من كتب العلّامة الهرري كتاب جامع الخيرات - الجزء الأول
 الدرس التاسع والعشرون- الحجُّ

الدرس التاسع والعشرون
الحجُّ

جامع الخيرات

جامع-الخيرات درسٌ أعطاهُ الفقيهُ المحدثُ الشيخُ عبدُ اللهِ بنُ محمدٍ العبدريُّ رحِمَهُ اللهُ تعالى للنساءِ سنةَ تسعٍ وتسعينَ وثلاثمائةٍ وألف في بيانِ الحجّ.
قالَ رحمهُ اللهُ رحمةً واسعةً:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ وصلى اللهُ على سيدنا محمدٍ وعلى ءالِهِ وصحبهِ الطيبينَ أمَّا بعدُ فإنَّ حديثًا في صحيحِ مسلمٍ فيهِ فوائدُ جَمَّةٌ وأحكامُهُ كثيرةٌ وهوَ حديثٌ صحيحٌ مشهورٌ معروفٌ بينَ عُلماءِ الحديثِ عنْ جعفرٍ الصادقِ بنِ محمدِ بنِ عليِّ بنِ الحسينِ بنِ عليّ بن أبي طالبٍ عن أبيهِ محمدٍ الباقرِ قالَ دخلنا على جابرِ بنِ عبدِ اللهِ فسألَ عنِ القومِ حتى انتهى إليَّ فقلتُ أنا محمدُ بنُ عليّ بنُ حُسينٍ فأهوَى بيدِهِ إلى رأسي فنزعَ زِرِّيَ الأعلى ثمَّ نزعَ زِرِّيَ الأسفلَ ثمَّ وضعَ كفَّهُ بينَ ثدْيَيَّ فأنا يومئذٍ غُلامٌ شابٌّ فقالَ مرحبًا بكَ يا ابنَ أخي سلْ ما شِئتَ فسَألتُهُ وهوَ أعمَى وحضرَ وقتُ الصلاةِ فقامَ في ساجَةٍ1 مُلتَحِفًا بها كُلَّما وضعَها على مَنْكِبِهِ رجعَ طرَفاها إليهِ مِنْ صِغَرِها ورداؤُهُ إلى جَنْبِهِ على المِشْجَبِ2 فصلَّى بِنا فقلتُ أخبِرني عنْ حَجَّةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالَ بيدهِ فعَقَدَ تسعةً فقالَ إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مكثَ تسعَ سنينَ لـم يحُجَّ ثمَّ أذَّنَ في الناسِ في العاشرةِ أنَّ رسولَ اللهِ حاجٌّ فقدِمَ المدينةَ بَشَرٌ كثيرٌ كلُّهُم يلْتَمِسُ أنْ يأتَمَّ برسولِ اللهِ ويعملَ مِثلَ عمَلِهِ فخرَجْنا معهُ حتى أتَينا ذا الحُلَيفةِ فولَدَتْ أسماءُ بنتُ عُمَيسٍ محمدَ بنَ أبي بكرٍ فأرسَلَتْ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كيفَ أصنعُ قالَ اغْتَسِلي واسْتَثْفِري بثوبٍ فأحْرِمي وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجدِ ثمَّ ركِبَ القَصْواءَ3 حتى إذا استَوَتْ بهِ ناقتُهُ على البيدَاء4 نظرْتُ إلى مَدِّ بَصَري بينَ يدَيهِ مِنْ راكبٍ وماشٍ وعَنْ يمينِهِ مثلُ ذلكَ وعَنْ يسارِهِ مثلُ ذلكَ ومِنْ خَلْفِهِ مثلُ ذلكَ ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بينَ أظْهُرِنا عليهِ ينزِلُ القرءانُ وهوَ يعرفُ تأويلَهُ وما عَمِلَ بهِ في شىءٍ عَمِلنا بهِ فأهَلَّ بالتوحيدِ لبَّيكَ اللهُمَّ لبيكَ لبيكَ لا شريكَ لكَ لبيكَ إنَّ الحَمدَ والنعمةَ لكَ والـمُلك لا شريكَ لكَ وأهلَّ الناسُ بهذا الذي يُهِلُّونَ بهِ ولـم يَرُدَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شيئًا منهُ ولَزِمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَلْبِيَتَهُ قالَ جابرٌ رضيَ اللهُ عنهُ لَسْنا نَنْوي إلا الحجَّ لسْنا نعرِفُ العُمرةَ حتى إذا أتَيْنا البيتَ معهُ استَلَمَ الرُّكنَ فرَمَلَ ثلاثًا ومَشَى أربَعًا ثمَّ نفَذَ إلى مقامِ إبراهيمَ عليهِ السلامُ فقرأ ﴿واتَّخِذُوا مِن مقامِ إبراهيمَ مُصَلًّى5﴾ وجعلَ المقامَ بينَهُ وبينَ البيتِ ثمَّ رجعَ إلى الركنِ فاسْتَلَمَهُ ثمَّ خرجَ منَ البابِ إلى الصَّفا فلمَّا دنا منَ الصَّفا قرأَ ﴿إنَّ الصَّفَا والـمَرْوَةَ مِنْ شعائِرِ اللهِ6﴾ فأبْدَأُ بِما بدأ اللهُ بهِ فبدأَ بالصفا فرَقِيَ عليهِ حتى رأى البيتَ فاسْتَقبلَ القِبلةَ فوحَّدَ اللهَ وكبَّرَهُ وقالَ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، لهُ الـمُلكُ ولهُ الحمدُ وهوَ على كلِّ شئٍ قدير لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ أنْجَزَ وعْدَهُ ونصرَ وهَزَمَ الأحزابَ وحدَهُ ثمَّ دعا بينَ ذلكَ قالَ مِثلَ هذا ثلاثَ مراتٍ ثمَّ نزلَ إلى الـمَروةِ الحديثَ رواهُ مسلمٌ7.
ورُوّينا في مُستَدرَكِ الحاكمِ وسُنَنِ البيهقيّ وغيرِهِما من حديثِ شَدَّادِ بنِ أوسٍ رضيَ اللهُ عنهُ أنَّ نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ:" إنَّ مِن أفضلِ أيَّامِكُم يومَ الجُمعةِ فيه خُلِقَ ءادمُ وفيهِ قُبِضَ وفيهِ النفخَةُ وفيهِ الصعقةُ فإذا كانَ يومُ الجمعةِ فأَكْثِروا عليَّ منَ الصلاةِ فإنَّ صلاتَكُم معروضةٌ عليَّ" قيلَ وكيفَ تُعرَضُ صلاتُنا عليكَ يا رسولَ الله وقدْ أرَمْتَ قالَ إنَّ اللهَ حرَّمَ على الأرضِ أنْ تأكُلَ أجسادَ الأنبياءِ اهـ هذا الحديثُ يَتَضَمَّنُ فَضْلَ يومِ الجمعةِ، هنا لفظُ الحديثِ إنَّ مِن أفضلِ أيامِكُم يومَ الجمعةِ وإنما قالَ من أفضلِ أيامِكُم ولـم يقُلْ إنَّ أفضلَ أيامِكُم لأنَّ هناكَ أيامًا لها مَزايا وفضائلُ كيومِ الحجّ الأكبرِ وهوَ يومُ العيدِ بالنسبةِ للمُحْرِمِ في الحجِّ، يومُ العيدِ هوَ يومُ الحجّ، يومُ العيدِ هوَ يومُ الحجّ الأكبر، عرفةُ قبلَ يومِ العيدِ.
وسُمِّيَ يومُ العيدِ للحاجّ يومَ الحجِّ الأكبرِ لأنَّ مُعظَمَ أعمالِ الحجِّ تكونُ فيهِ كالطوافِ والحلقِ أو التقصيرِ ورَمْيِ جمرةِ العقَبةِ.
ولا يتنافى هذا معَ حديثِ "الحجُّ عرفةُ" لأنَّ أشدَّ أعمالِ الحجِّ احتياطًا هوَ وقوفُ عرفةَ لِضِيقِ وقتِهِ لأنَّ الوقوفَ بعرفةَ وقتُهُ أقلُّ من يومٍ كاملٍ لأنَّ وقتَهُ من زوالِ يومِ عرفةَ أيِ التاسعِ من ذي الحِجَّةِ إلى الفجرِ، ما بينَ الزوالِ والفجرِ هذا وقتُ عرفةَ فمَنْ لـم يَتَمَكَّنْ منَ الوقوفِ بعرفةَ في هذهِ المدةِ التي هيَ أقلُّ من يومٍ كامِلٍ فاتَهُ الحجُّ فلذلكَ قالَ الرسولُ الحجُّ عرفة معناهُ مَنْ أدركَ عرفةَ أيْ وقفَ بعرفةَ فقد أدركَ الحجَّ أيْ ما سِوى ذلكَ سَهْلٌ عليهِ لأنَّ أركانَ الحجِّ سِوَى الوقوفِ وقتُها واسِعٌ. الطوافُ بالبيتِ الذي هوَ رُكْنٌ من أركانِ الحجِّ لا يُجبَرُ بدَمٍ أيْ بذَبحٍ إنْ فاتَ لأنَّ وقتَهُ واسعٌ، لكنَّ أفضلَ أيامِهِ يومُ العيدِ، فمَنْ لـم يَطُفْ طوافَ الفرضِ في خلالِ أيامِ التّشريقِ طافَ أيَّ يومٍ شاءَ بعدَ ذلكَ لو بعدَ شهرٍ أو شهرينِ أو ثلاثةٍ أو أكثرَ.
والسعيُ مثلُهُ ليسَ وقتُهُ ضيقًا بلْ واسِعٌ إنْ شاءَ يسعَى عَقِبَ طوافِ القُدُومِ أوَّلَ ما يدْخُلُ مكةَ وإنْ شاءَ يسعَى عَقِبَ طوافِ الفرضِ. والحلْقُ أو التقصيرُ يجوزُ فِعْلُهُما كالطوافِ بعدَ شهرٍ أو شَهرَينِ أو ثلاثةٍ أو أكثرَ. فلمَّا كانَ العملُ الذي وقتُهُ ضَيِّقٌ هوَ الوقوفُ بعرفةَ فقط قال عليهِ الصلاةُ والسلامُ "الحجُّ عرفةُ" ليسَ معناهُ أنَّ مَنْ وقفَ بعرفةَ ثبتَ لهُ الحجُّ مِنْ غيرِ توقُّفٍ على أعمالٍ أخرى بلْ لا بُدَّ منَ الإحرامِ الذي هوَ النيةُ أي نيةُ الدخولِ في النُّسُكِ ومِنْ طوافِ الفرضِ والسعيِ والحلقِ أو التقصيرِ.
قولُهُ عليه الصلاةُ والسلامُ "إنَّ مِن أفضلِ أيامِكُم يومَ الجُمعةِ" هوَ لبيانِ أنَّ هُناكَ أيامًا فاضلةً غيرَ يومِ الجُمعةِ وإنْ كانَ يومُ الجمعةِ يَخْتَصُّ بمَزايا ليسَتْ لِتِلكَ الأيامِ الفاضلةِ سِواهُ أيْ من بينِ الأيامِ الفاضلةِ سواه، ومنَ الأيامِ الفاضلةِ عشرُ ذي الحجةِ أيْ من أولِ شهرِ ذي الحِجَّةِ إلى العاشرِ من يومِ العيدِ، كلُّ هذهِ الأيامِ لها فضلٌ عندَ اللهِ تعالى فإنَّ عَمَلَ البِرِّ والإحسانَ في هذهِ الأيامِ يَزْكُو ويزيدُ على ما سواهُ لذلكَ قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "ما من أيامٍ العملُ فيها أحبُّ إلى اللهِ من عشرِ ذي الحِجَّةِ" اهـ فيُفْهَمُ أنَّ الأعمالَ الصالحةَ في هذهِ الأيامِ تزْكُو عندَ اللهِ تعالى أكثرَ مما إذا عُمِلت في غيرِها.
انتهى والله تعالى أعلم.
------------------

1- الساج طيلسان مقور ينسج كذلك وجمعه سيجان وقيل الساج الطيلسان الضخم الغليظ وقيل الطيلسان الأخضر اهـ.
2- المِشجبُ عيدانٌ يضمُ رُءُوسُهَا ويفرَّجُ بين قوائمها وتوضع عليها الثياب وقد تعلق عليها الأسقية لتبريد الماء اهـ.
3- القصواء اسم ناقة للنبي صلى الله عليه وسلم قال ابن الأعرابي القصواء التي قُطِعَ طرف أذنها كما في شرح النووي على مسلم اهـ.
4- البيداء اسم موضع مخصوص بين مكة والمدينة اهـ.
5- سورة البقرة/الآية 125.
6- سورة البقرة/الآية 158.
7- رواه مسلم في صحيحه باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.


جامع الخيرات
الجزء الأول

قائمة جامع الخيرات