من كتب العلّامة الهرري كتاب جامع الخيرات - الجزء الأول
 الدرس الثالث والأربعون - تمييزُ الخُلطةِ المُحَرَّمةِ للرجالِ بالنساءِ مِنْ غيرِها

الدرس الثالث والأربعون
تمييزُ الخُلطةِ المُحَرَّمةِ للرجالِ بالنساءِ مِنْ غيرِها

جامع الخيرات

جامع-الخيرات درسٌ ألقاهُ الفقيهُ المحدثُ الشيخُ عبدُ اللهِ بنُ محمدٍ العبدريُّ رحمهُ اللهُ تعالى وهوَ في بيانِ تمييزِ الخُلطةِ المحرَّمةِ للرجالِ بالنساءِ مِنْ غيرِها.
قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ وصلى الله على سيدِنا محمدٍ أشرفِ المرسلينَ وعلى ءالهِ وصحبِهِ الطيبينَ الطاهرين.
أمّا بعد فقد قال الفقهاءُ الخُلْطَةُ الـمُحَرَّمَةُ بينَ الرجالِ والنساءِ هيَ التضامُّ والتلاصقُ وأما ما سوى ذلكَ فليسَ خُلطةً مُحَرَّمَةً إنْ لـم تكُنْ خَلوةٌ مُحرَّمة1 فقد كانتِ النساءُ في عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلّينَ خلفَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وبعدَ صفوفِ الرجالِ مِنْ غيرِ أن يكونَ بينَ صفوفِ الرجالِ وصفوفِ النساءِ ساترٌ، والمسافةُ بينَ صفِّ الرجالِ الذي يلي النساءَ وبينَ صفِّ النساءِ مِقدارُ مترٍ وشىءٍ لأنه إذا بَعُدَ الصفُّ عنِ الإمامِ أو بعُدَ الصفُّ الذي بعدَهُ عنِ الصفِّ الذي يلي الإمامَ أكثرَ مِنْ ثلاثةِ أذرعٍ يدويةٍ وذلكَ أقلُّ مِنْ مترٍ ونصفٍ كانَ ذلك مكروهًا فأما ما كانَ فيه تضامٌّ وتلاصقٌ فهوَ حرامٌ إذا كانَ عنْ تعَمُّدٍ وإلا فليسَ حرامًا كالذي يحصلُ في الطوافِ حولَ الكعبةِ وعندَ رميِ الجَمراتِ وعندَ المواجهةِ الشريفةِ أي الوقوفِ أمامَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالمدينةِ عندَ قبرِهِ الشريفِ منَ التضامِّ الذي هوَ غيرُ مُتَعمَّدٍ بلْ منْ شدةِ الزحمةِ فلا يُقالُ فيهِ حرامٌ، فلـم يَزَلِ الـمُسلمونَ على ذلكَ إلى وقتِنا هذا2 فالآن الوضعُ في المسجدِ الحرامِ وفي مِنًى في محلِّ الرجمِ وفي مسجدِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم لا يزالُ على هذهِ الحالِ لـم يُخصَّصْ للرجالِ وقتٌ وللنساءِ وقتٌ بلْ يجتمِعُ الفريقانِ في المَطافِ حولَ الكعبةِ وعندَ السلامِ على الرسولِ صلى الله عليه وسلم في المسجدِ النبويّ وغيرِ ذلكَ.
وأما تعليمُ الرجالِ النساءَ الدينَ الشاباتِ وغَيرَهُنَّ فهوَ أمرٌ اتفقَ المسلمونَ على جوازِهِ بلْ على وجوبِهِ في الجُملةِ فقدْ أتى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى مجلسٍ فيهِ النساءُ يومَ عيدٍ خارجَ مسجدِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم ومعهُ بلالٌ رضيَ اللهُ عنهُ فوَعَظَهُنَّ وذَكَّرَهُنَّ وأمَرَهُنَّ بالتصدقِ3 أيْ لمصالحِ المسلمينَ ليسَ لنفسِهِ لأنهُ يحرُمُ عليهِ أكلُ الصدقةِ صلى الله عليه وسلم.
وكذلكَ الـمُبايعةُ التي أمرَهُ اللهُ تباركَ وتعالى أنْ يبايِعَ النساءَ المؤمناتِ 4 دليلٌ على جوازِ دعوةِ الرجالِ النساءَ إلى الدينِ وكذلكَ كانَ كثيرٌ منَ الصحابةِ تقصِدُهُمُ النساءُ والرجالُ للتعلُّمِ منهُمْ كما أنَّ النساءَ منَ الصحابيَّاتِ كانَ الرجالُ والنساءُ يقصِدُونَهُنَّ لعلْمِ الدينِ كأُمِّ الدرداءِ زوجةِ أبي الدرداءِ5 ثمَّ لـم تَزَلْ بعدَ ذلكَ في العصورِ نساءٌ يَتَلقَّينَ العلمَ منَ الرجالِ وكانَ رجالٌ يتلقَّونَ العلمَ منَ النساءِ بلا خَلوةٍ محرمةٍ كانَ في القرنِ الخامِسِ الهِجريّ في دمشقَ عالمُ حديثٍ لـم يكُنْ لهُ نظيرٌ في دمشقَ في ذلكَ الزمنِ يُقالُ لهُ ابنُ عساكرَ تلقَّى الحديثَ مِنْ ألفِ رجلٍ وثلاثِمائةِ امرأةٍ، ومَنْ حرَّمَ أو كرَّهَ تعليمَ الرجالِ النساءَ الدينَ فهوَ كافرٌ باللهِ العظيمِ، فلـم يَقُلْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قطُّ لا يُعلِّمُ الرجالُ الدينَ إلا رجالاً أمثالَهُم ولا قالَ قطُّ لا يتعلمُ الرجالُ الدينَ منَ النساءِ بلْ تعليمُ الدينِ بينَ الرجالِ والنساءِ واجبٌ ومَنْ قالَ خِلافَ ذلكَ فهو مُفترٍ في دينِ اللهِ عَدُوُّ دينِ اللهِ. وليسَ لهؤلاءِ الـمُحرِّفينَ لدينِ اللهِ حُجةٌ شرعيةٌ إلا قولُهُم بأفواهِهِم وليسَ بإمكانِهم أنْ يأتُوا بآيةٍ أو حديثٍ صحيحٍ عنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُثْبِتُ ما يدَّعُونَ ونسألُ اللهَ تعالى أنْ يكفينَا شرَّهُمْ. وليتَ شِعري ماذا يكسِبُونَ مِنْ هذا الافتِراءِ على الدينِ. وفي صحيحِ البخاريِّ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: "بلِّغُوا عنِّي ولو ءايةً"6 اهـ فلو كانَ تبليغُ الرجالِ الدينَ للنساءِ مُحرَّمًا لقالَ ليُبَلِّغِ الرجالُ عني الرجالَ والنساءُ النساءَ.
ولو كانَ الأمرُ كما يقولونَ لَبَعَثَ اللهُ تعالى أنبياءَهُ للرجالِ ونبيَّاتٍ للنساءِ لكنَّهُ تباركَ وتعالى لـم يُرسِلْ نبيَّاتٍ فكانَ في ذلكَ دليلٌ ظاهرٌ على أنَّ الدعوةَ إلى الدينِ فرضٌ منَ الفَريقَينِ للفَريقَينِ أنَّ ذلكَ مطلوبٌ منَ الرجالِ إلى الرجالِ والنساءِ ومنَ النساءِ إلى النساءِ والرجالِ فقولُهُ صلى الله عليه وسلم "بلِّغُوا عني ولو ءايةً" حُكْمُهُ يَشمَلُ الذكورَ والإناثَ كما أنَّ قولَهُ تعالى في سورةِ العصرِ ﴿إنَّ الإنسانَ لَفِي خُسْرٍ* إلا الذينَ ءامَنُوا وعَمِلُوا الصالحاتِ﴾ شامِلٌ للرجالِ والنساءِ وإنْ وردَ بلفظِ التذكيرِ وليس مِنْ ذلكَ شىءٌ خاصٌّ بالرجالِ إلا ما خصَّهُ الشرعُ بالرجالِ وهكذا أغلبُ النصوصِ القُرءانيةِ والحديثيةِ لا يَتَمارَى في ذلكَ إلا مُحرِّفٌ لدينِ اللهِ.
انتهى واللهُ تعالى أعلم.
------------------

1- في المجموع شرح المهذب للنووي ما نصهُ ولأن اختلاط النساء بالرجال إذا لـم يكن خَلوة ليس بحرام اهـ.
2- في وقت إعطاء هذا الدرس لـم يكن فصلٌ بينَ الرجال والنساءِ عندَ السلامِ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بلْ كانتِ النِّسوةُ يقِفنَ خلفَ الرجال عندَ السلامِ.
3- رواه البخاريُّ في صحيحه كتابُ العيدين بابُ خروجِ النساءِ والحيَّض إلى الـمُصلَّى.
4- رواهُ البخاريُّ في الصحيحِ كتابُ بدءِ الوحي.
5- كما في البخاري كتابُ بدءِ الوحيِ ذِكرُ عددٍ ممن حدَّثَ عنها من الرجالِ.
6- رواهُ البخاريُّ في الصحيح بابُ ما ذُكِرَ عن بني إسرائيل.


جامع الخيرات
الجزء الأول

قائمة جامع الخيرات