من كتب العلّامة الهرري كتاب جامع الخيرات - الجزء الأول
 الدرس الثامن والعشرون- الشفاعة

الدرس الثامن والعشرون
الشفاعة

جامع الخيرات

جامع-الخيرات درسٌ ألقاهُ الشيخُ نزارُ بنُ رشيدٍ الحلبيُّ رحمه الله تعالى سنةَ ثمانٍ وتسعين أو تسع وتسعين وثلاثمائة وألف وهو في بيان الشفاعة.
قال رحمه الله رحمةً واسعةً:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين والصلاةُ والسلامُ على سيدنا محمد وعلى ءاله وأصحابهِ أجمعين.
أما بعدُ فقد قالَ الله تعالى في سورةِ الأعراف ﴿ورَحْمَتي وسِعَتْ كلَّ شىءٍ فَسَأكْتُبُها للذينَ يتَّقُونَ﴾ بيَّنَ اللهُ سبحانهُ وتعالى أنَّ رحمَتَهُ وسِعَتِ المؤمنَ والكافرَ أيْ في الدنيا أمّا في الآخرةِ فرحْمَتُهُ خاصةٌ للمؤمنينَ. قالَ تعالى ﴿ورَحمَتي وسِعَتْ كلَّ شىءٍ﴾ أي وَسِعَتْ في الدنيا كلَّ مؤمنٍ وكافرٍ ﴿فسَأكتُبُها للذينَ يتَّقونَ﴾ أيْ أَخصُّها في الآخرةِ لِمنِ اتقى الشركَ وسائرَ أنواعِ الكفرِ أما الكافرُ فلا يُرحَمُ في الآخرةِ كما قال اللهُ تعالى في سورة الأعراف: ﴿ونادَى أصحابُ النارِ أصحابَ الجنَّةِ أنْ أفِيضُوا علينا منَ الماءِ أوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالوا إنَّ اللهَ حرَّمَهُما على الكافرينَ﴾ أيْ أنَّ اللهَ حرَّمَ على الكافرينَ الرِّزْقَ النافعَ والماءَ الـمُرْوِيَّ في الآخرةِ وذلكَ لأنهم أضاعوا أعظمَ حقوقِ اللهِ على العبيدِ ألا وهوَ الإيمانُ باللهِ ورسولهِ.
إنَّ رحمةَ اللهِ تعُمُّ وتَشمَلُ المؤمنَ والكافرَ في هذهِ الدنيا أما في الآخرةِ فإنَّ اللهَ لا يرحمُ الكافرَ بشفاعةِ نبيٍّ منَ الأنبياءِ كما يحصلُ لقسمٍ منَ المؤمنينَ ولا يرحمهُ بغيرِ ذلكَ منَ الأعمالِ التي كان يعمَلُها معَ الناسِ في هذهِ الدنيا كإطعامِ المسكينِ والعطفِ على اليتيمِ فإنَّ الكفارَ يُجازَوْنَ في هذهِ الدنيا بالصحةِ والرزقِ ونحوِ ذلكَ على أعمالِهِمُ الحسنةِ أما في الآخرةِ فليسَ للكافرِ في كفةِ الحسناتِ شىءٌ لأنَّ الله تعالى لا يقبلُ الأعمالَ الصالحةَ أيْ لا يقبلُ الحسناتِ إلا مِمَّنْ ءامنَ باللهِ ورسولهِ. قال اللهُ تعالى في سورة النساء ﴿ومَنْ يعمَلْ منَ الصالِحاتِ مِنْ ذَكرٍ أو أنثَى وهُوَ مُؤمنٌ فأولَئِكَ يدْخُلونَ الجنةَ ولا يُظْلَمُونَ نقِيرًا﴾ وقالَ اللهُ تعالى في سورةِ البقرةِ: ﴿مَن ذا الذي يَشْفَعُ عندَهُ إلا بإذنِهِ﴾ وقالَ تعالى في سورة الأنبياءِ: ﴿ولا يشْفَعُونَ إلا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ والمعنى أنَّ أحدًا لا يشفعُ عندَ اللهِ إلا بإذنِ اللهِ ولا يشفعُ أحدٌ منَ الأنبياءِ والملائكةِ ولا غيرِهم لمنْ ماتَ كافرًا ولو كانَ من أقارِبِهِ فلا يشفعُ سيدُنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم مثلاً لأبي لهبٍ ولا يشفعُ سيدُنا عيسى عليه السلامُ للذينَ يعبدُونَهُ ولا يشفعُ سيدُنا موسى عليهِ السلامُ لليهودِ الذينَ كفروا وكذَّبوا المسيحَ ومحمدًا عليهما الصلاةُ والسلامُ وهذا معنى قولِ اللهِ تعالى ﴿ولا يشفَعُونَ إلا لِمَنِ ارتضَى﴾ أي لا يشفعونَ إلا لمن ماتَ على الإيمانِ. رواهُ البيهقيُّ في البعثِ والنشورِ عن ابنِ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهُما.
ومنَ الذينَ يشفعُونَ الأنبياءُ الذينَ هُم أفضلُ المخلوقاتِ وأفضلُهم سيدُنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم فإنهم يشفعونَ لقسمٍ منَ العُصاةِ مِن أُمَمَهم ولكنّهم لا يشفعونَ لمن ماتَ مُرتدًّا بأنْ كانَ يسُبُّ اللهَ مثلاً أو يستهزئُ بالأنبياءِ أو الملائكةِ أو يستهزئُ بالصلاةِ أو الصيامِ أو أحكامِ الشرعِ ولو ظنَّ في نفسهِ أنهُ مسلمٌ.
والملائكةُ الأطهارُ الذينَ ليسَ عليهم ذنوبٌ وكلُّهُم مؤمنونَ مُسلِمونَ مَجْبُولونَ على طاعةِ ربِّهم لا يعصونَ اللهَ، يشفعونَ أيضًا فيُشَفِّعُهُمُ اللهُ في الآخرةِ في قسمٍ من عصاةِ المسلمينَ الذينَ ماتُوا قبل التوبةِ وعليهم ذنوبٌ كثيرةٌ.
وأيضًا يشفعُ العلماءُ العامِلونَ والصالحونَ والشهداءُ وغيرُهم وقد رُوِيَ أنَّ واحدًا منَ الأمةِ الـمُحمَّديةِ يشفعُ لأناسٍ كثيرينَ بعددِ قبيلةِ مُضَرَ وأنَّ الشهيدَ يشفعُ في سبعينَ من أهلِ بيتِهِ.
وليُعلَم أنَّ الذي يسبُّ اللهَ في حالةِ الغضبِ أو المزحِ أو الجِدِّ لا يكونُ مسلمًا قالَ الله تعالى في سورةِ التوبة ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّما كُنَّا نَخُوضُ ونلْعَبُ قُلْ أبِاللهِ وءاياتِهِ ورَسولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ* لا تَعْتَذِروا قدْ كَفَرْتُم بعدَ إيمانِكُم﴾ وكذلكَ يكفرُ مَن يعتقدُ أنَّ اللهَ جسمٌ قاعدٌ فوقَ العرشِ، فقد قالَ الشيخُ عبدُ الغنيِّ النابلسيُّ: "مَنِ اعتقدَ أنَّ اللهَ ملأ السمواتِ والأرضَ أو أنهُ جسمٌ قاعدٌ فوقَ العرشِ فهوَ كافرٌ" اهـ وقال الإمامُ الأشعريُّ "منِ اعتقدَ أنَّ اللهَ جسمٌ فهوَ غيرُ عارفٍ بربِّهِ وإنهُ كافرٌ بهِ" اهـ فاللهُ تعالى لا يُشبهُ المخلوقاتِ، لا يُوصَفُ بالهيئةِ ولا الشكلِ ولا الصورةِ ولا يُوصَفُ بالحركةِ ولا بالسكونِ ولا بالوقوفِ ولا الجلوسِ ﴿ليسَ كمثلِهِ شىءٌ1﴾ ﴿ولمْ يكُن لهُ كُفُوًا أحدٌ2﴾ فالذي يعتقدُ مثلَ هذا الاعتقادِ الفاسدِ أو يصدرُ منهُ مثلُ هذهِ الكفرياتِ ويـموتُ من غيرِ الرجوعِ عنها بالشهادَتَينِ لا يشفعُ لهُ أحدٌ بل يَـخلدُ في النارِ مُهانًا أما المسلمُ الذي يُؤمنُ باللهِ ورسولهِ الإيمانَ الصحيحَ فإنهُ إنْ ماتَ من غير توبةٍ منَ الذنوبِ الكبيرةِ التي عَمِلَهَا فقد يشفعُ لهُ النبيُّ الكريمُ صلى الله عليه وسلم إنْ كَانَ من أمتهِ كما أنَّ سائرَ الأنبياءِ يشفَعونَ لعُصاةٍ مسلمينَ من أممِهِم.
فإبراهيمُ عليه السلامُ لا يشفعُ يومَ القيامةِ لأبيهِ ءازرَ الذي كانَ مُشرِكًا وكانَ ينحتُ التماثيلَ التي يعبُدونها من دونِ اللهِ. وقد دعاهُ سيدُنا إبراهيمُ إلى الإيمانِ باللهِ وتركِ عبادةِ الأوثانِ والتماثيلِ التي لا تضرُّ ولا تنفعُ والتي لا تستحقُّ العبادةَ وبيَّنَ لهُ أنَّ اللهَ هوَ خالقُ الطعامِ والشرابِ وهوَ الذي يرزقُ مَن يشاءُ وهوَ خالقُ كلّ شىءٍ إلا أنَّ ءازرَ عاندَ وأبَى أنْ يتخلَّى عن كفرِهِ.
والشفاعةُ نوعانِ شفاعةٌ للمسلمينَ العصاةِ بعدَ دُخولِهمُ النارَ لإخراجِهِم منها قبلَ أن تنتهيَ المدةُ التي يستَحِقُّونها وشفاعةٌ لمن استحقُوا دخولَ النارِ من عُصاةِ المسلمينَ بذنوبهم فلا يُدخِلُهُم اللهُ النارَ بهذهِ الشفاعةِ.
وأما من كانَ مؤمنًا تقيًّا فهذا لا يحتاجُ إلى الشفاعةِ لذلكَ قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "شفاعتي لأهلِ الكبائرِ من أمتي" اهـ رواهُ أبو داود والترمذي وغيرُهما.
إذن ليسَ هُناكَ كافرٌ يشفعُ فيه رسولُ الله ذلكَ اليومَ ولا أحدٌ منْ أنبياءِ اللهِ لا عيسى ولا إبراهيمُ ولا موسى ولا نوحٌ ولا غيرُهم منَ الأنبياءِ عليهمُ السلام.
وقد قالَ اللهُ تعالى في سورة المائدة إخبارًا عن عيسى الذي كانَ مسلمًا دعا لعبادةِ الله ﴿وقالَ المسيحُ يا بني إسرائيلَ اعبُدُوا اللهَ ربِّي ورَبَّكُم إنَّهُ مَنْ يُشرِكُ باللهِ فقدْ حرَّمَ اللهُ عليهِ الجنةَ ومأواهُ النارُ وما للظالِمينَ مِنْ أنصارٍ﴾ والمعنى أنه لا يشفعُ لكم أحدٌ ولا يُخلِّصُكُم من عذابِ اللهِ أحدٌ أيْ أنا لا أشفعُ لكم ولا أحدٌ غيري يشفعُ لكم وليسَ لكُم إلا النارُ التي أعدِّتْ للكفارِ. ولا يجوزُ أن يعتقدَ أحدٌ أنَّ نبيًّا منَ الأنبياءِ يشفعُ لكافرٍ لأنَّ هذا تكذيبٌ للقرءانِ ورَدٌّ للنصوصِ الشرعيةِ كما لا يجوزُ أن يعتقدَ أحدٌ أنَّ الكافرَ يُرحَمُ يومَ القيامةِ لأنَّ اللهَ أخبرَنا أنَّ رحمَتَهُ في الآخرةِ خاصةٌ بالمؤمنينَ كما قالَ تعالى في سورةِ الأعراف ﴿ورَحْمَتي وسِعَتْ كلَّ شىءٍ فسَأكتُبُها للذينَ يتَّقُون﴾.
اللهمَّ إنا نسألُكَ أنْ ترحَمَنا وأنْ تغفرَ لنا وأن تُثبِّتَ قلوبَنا على الإيمانِ وأنْ تُشَفِّعَ النبيَّ الكريمَ فينا، ونسألُكَ أن تُميتَنا على كلمةِ لا إله إلا اللهُ محمدٌ رسولُ الله.
انتهى والله تعالى أعلم.
------------------

1- سورة الشورى/الآية 11.
2- سورة الإخلاص/الآية4.


جامع الخيرات
الجزء الأول

قائمة جامع الخيرات