن من يعتقد أن جَسَدَ محمدٍ خُلِقَ من نورٍ فهو كافر لتكذيبه القرءان قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ {110}﴾ [سورة الكهف].
والقولُ بأن حديثَ جابرٍ المفتعلَ والذي فيه: "أوّل ما خلقَ الله نورُ نبيّك يا جابر خلقَهُ الله من نوره قبل الأشياء" صحَّ كشفًا لا معنى له لأن الكشفَ الذي يخالفُ حديثَ رسول الله لا عبرة به فقد قال علماء الأصول: "إلهام الوليّ ليس بحجَّةٍ"، لأن كشفَ الوليّ قد يُخطئ.
وهذا الحديثُ ركيكٌ، والركاكةُ قال علماءُ الحديث إنها دليلُ الوضعِ لأن الرسول لا يتكلمُ بكلام ركيكِ المعنى، وذلك لأن في الجملة الأولى: "أولُ ما خلق الله تعالى نور نبيك" جعلَ نور النبي أول العالم والمخلوقات على الإطلاق ثم هذه الجملة: "خلقه الله من نوره قبل الأشياء" إن اعتُبِرَ أن معنى من نوره أي نور مخلوق لله على أن الإضافةَ إضافة المُلك إلى المالك ليست إضافة صفةٍ إلى موصوفٍ يكون المعنى أن أولَ المخلوقات نورٌ خلقَهُ الله ثم خَلَقَ منه نور محمد فهذا يناقض الجملة الأولى، لأن الجملةَ الأولى تَدُلُّ على أن نورَ محمدٍ أولُ المخلوقاتِ على الإطلاق، وهذه الجملةُ "خلقه الله من نوره قبل الأشياء" تدلُّ على أن أولَ المخلوقاتِ نورٌ خُلِقَ منه نورُ محمد، فيكون نور محمد متأخرًا عن ذلك النور في الوجود فلا يصح على هذا قول: "نور محمد أول المخلوقات على الإطلاق".
وأما إن اعتُبِرت الإضافةُ التي في نوره إضافة الصفة إلى الموصوفِ فالبليةُ أشدُّ وأكبرُ لأنه يكون المعنى أن سيدَنا محمدًا جزءٌ من صفةِ الله وهذا إثبات البعضية لله وذلك كفر، والله تعالى منزهٌ عن البعضيةِ والتركيبِ والتجزؤ. فيكون على التقديرِ الثاني إثبات التبعض لله وذلك ينافي التوحيد، لأن الله واحدٌ ذاتًا وصفاتٍ لم ينحلَّ منه شىءٌ ولا ينحلُّ هو من شىء غيره، فلا تكون صفاته صفةً لغيره، بل صفاتُهُ لا هي عينُ الذات ولا هي غيرُ الذات ولا تكون أصلًا لغيرها، كما قررَ علماءُ التوحيد في مؤلفاتهم.
وقد ذكرَ الشيخُ عبد الغني النابلسي أن من اعتقدَ أن الله انحلَّ منه شىءٌ أو انحلَّ هو من شىءٍ فهو كافرٌ وإن زعمَ أنه مسلمٌ. فاعتقادُ أن الرسولَ جزءٌ من نورٍ هو من ذات الله كاعتقادِ النصارى أن المسيحَ هو جزء من ذات الله، ومن المعلوم أن كلامَ الرسول لا ينقض بعضه بعضًا، وهذا الحديثُ الجملةُ الثانيةُ منه تَنقُضُ الأولى، فالرسولُ منزّهٌ عن أن ينطقَ بمثله، فبهذا سَقَطَ الاحتجاجُ بهذا الحديثِ على دعوى أن أوّلَ المخلوقاتِ على الإطلاق نورُ محمدٍ.
ثم إن هذا الحديثَ لم يصححهُ أحدٌ من الحفاظ، بل قالَ الحافظ السيوطي إنه لا يثبت، وأما إيرادُ الزرقاني وابن حجر الهيتمي وغيرهما كمحمد بن أبي بكر الأشخر في شرح بهجة المحافل وصاحبِ المواهبِ اللدنية له ونسبتهم هذا الحديثَ إلى عبد الرزاق لا يُفيدُ أن هذا الحديثَ صحيحٌ أو حسنٌ، على أنه لم يقل أحدٌ من هؤلاء إن الحديثَ صحيحٌ أو حسنٌ إنما أوردوه ناسبينَ له إلى مصنَّفِ عبدِ الرزاق فليس في ذلك حجة، ثم عبدُ الرزاق قال في تفسيره عند قول الله تعالى: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء {7}﴾ [سورة هود]: هما بدءُ الخَلقِ قبلَ خَلقِ السموات والأرضِ، وهذا يُبعِدُ أن يكونَ عبد الرزاق ذكرَ في المصنف هذا الحديثَ الركيكَ، وهؤلاء صاحبُ المواهب اللدنية ومن ذُكِرَ معه ليس أحدٌ منهم من الحفاظِ.
ثم إن هذا الحديثَ يُعَارِضُ حديثين صحيحينِ أحدُهما حديثُ أبي هريرة قال: قلتُ: يا رسول الله إني إذا رأيتُك طابَت نفسي وقرَّت عيني فأنبئني عن كل شىءٍ، قال: "إن الله تعالى خَلَقَ كل شىءٍ من الماءِ". فكان سؤالُ أبي هريرة عن أوَّلِ العالمِ وأصلِه الذي لم يكن قبله شىء من المخلوقات الذي خُلِقَت منه المخلوقات كلها فأجابَ الرسولُ بأنه الماء، وهذا الحديثُ أخرجَهُ ابن حبانَ وصححهُ.
والحديثُ الآخَرُ حديث جماعةٍ من أبناءِ الصحابةِ عن ءابائهم عن رسول الله: "إن الله لم يَخلُق شيئًا مما خَلَقَ قبلَ الماءِ". أوردَهُ الحافظ ابن حجر على أنه صحيحٌ أو حَسَنٌ عنده وذلك في شَرحِ البخاري في كتاب بدء الخلق عند ذكرِ حديث: "كانَ الله ولم يكن شىءٌ غيرُهُ وكانَ عرشُهُ على الماءِ".
ثم إنه ليسَ الفضل في تَقَدُّمِ الوجودِ أي وجود الخلق بعضه على بعض، بل الفضلُ بتفضيلِ الله، فالماءُ مع ثبوتِ أوّليتِهِ لا يقال إنه أفضل المخلوقات، وأما الرسولُ عليه السلام فهو أفضلُ المخلوقاتِ من غير أن يكونَ أول المخلوقات لا جسمه ولا نوره، فالأمر كما قال البوصيريُّ:
فمبلغُ العلم فيه أنه بشرٌ ***** وأنه خيرُ خلق الله كلهم
فأي فضل في قول هؤلاء نور الرسول هو أول الخلق منه خلق كل شىء. أيُّ فضل في هذا.
ويَلتَحِقُ بهذا الحديثِ الموضوعِ ما يقوله بعضُ المؤذنين في بلادِ الشامِ عَقِبَ الأذانِ بصوتٍ عالٍ: "الصلاةُ والسلام عليك يا أولَ خلق الله وخاتم رسل الله"، فلو قالوا: "الصلاةُ والسلامُ عليك يا خاتم رسل الله" كان صوابًا.
ومن الباطلِ المخالِفِ للنصّ القرءاني والحديثي قول بعض المنشدين المصريين: "ربّي خلق طه من نور" لأن هذا ظاهرُ المخالفةِ لقوله تعالى: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء {7}﴾ [سورة الكهف] مع قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا {54}﴾ [سورة الفرقان] الآية.
فالحاصلُ أن العبرَةَ في التصحيحِ والتضعيفِ أن يكونَ من حافظٍ أي أن يَنُصَّ حافظٌ على أن هذا الحديثَ صحيحٌ أو أن يذكر حافظٌ في كتابه أنه يقتصرُ فيه على الصحيحِ كالحافظِ سعيد بن السكن الذي ألّفَ كتابًا اشترط فيه الاقتصار على الصحيحِ سماهُ السنن الصّحاح.
وهذه القاعدةُ ذَكَرَهَا الحافظُ السيوطي في ألفيّتِهِ في مصطلحِ الحديثِ فقال ما نصه:
وخذهُ حيث حافظٌ عليه نصّ ***** أو من مصنفٍ بجمعهِ يُخَصّ
يعني أن الحديثَ الصحيحَ يُعرَفُ أنه صحيحٌ بنص حافظٍ على صحتِهِ أو بأن تجدَهُ في كتابٍ ألّفه حافظٌ واشترط أنه لا يذكر في كتابه هذا إلا الصحيح.
وأما غيرُ الحفاظِ فلا عبرةَ بتصحيحهم ولا بتضعيفهم، فحديثُ أوّليةِ النورِ المحمدي لم يصححه حافظٌ من الحفاظِ لا من المتقدمين ولا من المتأخرين ولم يُذكَر في كتابٍ اشترطَ فيه مؤلّفه الحافظُ أن لا يذكُرَ في مؤلَّفِهِ إلا الصحيح.
وأما مجردُ ذكر حديثٍ في كتاب مؤلفه حافظٌ فليس دليلًا على صحته، فهذا الإمام أحمد بن حنبلٍ رضي الله عنه شيخُ الحفاظ ذَكَرَ في كتابه ءالافًا من الأحاديثِ الثابتةِ الصحيحةِ وءالافًا من الضعافِ بل تَكَلَّمَ الحافظُ زين الدين العراقي على أربعة عشر حديثًا مما في المسند ووصفها بأنها موضوعة، فإذا كان هذا حالَ مسند الإمام شيخ الحفاظ أحمد بن حنبل فماذا يكونُ مؤلفات من هو دونه. فالذين ذكروا حديث: "أوّل ما خلق الله نور نبيّك يا جابر" من المتأخرين كثيرٌ لكن كثرتهم لا تُفيدهم شيئًا لأنهم لم يبلغوا درجةَ الحافظ إنما بعضهم محدثون لهم إلمامٌ بالحديث وبعضهم ليسوا من المحدّثين بالمرة مثل الشيخ يوسف النبهاني فإنه ذَكَرَ في بعض مؤلفاتِهِ أنه ليسَ عالمًا فضلًا عن المُحدّثيةِ وأدخلَ في كتابه أربعين الأربعين لأجل هذا ولضعفه في هذا العلمِ الأربعين الودعانيّة المحكوم عليها عند المحدّثين بأنها موضوعةٌ، وهذا لقلةِ اطلاعِهِ في هذا العلمِ خَفِيَ عليهِ ذلك.
وأما دعوى بعض الذين كتبوا في تأييدِ هذا الحديثِ أن السيوطيَّ ما ضعَّفهُ إنما ضعَّفَ إسنادَهُ فلا ينافي ذلك ثبوته في نفسِهِ من جهة أخرى، فعبارتُهُ في قوتِ المغتذي تأبى ذلك لأن نصَّ عبارته فيه: "وأما حديثُ أوّليّةِ النورِ المحمدي فلا يثبت"، فقد أضافَ نفي الثبوت إلى الحديث نفسه ولم يذكر هنا الإسناد.
وأما دعوى بعض من كَتَبَ في تأييدِ هذا الحديثِ أن هذا الحديثَ يَدخُلُ في قول المحدّثين: "الحديثُ الضعيفُ من جهةِ الإسناد إذا تلقته الأمةُ بالقبول فهو صحيحٌ لغيره" فلا ينطبقُ هذا الحديثُ على ذلك لأن مرادهم بالأمةِ المجتهدونَ وذلك كحديثِ البحرِ: "هو الطهورُ ماؤهُ الحِلُّ ميتَتُهُ"، وحديثِ: "نهى رسولُ الله عن بيعِ الكالئ بالكالئ"، فإن الأئمة المجتهدين الأربعة وغيرهم قائلون بمعناه، وأينَ حديث أوّلية النور المحمدي من هذا الحديث فإنه ليسَ له ذِكرٌ عند الأئمةِ المجتهدين لا بالنفي ولا بالإثباتِ ولا رواه أحدٌ منهم في كتبه، فجملةُ الذين ذكروا هذا الحديث في مؤلفاتهم على وجهِ الإقرار ليس فيهم حافظ، ومن كان منهم من الحفاظِ وهو السيوطيُّ فعبارتُهُ لا تفيدُ أنه متلقّى بالقبول، فكيف يُجعَلُ هذا الحديث من قبيلِ الحديثين المذكورَين اللذين تلقتهما الأئمةُ المجتهدون من السلفِ والخلفِ بالقَبولِ وتلقتهما أتباعهم بالقبول. ولن يستطيع هؤلاء أن يثبتوا عن إمام من الأئمة أبي حنيفة أو الشافعي أو مالك أو أحمد أو غيرهم أنهم ذكروا هذا الحديث ولا عن أحد من أتباعهم الذين هم مجتهدون في المذهب كالجصاص، وشمس الأئمة السرخسي عند الحنفية، والبيهقي عند الشافعية، واللخميّ عند المالكية، وأبي الوفاء ابن عقيل في الحنابلة، فكيف يلحق هذا الحديث الموضوع بحديث البحر "هو الطهور ماؤه والحل ميتته" الذي عرفه الأئمة المجتهدون وعملوا به مع ضعف إسناده. فالذين ذكروا حديث "أول ما خلق الله تعالى" ليس فيهم واحد من أهل الترجيح في المذهب فضلًا عن أن يكون فيهم أصحاب الوجوه الذين هم مجتهدون في المذهب، فأين الثرى وأين الثريا.
ثم إن هذا الحديث تَنفِرُ الكفارُ عند سَمَاعِهِ من بعض المسلمين نفورًا زائدًا على نفورهم الأصلي، فلقد ذَكَرَ لي رجلٌ يدعى أبا علي ياسين من أهل الشام أن نصرانيًّا قال له: كيف تقولون أنتم محمدٌ ءاخرُ الأنبياءِ وتقولون إنه أولُ خلق الله؟ قال: فلم أردّ جوابًا، وذلك لأن هذا الكافر يسمَعُ في بعض بلاد الشام المؤذنينَ على المآذن يرددون هذه الكلمة بعد الأذان: الصلاةُ والسلامُ عليك يا أولَ خلقِ الله وخاتَمَ رُسُلِ الله. ثم إن معيارَ الأفضلية ليس الأسبقية في الوجود بل الأفضلية بتفضيل الله، فالله تعالى يفضّلُ ما شاءَ من خلقه على ما شاءَ، الله تعالى جَعَلَ سيدنا محمّدًا أفضلَ خلقِهِ على الإطلاق وأكثرَهم بركةً مع أنه ءاخر الأنبياء وجودًا صلى الله عليه صلاةً يقضي بها حاجاتنا ويفرّج بها كُرُبَاتنا ويكفينا بها شَرَّ أعدائنا وسَلَمَّ عليه وعلى ءالهِ سلامًا كثيرًا.
ثم إنه ينبغي الاستدلال بحديثٍ ءاخَر يصحُّ أن يُعَدَّ حديثًا ثالثًا للدلالة على أن الماءَ هو أول العالم وهو حديث عمران بن حصين الذي أخرجه البخاريُّ وغيرُه أن أناسًا من أهل اليمن أتوا إلى رسول الله فقالوا: جئنا نسألك عن بَدء هذا الأمر، قال: "كانَ الله ولم يكن شىءٌ غيرُهُ وكان عرشُهُ على الماءِ"، فقوله صلى الله عليه وسلم: "كانَ الله ولم يكن شىءٌ غيره" إثباتٌ لأزلية الله، وقوله: "وكان عرشُهُ على الماء" معناه أن هذين أولُ المخلوقات، وأما الماءُ فعلى وجهِ الإطلاق وأما العرشُ فبالنسبة لما بعده كما أفادَ ذلك قوله عليه السلام: "على الماء" وذلك يدل على تأخرِ العرشِ عن هذا الأصل.
فالحديثان الأولان لا حاجةَ إلى تأويلهما لأجل حديثٍ غير ثابتٍ بل هو حديثٌ موضوعٌ لركاكته، ولا حاجةَ لما ذكره بعضٌ من حملِ حديث: "أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر" على الأوليةِ المطلقة لِغَرَضِ إثباتِ أوليةِ النورِ المحمدي. ثم إن التشبثَ بقولِ إن نور محمد أول المخلوقات على الإطلاق نوعٌ من الغلو وقد نَهَى الله ورسولُهُ عن الغلو. ومن العجب العجاب أن بعض المُعْتَقَدِين قال إن مدة مرض أيوب عليه السلام كانت شهرين، وهذا خلاف الحديث الصحيح عن رسول الله أن بلاء أيوب كان ثمانية عشر عامًا، رواه ابن حبان وصححه. فماذا يقول هؤلاء فيما قاله مريد الشيخ عبد العزيز الدباغ في كتابه الذي ألفه في ترجمة الشيخ الدباغ المسمى الإبريز: إن الشيخ الدباغ قال كان بلاء أيوب شهرين، فماذا يقول هؤلاء الغلاة في وصف المشايخ أكلام رسول الله هو صواب أم كلام الشيخ الدباغ الذي حكاه عنه مريده، وما أكثر الهالكين باعتقادهم أن كلام مشايخهم حق لا خطأ فيه بالمرة، وليعلم هؤلاء ما صح عن سيدنا عمر رضي الله عنه الذي هو أفضل أولياء أمة محمد بعد أبي بكر لا يلحقه في الدرجة من أتى بعده من الأولياء أنه قال: أصابت امرأة وأخطأ عمر وذلك أنه قرر أنه إن زاد أحد في المهر على أربعمائة درهم أنه يأخذه ويضعه في بيت المال فقالت امرأة فقيهة: ليس لك ذلك يا أمير المؤمنين إن الله يقول ﴿وَءاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا {20}﴾ [سورة النساء] فصَعِدَ عمرُ المنبر فقال: أصابت امرأة وأخطأ عمر. وقد ثبت أنه كان متمكنًا في الكشف.
ومن الغلو المشابه لهذا اعتقادُ كثيرٍ من الناسِ أن الوليَّ لا يخطئ في شىءٍ من أمرِ الدين بل ولا في شىءٍ من إلهامه وهذا خلافُ حديث رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الطبراني في الأوسط: "ما مِن أحدٍ منكم إلا يؤخذُ من قولِهِ ويُترَكُ غير رسول الله"، فالولي مهما عَلت مرتبته يُخطئ في بعض المسائل الفرعية إلا في أصولِ العقيدة ونحو ذلك، وعلى هذا كبارُ القوم قال الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه: "إذا عَلِمَ المريدُ من الشيخِ الخطأَ فلينبهه فإن رَجَعَ وإلا فليكن مع الشرع"، وقال الشيخ أحمدُ الرفاعي رضي الله عنه: "سَلّم للقومِ أحوالَهم ما لم يخالفوا الشريعة فإذا خالفوا الشرعَ فَكُن مع الشرعِ".
فيجبُ تحذيرُ هؤلاء المتشبثين بكل ما يُنسَبُ إلى الأولياءِ مما صح عنهم مما هو خطأٌ ومما لم يصح عنهم وذلك أكثر، ويحتجون لهذا الفهم الفاسدِ بقول القائل:
"وكن عندَهُ كالميت عند مُغَسّلٍ ***** يُقَلّبهُ كيما يشاء ويفعل"
ويظنونَ أن معناه أنه يجبُ اتباعُ الشيخ الكامل في كل شىء ولو في الخطإ فهؤلاءِ الجهلةُ ساووا الولي بالنبي.
والحديثُ المذكور حسَّنهُ الحافظُ العراقيُّ، وهو صريحٌ في أن كل فرد من أفرادِ الأمةِ خواصّهَا وعوامِّها لا بد أن يكون بعض قولهم صحيحًا وبعض غير صحيح فلا يُستثنى منهم أحد.
وهناك قاعدةٌ أصوليةٌ تؤيدُ ما ذكرنا وهي: "أن النصَّ لا يؤوّل إلا لدليلٍ سمعي ثابتٍ أو دليلٍ عقلي قاطِعٍ"، قال علماءُ الأصول: لا يجوزُ تأويلُ النص لغيرِ ذلك وإن ذلك عَبَثٌ والنصوص تُصَانُ عن العَبَثِ، ذكر ذلك كثيرٌ كصاحب المحصول، فبعدَ هذا يبطل تأويل المؤولين لحديثِ أولية الماءِ بأن أوليتَهُ نسبيةٌ لتأييدِ قولهم إن أول ما خلق الله نور محمد.
أما تأويلُ حديث أولية القلمِ للتوفيقِ بينه وبينَ حديثِ أولية الماء فذلك حقٌّ وصوابٌ لأن كلا الحديثين ثابتٌ وفي هذا مقنع للمتدبرِ المُنصِفِ.
فائدةٌ: وَرَدَ في حديثٍ صحَّحه بعضُهم وضعَّفهُ ءاخرون أن الله تعالى قال لآدم: "لولا محمّدٌ ما خلقتُكَ" رواه الحاكم وغيرُه، ومعناه خَلقتُ الدنيا لأظهِرَ محمدًا صَفوتها أي أشرف الخلق، فيُفهَمُ من هذا أنه يصحُّ أن يُقالَ إن محمّدًا هو سببُ وجودِ الدّنيا وهذا تشريفٌ.
وأما قولُهُ عليه الصلاة والسّلام: "وَكَتَبَ في الذكر كلَّ شىءٍ" أي أمرَ الله القلمَ الأعلى بأن يكتُبَ على اللوحِ المحفوظِ ما كانَ وما يكون إلى يوم القيامة، والقلمُ واللوحُ جِرمانِ عظيمانِ علويّانِ ليسا كأقلامنا وألواحنا. وقد وردَ أن القلمَ الأعلى من نورٍ لكن ليس ثابتًا ومعناه يُشبهُ النّور، لأن النّورَ لم يُخلَق في ذلك الوقت ولا الظَّلام. واللوحُ وَرَدَ في وصفهِ أنه من دُرّةٍ بيضاءَ حَافَتَاهُ ياقوتةٌ حمراءُ ومساحته مسيرة خمسمائة عام.
وقوله "ثم خَلَقَ السموات والأرض" معناه أن السموات والأرضَ خُلِقت بعد هذه الأشياء الأربعةِ وذلك بعد خمسين ألف سنة لحديث مسلم: "إن الله كَتَبَ مقاديرَ الخلائقِ قبلَ أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة"، والسموات وهي سبعٌ والأرضونَ وهي سبعٌ، وكل سماء منفصلة عن الأخرى بفراغٍ واسعٍ وكل أرض منفصلة عن الأخرى بفراغ واسعٍ، وكل واحدةٍ فوق الأخرى. خُلِقَت في ستّة أيّام وكلُّ يوم من هذه الأيام قَدرُ ألف سنةٍ بتقدير أيّامنا هذه. فلا يَقُل قائلٌ خَلَقَ الله العالمَ في ستَّة أيَّامٍ إنما يُقَالُ خَلَقَ الله السموات والأرضَ وما بينهما في ستةِ أيامٍ كما جاءَ في القرءانِ.
فإن قيلَ: لمَ خَلَقَ الله السموات والأرض في ستَّة أيّامٍ ولم يخلقها في أقلَّ من ذلك فالجوابُ أن يقال: ليعلّمَنَا التّأنّيَ في الأمورِ.
قال المؤلف رحمه الله: ومَعنَى خلقَ كلَّ شَىءٍ أَنّه أخْرجَ جَميعَ الموجُوداتِ منَ العدَمِ إلى الوجُودِ.
الشرح: مَعنَى ذلكَ أنّ الله هو مُحْدِثُ كلّ شَىءٍ منَ العَدمِ إلى الوُجودِ، ولا يُضافُ الخَلْقُ بهذا المَعْنى إلا لله.
قال المؤلف رحمه الله: والله تعَالى حَيٌّ لا يَموتُ، لأنَّهُ لا نهايةَ لوجُودِهِ (أي أبديٌّ)، فلا يطْرأُ عليه العَدَمُ إذ لَوْ وُجِدَ بعدَ عَدَمٍ لاسْتَحالَ عَلَيهِ القِدَمُ (أي الأزليّةُ).
وحكمُ مَن يَقُولُ: "الله خَلَقَ الخَلْقَ فَمن خَلَقَ الله" التكفِيْرُ قَطْعًا لأنَّه نَسَبَ إلى الله تَعالى العَدَمَ قبلَ الوُجودِ، ولا يُقالُ ذلكَ إلا في الحَوادِثِ أي المَخلُوقاتِ، فَالله تَعالى واجِب الوُجُودِ (أي لا يُتَصَوّرُ في العَقْلِ عَدَمُه)، فَلَيسَ وجودُه كوُجُودِنا الحَادثِ لأنَّ وجُودَنا بإيجادِهِ تَعَالى وكُلُّ ما سِوى الله جَائِزُ الوجودِ (أي يُمكِنُ عقلًا وجُودُه بَعْدَ عَدَمٍ وإعْدامُه بعدَ وجُودِه) بالنَّظَرِ لذَاتِه في حُكْمِ العَقْلِ.
الشرح: روى مسلمٌ في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزالُ الناسُ يتساءلونَ حتى يقال: هذا، خَلَقَ الله الخَلقَ فمن خَلَقَ الله، فمن وَجَدَ من ذلك فليقل: ءامنتُ بالله ورُسُلِهِ" ففي هذا الحديث دواءٌ لما يُخالجُ كثيرًا من النُّفوس ويتحدَّثُ به كثيرٌ من الناس فيما بينهم وقد حَصَلَ ما تحدَّث به رسول الله في الحديث، وقولهم: من خَلَقَ الله هو سؤالُ المحالِ وذلك أن الذي تقتضيه البراهينُ العقليَّةُ والنُّصوصُ القرءانيَّةُ أن صانعَ العالم يجب أن يكون أزليًّا فيستحيل أن يكون له خالقٌ، ثم الأزليُّ لا يكون إلا أبديًّا أي أن الذي لم يسبقه عدمٌ لا يلحقُهُ عدمٌ، فبين الخالقيَّةِ والمخلوقيَّةِ اختلافٌ ظاهرٌ. فإن كان هذا خطورًا يخطُر في البال فعلاجُه كما أشار إليه هذا الحديث أن ينحُوَ عن هذا بغيره أي يَشغَلَ فكرَهُ بغيره ويدفَعَهُ بما هو المعتقدُ الصَّحيحُ وليقل: ءامنت بالله ورسلِهِ أو ءامنت بالله وبرسلِهِ فإن هذا ينفعه في قطعِ هذا الخاطر.
والخاطرُ هو ما لا تَملِكُ منعَهُ من أن يَرِدَ على قلبك ويتميّزُ بكونه بلا إرادةٍ، وأما الشَّكُّ فبإرادةٍ.
قال المؤلف رحمه الله: واعْلَم أنَّ أقْسَامَ المَوْجودِ ثَلاثَةٌ الأوَّلُ: أزَليٌّ أَبدِيٌّ وهوَ الله تعالى فقط أي لا بدايةَ ولا نِهايةَ لوجودِهِ.
الشرح: سُئِلَ أبو حنيفةَ رضي الله عنه عن الله فقال: "كانَ كما هو ويكونُ على ما كان" ذكره في إحدى رسائله الخمس، فقوله: "كان كما هو" فيه إثباتُ الأزليَّةِ وقوله: "ويكون على ما كان" فيه إثبات الأبديَّة. فالله تعالى لا بداية لوجودِهِ لأنه أزليٌّ وبثبوتِ القِدَمِ له عقلًا وجبَ له البقاءُ لأنه لو أمكن أن يلحقَهُ العدمُ لانتفى عنه القدمُ وانتفاءُ القِدَمِ عنه مستحيلٌ فانتفى عنه إمكان الفناءِ فهو الباقي لذاته.
ويجبُ القِدَمُ أيضًا لصفاتِهِ لأنه لو لم تكن صفاتُهُ أزليّةً بل كانت تَحدُثُ في الذّات لكان ذلك موجِبًا لحدوث الذّات، فَعُلِمَ من ذلك أنه لا يطرأُ على الله صفةٌ لم تكن في الأزل، ولا يتجدَّدُ له علمٌ ولا إرادةٌ ولا قدرةٌ ولا حياةٌ ولا سمعٌ ولا بصرٌ أيضًا، لا زيادةَ ولا نقصانَ في صفاته لأن الذي يزيدُ وينقصُ فهو حادثٌ مخلوقٌ، فعلمُهُ تعالى لا يزيدُ ولا ينقصُ وكذلك سائرُ صفاته.
ولقد زَاغَ أحمدُ بن تيمية فقال بوجودِ المخلوقِ مع الله في الأزل وقال إنه تحدُثُ في ذات الله صفات فتحدثُ له إرادةٌ بعد إرادةٍ وكلامٌ بعد كلامٍ ولم يدرِ أن حدوثَ الصّفاتِ في الذاتِ يوجِبُ كون الذات حادثًا، فهو في قوله إنه لم يزل مع الله مخلوق قَلَّدَ فيه الفلاسفة، ولقد كَذَبَ من قال في وصفه إنه لسانُ المتكلّمين على مذهبِ السلفِ وهو في الحقيقة مبتدعٌ في الاعتقادِ وفي الأحكامِ، وقد خَرَقَ الإجماعَ في مسائل عديدة في الطلاقِ وغيرِهِ كما قال الحافظُ أبو زُرعَةَ العراقي.
قال المؤلف رحمه الله: وحكمُ من يقولُ إنَّ هناكَ شَيئًا أزَليًّا سِوى الله التكفيرُ قَطعًا ولذلك كفَرت الفَلاسِفَةُ باعتقادِهِمُ السَّفِيهِ أنَّ العالَم قَديمٌ أزَليٌّ لأنَّ الأزَلِيَّةَ لا تَصِحُّ إلا لله تَعالى فقط.
الشرح: من اعتقدَ أن العالمَ أزليٌّ لا بدايةَ له وأنه لم يزل موجودًا مع الله بمادَّته وصورتِهِ أو بمادَّته فقط كابن تيمية فهو كافر، قال الزَّركشيُّ في كتابه تشنيف المسامع: "وهذا العالمُ بجملتِهِ عُلويُّه وسُفليُّه وجواهِرُهُ وأعراضُهُ محدَثٌ بمادَّتِهِ وصورتِهِ، كان عدمًا فصار موجودًا وعليه إجماع أهل المِلل، ولم يخالف إلا الفلاسفةُ ومنهم الفارابيُّ وابن سينا قالوا: إنه قديمٌ بمادَّته وصورته وقيل قديمُ المادّةِ محدَثُ الصورة"، ثم قال: "وضلَّلهم المسلمون وكفَّروهم". انتهى، ويعني بذلك أن هذا كفرٌ بإجماع علماء الإسلام. ابن تيمية تبع المُحْدَثِينَ من الفلاسفة.
قال المؤلف رحمه الله: والثَّانِي: أَبديٌّ لا أَزَليٌّ أي أنَّ لهُ بدايةً ولا نِهايةَ لهُ وهُو الجنّةُ والنارُ فَهما مَخلوقَتان أي لَهُما بدايةٌ إلا أنَّه لا نِهايَة لَهُما أي أبدِيَّتانِ فَلا يَطرأُ علَيهِما خَرابٌ أو فَناءٌ لِمشيْئَةِ الله بَقاءَهُما، أمَّا مِن حَيْثُ ذَاتُهما فَيجوزُ عَليْهِما الفَناءُ عَقْلًا.
الشرح: أن الجنةَ والنارَ بقاؤهما ليس بالذاتِ بل لأن الله شاءَ بقاءهما، فالجنةُ باعتبار ذاتِها يجوز عليها الفناءُ وكذلك النارُ باعتبار ذاتِها يجوز عليها الفناءُ بخلاف الناسِ والملائكةِ والجن فإنهم يفنَون لأن الله لم يشأ بقاءهم، فَعُلِمَ بذلك أنه لا باقي بذاتِهِ إلا الله. وبهذا يندفع استشكال بعض الناس لبقاء الجنة والنار حيث توهم أن في ذلك تشريكًا لهما مع الله. يقال لهم لا يلزم من ذلك المشاركة لأن بقاء الله واجب أي لا يقبل العقل خلافه وأما بقاء الجنة والنار ليس بقاء واجبًا عقليًّا إنما هو من الجائزات العقلية لكن وجب لهما البقاء من حيث حكم الله تعالى ببقائهما، وذلك كإثبات الوجود لله وللعالم فإننا نقول الله موجود والعالم موجود لكن لا يلزم من هذا مشاركة العالم لله في الوجود لأن وجود الله ذاتي لا موجود بذاته إلا الله أما وجود العالم فليس ذاتيًّا بل بإيجاد الله فلا مشاركة. وما أحسن قول الشيخ محي الدين بن عربي لا موجود بذاته إلا الله وما أبشع قول بعض جهلة المتصوفة لا موجود إلا الله.
كذلك قولنا الله حي قادر مريد سميع بصير عالم متكلم باق فليس هناك مشاركة بينه وبين خلقه فإن حياة الله أزلية أبدية أما حياة غيره فليست كذلك، وكذلك يقال في بقية الصفات فلا يكون هذا مشاركة ومماثلة إنما هذا اتفاق في التعبير نعبّر عن الله بأنه موجود ونعبّر عن العالم بأنه موجود ولاموافقة في المعنى. أما إطلاق لفظ التخلق بأخلاق الله فينبغي تجنبه وقد ورد في هذا خبران لا أصل لهما أحدهما تخلقوا بأخلاق الله والآخر السخاء خُلُق الله الأعظم، فلا يجوز وصف الله بالخُلُق ولا يجوز نسبة الخبرين إلى الرسول.
قال المؤلف رحمه الله: الثّالثُ: لا أزَليٌّ ولا أبَدِيٌّ أي أنَّ لَهُ بِدايةً ولَه نِهايةً وهو كُلُّ مَا في هَذِهِ الدُّنيا مِنَ السموات السَّبْعِ والأَرْضِ فَلا بدَّ مِن فَنائِهما وفَناءِ مَا فِيْهما مِنْ إنْسٍ وجِنّ ومَلائِكَةٍ.
الشرح: يعني أن كلَّ ما في السموات والأرض وما فيها من إنسٍ وجنّ وملائكةٍ وبهائمَ وغيرِها يفنى قال تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ {26}﴾ [سورة الرحمن] أي أن كلَّ من على الأرض يفنى، وفناء البشر معناه مفارقَةُ أرواحِهم لأجسادِهم. فالآية نصٌّ في فناءِ من على وجه الأرض وأما فناءُ أهلِ السموات فهو يُفهم من قول الله تعالى: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ {27}﴾ [سورة الرحمن]، ومعنى الوجه هنا الذات أي يبقى الله.
قال المؤلف رحمه الله: واعلَم أَنَّه جَرتْ عَادةُ العُلَماءِ عَلى ذِكْر أنَّ الحُكْمَ العَقْليَّ يَنْقَسِمُ إلى ثَلاثَةٍ: الوُجُوبُ والاسْتِحَالةُ والجَوازُ، وقَالوا: الوَاجِبُ: مَا لا يُتَصَوَّرُ عدمُه وهو الله وصفاتُه.
الشرح: الله تعالى ذاتُهُ واجبُ الوجود ويقال له واجبٌ عقليٌّ، وكذلك صفاتُه أي أن العقلَ يُحَتّمُ وجودَهُ ولا يقبَلُ انتفاءَهُ.
قال المؤلف رحمه الله: والمُسْتَحِيلُ: مَا لا يُتَصَوَّرُ في العَقْلِ وجُودُهُ، وقَدْ يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بالمُمْتَنِع.
الشرح: أما المستحيلُ العقليُّ فهو كالشَّريكِ لله تعالى والعجزِ والجهلِ بالنّسبة إلى الله، فكلّ ما لا يجوزُ على الله فهو مستحيلٌ عقليٌّ. ومن المستحيلِ العقليّ كونُ الحادِثِ أزليًّا.
أما المستحيلُ العادي فيصح وجوده عقلًا لكن عادةً لا يصحُّ كوجود جَبَلٍ من زئبق، فهذا لا يحصلُ في الدنيا على حَسَبِ العادة.
قال المؤلف رحمه الله: والجائزُ: ما يُتَصَورُ في العَقْلِ وجُودُه وعدَمُه ولذَلكَ يَصفونَ الله بالوَاجِبِ الوجود.
الشرح: ما يتصَوَّر في العقل وجودُهُ وعدمُهُ يقال له: الجائزُ العقليُّ ويقال له الممكنُ العقليُّ أي يُمكِنُ وجودُه بعد عدمٍ وإعدامُهُ بعد وجودِهِ بالنَّظرِ لذاته في حكمِ العقلِ، وهو هذا العالم.

الشرح القويم
في حل ألفاظ الصراط المستقيم

قائمة الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم