من كتب العلّامة الهرري كتاب جامع الخيرات - الجزء الأول
 الدرس الخامس والعشرون- حُرمةُ الكِبْرِ والحضُّ على التواضعِ

الدرس الخامس والعشرون
حُرمةُ الكِبْرِ والحضُّ على التواضعِ

جامع الخيرات

جامع-الخيرات درسٌ ألقاهُ العالـمُ العامِلُ الشيخُ عبدُ اللهِ بنُ محمدٍ الشيبيُّ رحِمَهُ اللهُ تعالى يومَ الثامنِ عشر من ربيعٍ الأولِ سنةَ ثمانٍ وتسعينَ وثلاثمائة وألف وهو في بيانِ حُرمةِ الكِبرِ والحضِّ على التواضعِ .
قال رحمهُ اللهُ تعالى رحمةً واسعةً:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ لهُ النعمةُ ولهُ الفضلُ ولهُ الثناءُ الحسنُ وصلى اللهُ على سيدنا محمدٍ وعلى ءالِهِ وشرَّفَ وكرَّمَ وسلَّمَ عليه وعلى ءالِهِ تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ فإنَّ اللهَ تباركَ وتعالى رضِيَ لعبادِهِ التواضعَ فقد قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مَنْ تواضَعَ للهِ رَفَعَهُ1 اهـ رواهُ مسلمُ بنُ الحجاجِ في الصحيحِ، ولذلكَ كانَ خُلُقُ الأنبياءِ التواضعَ للهِ تعالى بالتَّخلُّقِ بالتواضُعِ معَ المؤمنينَ.
ورَوينا في مُسندِ الإمامِ أحمدَ وغيرِهِ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ أنا زعيمٌ ببيتٍ في الجنّةِ لِمَنْ تركَ المِراءَ وإنْ كانَ مُحِقًّا اهـ فالمِراءُ وهوَ الجِدالُ الذي لا يُرادُ بهِ إحقاقُ الحقِّ وإبطالُ الباطلِ الجدالُ الذي ليسَ لوجهِ اللهِ تعالى بلْ يُرادُ بهِ إخفاءُ الحقِّ أو يُرادُ بهِ التّعاظُمُ على الناسِ والترفُّعُ عليهم مَذمومٌ ممقُوتٌ عندَ اللهِ تعالى ويُوجبُ البعدَ منَ اللهِ.
كانَ الإمامُ الشافعيُّ رضيَ اللهُ عنهُ يقولُ إني أُجادِلُ المرءَ لا أحبُّ أنْ أكسِرَهُ إنَّما أحبُّ أن يظهرَ الحقُّ ولو في جانِبِهِ فكانَ الإمامُ الشافعيُّ قصدُهُ مِنْ جِدالِهِ إظهارَ الحقِّ ولـم يكُنْ قصدُهُ تهشيمَ الذي يُجادِلُهُ كما يكونُ قصدُ كثيرٍ منَ الناسِ عندما يُجادِلونَ وهذا مِنْ ذميمِ الخِصالِ لا يحبُّهُ اللهُ تعالى، وإلى ذلكَ يدلُّ حديثُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الذي رواهُ ابنُ حبانَ في الصحيحِ "ليسَ الشديدُ الذي يغلِبُ الناسَ ولكنَّ الشديدَ مَنْ غلبَ نفسَهُ2" اهـ ومعنى مَنْ غلبَ نفسهُ أي يَقْهَرُها حتى لا يكونَ قصدُها الرياءَ والتَّمَيُّزَ عنِ النّاسِ والتّرفعَ عليهم، فمَنْ غلبَ نفسَهُ ومَنَعَها عنِ الترفُّعِ على الناسِ وكانَ يرى في كلِّ ما يحدثُ أنهُ لا يحدثُ إلا بمشيئةِ اللهِ تعالى وعلمِهِ الأزَلِيَّينِ الأبديَّينِ وشَهِدَ ذلكَ شُهُودًا ذَوقيًّا ابتَعَدَ عنْ حبِّ العُلوِّ في الأرضِ وعلى الناسِ لأنهُ أيقنَ أنهُ لا تكونُ منفعةٌ ولا مَضَرَّةٌ إلا بمشيئةِ اللهِ فكانَ همُّهُ وقصدُهُ في مُعاملاتِهِ معَ الناسِ أن يُقرِّبَ اللهُ لهُ الخيرَ ويُبْعِدَهُ منَ الشرِّ لأنَّ اللهَ هوَ مالكُ الأمرِ فيكونُ هَمُّ هذا العبدِ المؤمنِ الذي أيقنَ بذلكَ إيقانًا كامِلاً طلبَ الخيرِ منَ اللهِ تعالى، قلبُهُ يقولُ في أحوالِهِ اللهم ءاتِ نفسي تَقواها وزَكِّها أنتَ خيرُ مَنْ زَكَّاها. ويقولُ في سِرِّهِ أيضًا واصرِفْ عني سَيِّىءَ الأخلاقِ إنهُ لا يصرِفُها إلا أنتَ. فهذا العبدُ الذي لَزِمَ تقوى اللهِ وتخلَّقَ بهذا الخلُقِ هوَ الذي يتحققُ فيهِ قولُ اللهِ تعالى في سورةِ النحلِ ﴿إنَّ اللهَ معَ الذينَ اتَّقَوا﴾ هذهِ معيَّةٌ خاصةٌ وهيَ معيّةُ النُّصرةِ والكِلاءةِ، اللهُ ينصرُ عبدَهُ المؤمنَ التقيَّ على الشيطانِ فلا يستولي الشيطانُ عليهِ مهما حاولَ أنْ يُطْغِيَهُ ويَنصُرُهُ على نفسهِ الأمّارةِ بالسّوءِ. وأمَّا مَنِ ابتعدَ عنْ هذا الشُّهُودِ فإنهُ بينَ شَرَّينِ بينَ شرِّ نفسِهِ الأمّارةِ بالسوءِ وبينَ شرِّ شيطانِهِ القرينِ الذي وُكِّلَ بهِ والمعصومُ مَنْ عَصَمَهُ اللهُ.
مَنْ تمسَّكَ بهذا الحديثِ كُفِيَ كثيرًا منَ الشرورِ والمهالكِ ومَنْ أغفَلَهُ وابتعدَ منَ العملِ بهِ فقدْ وُكِلَ إلى نفسهِ ومَنْ وُكِلَ إلى نفسهِ فقدْ هلكَ.
انظُروا إلى سِيَرِ الأنبياءِ وأخلاقِهم، هذا يوسفُ عليهِ السلامُ قد قصَّ اللهُ تعالى في القرءانِ الكريمِ قِصَّتَهُ التي فيها حِكَمٌ كثيرةٌ. ذكرَ اللهُ تباركَ وتعالى لنا عنهُ أنهُ لَقِيَ مِنْ إخوتِهِ لأبيهِ وهُم عَشَرَةٌ ما لَقِيَ، حاولوا أن يقتُلوهُ حَسَدًا منهُم لأنهُ كانَتْ لهُ محبةٌ في قلبِ والدِهِ لِما اشتَمَلَ عليهِ مِنْ محاسِنِ الأخلاقِ، حاوَلُوا أنْ يقْتُلوهُ ثمَّ عدَلُوا عنِ القتلِ إلى أنْ يُلقوهُ في الجُبِّ أيِ البئرِ فألْقَوهُ فحَفِظَهُ اللهُ تعالى منَ الهلاكِ ومِنْ أنْ يَعْطَبَ في هذهِ البئرِ، ثمَّ ءالَ أمرُهُم إلى أنهم صارُوا مُحتاجينَ إليهِ، صاروا يذهبونَ مِنْ أرضِهِم إلى مِصرَ ليَجلِبُوا الطعامَ مِنْ شدةِ حاجَتِهِم إليهِ، ثمَّ هوَ عرَفَهم فلـم يَنتَقِمْ منهُم بقتلٍ ولا قطعِ أطرافٍ ولا حبسٍ في السجونِ وكانَ قدْ عرَفَهُم وهُمْ لـم يعرِفُوهُ ولكنْ كانَ أمرُهُ معهُم بعدَ عشراتِ السنين أنْ أحسَنَ إليهم معَ أنهُ كانَ قدْ أُوتِيَ مَقدِرَةً على الانتقامِ منهُم. ثمَّ هُم تابُوا، رجَعُوا إلى الإسلامِ3 فتابَ اللهُ عليهم لكنْ لا يكُونونَ أهلاً للنُّبُوَّةِ لأنَّ النُّبُوَّةَ لا يَسْتأهِلُها إلا مَنْ نشأَ على الخُلُقِ الحسنِ، على الصدقِ، على الوَفاءِ، على الصيانةِ، وهؤلاءِ إخوةُ يوسفَ سبقَتْ لهُم هذهِ السوابِقُ الخبيثةُ فلا يستحقُّ واحدٌ منهُم أن ينالَ النبوةَ فمَنْ قالَ منَ الـمُؤَرِّخينَ والعُلماءِ إنهم صارُوا بعدَ يوسفَ أنبياءَ فقد كذبَ.
فينبغي للمؤمنِ أن يقتديَ بأنبياءِ اللهِ فلا يكونَ مجبُولاً على حُبِّ الترفعِ على الناسِ ولا مُتَخَلِّقًا بالكِبْرِ بل يكونُ خلُقُهُ التواضعَ، وفي ذلكَ جاءَ حديثٌ حسنُ الإسنادِ رواهُ الترمذيُّ في جامِعِهِ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ اللهُمَّ أحْيِني مِسكينًا أيْ مُتواضِعًا وأمِتْني مِسكينًا أي واجْعَلْ ءاخرَ أحوالي في الدنيا التواضعَ واحشُرني في زُمرةِ المساكينِ4 اهـ أي المتواضِعينَ، وليسَ معنى الحديثِ أنْ لا يرزُقَهُ كفايَتَهُ لأنَّ اللهَ تعالى أخبرَنا في القرءانِ بأنهُ رُزِقَ كفايَتَهُ، قال اللهُ تعالى في سورةِ الضحى ﴿ووَجَدَكَ عائِلاً فأغْنَى﴾ ومعنى أغنَى أيْ أنالَهُ كفايَتَهُ فهذا الحديثُ مُتَّفِقٌ معَ الآيةِ. والذي عناهُ الرسولُ صلى اللهُ عليه وسلم أن يكونَ مِسكينًا بمعنى الـمُتواضِعِ.
هذا أبو بكرٍ الصدّيقُ رضيَ اللهُ عنهُ اجتمعَ عندَهُ المالُ الكثيرُ، أنفقَ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قبلَ الهجرةِ أربعينَ ألفًا والأربعونَ ألفًا في ذلكَ الوقتِ تُساوي أضعافَ أضعافِها في هذا الزمنِ ومعَ ذلكَ كانَ منَ الـمُتواضِعينَ، كانَ يُخِفُّ صوتَهُ حينَ يقرأُ القرءانَ، أحيانًا ما كانَ يُسمِعُ الناسَ حينَ يَغْلِبُهُ البكاءُ إسماعًا جيِّدًا. ومِنْ شأنِ المتواضِعِ أنهُ لا يكونُ ألَدَّ5 إذا جادلَ إنما يُحاولُ أن يتوصَّلَ إلى إحقاقِ الحقِّ وإبطالِ الباطلِ أمَّا الذينَ يُجادِلونَ ليَتَرفَّعُوا على الناسِ فإنَّهُم في خَطَرٍ عظيمٍ لأنَّ حبَّ الجَدَلِ قد يَسُوقُ صاحِبَهُ إلى المهالِكِ، قد يَخرُجُ بهِ عنِ الشريعةِ إلى الباطلِ الصِّرفِ، والعياذُ باللهِ. فعلى المؤمنِ أنْ يتَوَخَّى6 إذا حاولَ أن يُجادِلَ أنْ يكونَ كلُّ هَمِّهِ إحقاقَ الحقِّ وإبطالَ الباطلِ ويغلبَ نفسَهُ مِنْ أنْ يتغيَّرَ قصدُهُ إلى حبِّ الترفعِ على الناسِ ونُصرةِ رأيهِ بحقٍّ أو باطلٍ.
انتهى والله تعالى أعلم.
------------------

1- رواه مسلم في صحيحه باب استحباب العفو والتواضع.
2- رواه ابن حبان في صحيحه باب الفقر والزهد والقناعة.
3- هم كانوا خرجوا من الإسلام باستخفافهم بأبيهم نبي الله يعقوب حين قالوا إنك لفي ضلالك القديم.
4- رواه الترمذي في سننه باب ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم.
5- الألدُّ من اشتدت خصومته بحيث تخرج به عن الاعتدال.
6- أي يتحرَّى ويقصد.


جامع الخيرات
الجزء الأول

قائمة جامع الخيرات