من كتب العلّامة الهرري كتاب جامع الخيرات - الجزء الأول
 الدرس السابع والأربعون - البدعةُ الحسنةُ والطرقُ الصوفيةُ

الدرس السابع والأربعون
البدعةُ الحسنةُ والطرقُ الصوفيةُ

جامع الخيرات

جامع-الخيرات درسٌ ألقاهُ الصوفـيُّ الأصولـيُّ الفقيهُ الـمُحدثُ الشيخُ عبدُ الله بنُ مـحمدٍ العبدريُّ رحـمهُ اللهُ تعالى في بيروتَ وهو في بيانِ البدعةِ الحسنةِ والكلامِ عنِ الطرقِ التي استحْدَثَها بعضُ الصالحينَ.
قال رحـمهُ اللهُ تعالى رحمةً واسعةً:
الـحمدُ للهِ ربِّ العالـمِينَ والصلاةُ والسلامُ على سيدِ المرسلينَ وعلى ءالهِ الطيبينَ الطاهرينَ.
أمَّا بعد فإنَّ اللهَ تباركَ وتعالى رخَّصَ للمُؤمنينَ أنْ يُـحدِثَ عُلماؤُهُم في الدينِ ما يُوافِقُ القرءانَ والحديثَ إنَّما نـهى اللهُ تعالى عن إحداثِ شىءٍ في الدينِ إذا كانَ ذلكَ الشىءُ مُـخالِفًا للقرءانِ والـحديثِ أمَّا ما يُوافقُ القرءانَ والحديثَ أهلَ العِلمِ إذا أحدَثُوهُ فهوَ مقبولٌ عندَ اللهِ ليسَ بدعةً مُـحرَّمةً، إنَّـما البدعةُ الـمحرَّمةُ هيَ ما أحدَثَهُ الناسُ مـما يُـخالِفُ القرءانَ والحديثَ. فقد أَحدثَ علماءُ الإسلامِ الأتقياءُ أُمورًا في الدينِ لـم يذكُرْها القرءانُ ولا الرّسولُ.
في القرنِ الأولِ منْ تاريخِ الـهجرةِ الإسلاميةِ أحدثَ عُمرُ بنُ عبدِ العزيزِ رضيَ اللهُ عنهُ الـمحاريبَ1 الـمِحرابَ الـمُجَوَّفَ، قبلَهُ ما كانَ لـمسجدِ الرسولِ ولا لغيرِهِ مِنْ مساجدِ الصحابةِ مِـحرابٌ مُـجَوَّفٌ، ما كان، كذلكَ ما كانَ لـمسجدِ الرسولِ ولا لغيرِهِ مِئذَنةٌ فهوَ الذي أحدثَ الـمِئذنةَ.
ثـمَّ بعدَ سِتِمائةِ سنةٍ أحدثَ مَلِكٌ تقيٌّ عالـمٌ عَمَلَ الـمولدِ في شهرِ ربيعٍ الأولِ فوافقَ هذهِ الأمورَ عُلماءُ الإسلامِ ما قالوا هذا شىءٌ لـم يَفعلْهُ الرسولُ فهوَ بدعةٌ مُـحرَّمةٌ. ثمَّ قبلَ ذلكَ بنحوِ مائةِ سنةٍ أحدثَ الشيخُ أحـمدُ الرفاعيُّ والشيخُ عبدُ القادرِ الـجيلانيُّ الطريقةَ وقَبِلَ ذلكَ عُلماءُ الإسلامِ إلا الطائفةُ الضَّالةُ الوهابيةُ فإنَّـهُم يُنكِرونَ الـمولدَ والطريقةَ ولا يُنكِرُونَ الـمَحَارِيبَ ولا الـمآذنَ ويَعتَبِرونَ الـمولدَ والطريقةَ حرامًا فهؤلاءِ كلامُهُم لا عِبرةَ لهُ لأنـهم لا يَعمَلونَ على حسبِ ميزانِ الشريعةِ بلْ يتعلَّقُونَ بِـما أعجَبَهُم ويُنكِرونَ ما لـم يُعجِبْهُم.
إذا قيلَ للوهابيةِ هؤلاءِ الأربعةُ كلٌّ ما فعَلَها الرسولُ ولا الصحابةُ إنَّـما فعلَها غيرُ الصحابةِ كيفَ تُنْكِرونَ اثنينِ وتقبَلونَ اثنين، تقبَلونَ الـمِحرابَ والـمِئذنةَ وتُنكِرونَ المولدَ والطريقةَ وكلٌّ لم يفْعَلْهُ الرسولُ فليسَ عندَهُم جوابٌ إلا أنـهُم يُـحبُّونَ التشويشَ على الناسِ.
ثـمَّ إنَّ الشيخَ أحـمدَ الرفاعيَّ والشيخَ عبدَ القادرِ الـجيلانـيَّ كانا في عصرٍ واحدٍ في العراقِ وكانَ أولياءُ ذلكَ الزمنِ يقولونَ الشيخُ أحـمدُ الرفاعيُّ أجلُّ الـمشايخِ قدرًا. وكانَ الشيخُ أحـمدُ الرفاعيُّ رضيَ اللهُ عنه عالِمًا فقيهًا مـحدِّثًا مُفسِّرًا أعلمَ الناسِ بكتابِ اللهِ وحديثِ رسولِ اللهِ في زمانِهِ لكنهُ لـم يشتغلْ بكثرةِ التآليفِ بلِ اشتغلَ بتدريسِ الناسِ الفقهَ والتوحيدَ والتفسيرَ والـحديثَ. كانَ كلَّ يومٍ يُدرِّسُ أولَ النهارِ وءاخرَ النهارِ إلا يومَ الخميسِ فكانَ يجلسُ على كُرسيِّ الوَعْظِ. كانَ يجتمعُ عندَهُ في ليلةٍ منَ السنةِ مائةُ ألفِ نفْسٍ يتبرَّكُونَ بمجلِسِهِ وكانَ هوَ يَكْفِيهِم طَعَامَهُم وشرابَهُم، وهذا الشىءُ لم يحصُلْ لغيرِهِ منَ الأولياءِ وهذا سِرٌّ مِنْ أسرارِ اللهِ.
ويُسمَّى أبا العباسِ ويُسمَّى أبا العَلَمَينِ ويُسمَّى شيخَ العُرَيـجاءِ لأنهُ خرجَ مرةً إلى قريةٍ فيها أتباعُهُ اسـمُها الحدَّاديةُ فاسْتَقْبَلَهُ أهلُها رِجالاً ونساءً وكانَ بينَهُم بِنتٌ عرجاءُ حَدباءُ قَرعاءُ فلمَّا رأتِ الشيخَ توجَّهَتْ إليهِ طلبَتْ منهُ الدعاءَ قالتْ كَرِهْتُ نفسي لشدةِ ما تَسْتَهْزِئُ بـي بناتُ القريةَ فتوجَّهَ الشيخُ إلى اللهِ تعالى ليُزيلَ عنها ما بـها فاستَقامَتْ رِجْلُها وظَهْرُهَا ونَبَتَ شَعْرُ رأسِهَا في الحَالِ فمِنْ هناكَ سُـمِّيَ شيخَ العُرَيـجاءِ أيِ الشيخَ الذي شَفَى البنتَ العرجاءَ.
ثـمَّ إنَّ اللهَ تعالى أكرمَ أتباعَهُ أهلَ طريقتِهِ بكراماتٍ ذلَّلَ لَهُم السباعَ والعفاريتَ والنارَ والثعابينَ. عُرِفُوا في الشرقِ والغربِ فيما مَضَى أنَّهُم يُشعِلونَ نارًا عظيمةً ويَدْخُلُونها ويَذكُرُونَ اللهَ فيها حتى تَنْطَفِئَ فلا تُؤذِيهِم ولا تُحرِقُ ثيابَهُم وكانُوا يدخلونَ الأفرانَ الحاميةَ ينامُونَ في جانبٍ والخَبَّازُ يَـخْبُزُ في الجانبِ الآخر.
ومِنْ مناقِبِهِ2 رضيَ اللهُ عنهُ أنهُ كانَ لهُ خالٌ مِنْ أولياءِ اللهِ الكبارِ اسمُهُ الشيخُ منصورٌ رأى رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم في المنامِ فقالَ: بَشِّرْ أختَكَ بأنَّها ستَحمِلُ بعدَ أربعينَ ليلةً بولَدٍ يكونُ سيدَ الأولياءِ كما أنا سيدُ الأنبياءِ، فحَمَلَتْ بهِ أمهُ بعدَ تلكَ الليلةِ بأربعينَ ليلةً ثمَّ لَمَّا ولَدَتْهُ اهتَمَّ بهِ خالُهُ هذا مِنْ حَيثُ التربيةُ الدينيةُ فنشأَ رضيَ اللهُ عنه نشأةً طيّبةً إلى أنْ صارَ أفضلَ أولياءِ زمانِهِ.
ثمَّ إنهُ بعدَ الطريقتَينِ الرفاعيةِ والقادريةِ حدَثَتْ طرُقُ الشاذليةِ والنقشبَنديةِ والبَدَويةِ إلى نحوِ أربعينَ طريقةً. كلُّ هذهِ الطرقِ تُقرِّبُ إلى اللهِ لكنَّ اللهَ تباركَ وتعالى جَعَلَ للرفاعيةِ امتيازًا مِنْ بينِ هذهِ الطرقِ كلِّهَا. هذهِ الطرقُ غيرَ الرفاعيةِ دخَلَها التحريفُ، أتباعُها انحَرَفُوا ولا سيما الشاذلية، الشاذليةُ دخلَها انحِرافٌ كبيرٌ كبيرٌ كبيرٌ والعياذُ بالله. أغلبُ مَنْ ينتسبُ إلى الشاذليةِ اليومَ ليسوا على شريعةِ اللهِ. مِنْ أشنعِ ما وصلَ إليهِ هؤلاءِ الذينَ انحرَفُوا منَ الشاذليةِ أنَّهُم صاروا يقُولونَ اللهُ داخِلٌ في كلِّ إنسانٍ الذكرِ والأنثى خرَجُوا منَ التوحيدِ خرجوا منَ الإسلامِ صارُوا أكفَرَ منَ النصارى واليهودِ. لهم وجودٌ في لبنانَ وفي سوريةَ وفي فلسطينَ وفي الأردنِ. يُقالُ لهم لهؤلاء الشاذليةِ الـمنحرفينَ الشاذليةُ اليشرطيةُ. شيخُهُم الذي هوَ كانَ شاذليًّا ثمَّ انتسبوا إليهِ يُسمَّى نورَ الدينِ اليشرُطيَّ3. أصلُهُ مِنْ تونسَ نزلَ في فلسطينَ في بلدٍ اسمُها عكَّا فصارَ لهُ أتباعٌ، أكثرُهُم انحَرَفُوا ضَلُّوا خَرَجُوا مِنَ الإسلامِ في حياتِهِ، في حياةِ الشيخِ انحرَفُوا، قليلٌ مِنْ أتباعِهِ استَفادُوا بَقُوا على الخيرِ. كانَ يوجدُ عالِمٌ تقيٌّ مِنْ لبنانَ انتسبَ إليهِ، بعدما ماتَ صارَ يخرجُ مِنْ قبرِهِ نورٌ إلى السماءِ.
يوجدُ بالقُربِ منَ الجبَّانةِ التي دُفِنَ فيها في بيروت كنيسةٌ للنصارى مِنْ جهةِ الشرقِ فرأتْ راهِبتانِ نصرانِيَّتانِ ذاتَ ليلةٍ نورًا يطلُعُ من قبرٍ من هذهِ الجبَّانةِ إلى السماءِ فتأكَّدَتا موقِعَ القبرِ ثمَّ صباحًا ذهبَتَا إلى الحفارِ الذي يحفرُ القبورَ. سألَتَا هذا القبرُ قبرُ مَنْ؟ قال لهما: الشيخ مصطفى نجا. هذا وقليلٌ استفادُوا مِنْ هذا الشيخ، البقيةُ كفروا والعياذُ بالله. اللهُ تعالى حفِظَ الرفاعيةَ، الرفاعيةُ إلى الآنَ يشتغِلونَ بالعقيدةِ ويهتمُّونَ بالـمُحافظةِ على العقيدةِ أكثرَ مِنْ كلِّ أهلِ الطرقِ لأنَّ إمامَهُمُ السيدَ أحمدَ كان يُؤَكِّدُ الاهتمامَ بالعقيدةِ بالتوحيدِ أنَّ اللهَ تعالى موجودٌ بلا كيفيةٍ بلا مكانٍ ليسَ حجْمًا كثيفًا ولا حجمًا لطيفًا ولا حجمًا صغيرًا ولا حجمًا كبيرًا كالعرشِ لا يوصَفُ بالحركةِ ولا بالسكونِ ولا بالتَّحيُّزِ في جهةٍ أو مكانٍ. السيدُ أحمدُ كانَ يُؤكِّدُ هذا في تعليمِهِ للناسِ فبقيَ أتباعُهُ يهتمُّونَ بالعقيدةِ وصارُوا هُم حرَّاسَ العقيدةِ.
أوصيكُم بالحذَرِ مِنْ كثيرٍ منَ التِّجَّانيةِ، التِّجانيَّةُ مُحرَّفةٌ. بعضُ المشايخِ الخَوَنةُ لـمَّا دخلَتْ فرنسا بلادَ المغربِ عمِلَ لهم طريقةً لأجلِ غرَضِ فرنسا أخذَ كتابَ شيخِهم المخطوطَ حرَّفَهُ وطبَعَهُ فنشرَ هذا الـمُحَرَّفَ وأخفى الأصل فتعلَّقُوا بهذا المطبوعِ فدخَلَتْ عليهم ضلالاتٌ.
انتهى واللهُ تعالى أعلم.
------------------

1- انظر خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى للسمهودي الفصل الثامن في زيادةِ الوليد واتخاذه المحراب والشرفات والمآذن.
2- أي محاسنِهِ
3- وأما الشيخُ نُورُ الدينِ عليٌّ اليشرطيُّ الذينَ يُنسَبُونَ إليهِ فهو بَرئٌ مما يقولونَ بل هو كانَ على التنزيهِ. قال الشيخُ مصطفَى نجا رحمه اللهُ في كشفِ الأسرارِ (ص/36) وكَتَبَ إلى بعض إخوانِنَا من أهلِ العلمِ والفضلِ خارجَ بيروت بَلَغَنِي أنَّ فُلانًا فَسَدَتْ أحوالُهُ وخَرَجَ عن الميزانِ الشرعيِّ فاعْلَمُوا وأَعلِمُوا الجميعَ أنَّهُ مطرودٌ من طريقَتِنَا الشريفةِ هو وكُلُّ من وافقَهُ على فسادِهِ وأفعالِهِ المُخِلَّةِ بالشرعِ الشريفِ وأوصيكُم أن تَزِنُوا أحوالَ الفقراءِ على الكتابِ والسُنَّةِ وكُلُ من رأيتُم منهُ مخالفةً فأنتُم مَأْذُونُونَ بطَردِهِ ولا تُعْطُوا الطريقةَ إلا لِمَنْ وَجَدْتُم فيهِ الأَهليةَ ورَأَيْتُمُوهُ مُتَمَسِّكًا بالشريعةِ الطاهرةِ المرضيةِ. وكَتَبَ لِي يَقُولُ كُلُ طريقةٍ تُخَالِفُ الكتابَ والسنةَ فَهِيَ زندقةٌ وباطلةٌ اهـ قال الشيخ عبد الله الهرري رحمه الله والشيخُ مصطفَى نَجَا مُفْتِي لُبنَانَ صَحِبَهُ واستَفَادَ وانتَفَعَ منهُ وتَخَرَّجَ بهِ وليًّا.


جامع الخيرات
الجزء الأول

قائمة جامع الخيرات