من كتب العلّامة الهرري كتاب جامع الخيرات - الجزء الأول
 الدرس الثالث والعشرون- المشايخُ غيرُ معصُومينَ

الدرس الثالث والعشرون
المشايخُ غيرُ معصُومينَ

جامع الخيرات

جامع-الخيرات درسٌ ألقاهُ المحدثُ الشيخُ عبدُ اللهِ بنُ محمدٍ العبدريُّ رحمهُ اللهُ تعالى وهوَ في بيانِ وجوبِ التحذيرِ منَ المنكرِ وأنَّ المشايخَ غيرُ مَعصومينَ منَ الخطإ.
قالَ رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ وصلى اللهُ على سيدِنا محمدٍ وسلَّم، أما بعدُ فهناكَ كتبٌ اشتَهرَتْ وفيها ما يُحذَرُ مثلُ كتابِ تفسيرِ الجلالَينِ، هذا الكتابُ أيْ تفسيرُ الجلالَينِ أعجَبُ كيفَ بقيَ بينَ الناسِ يُقرَأُ وفيهِ كُفرياتٌ، هذهِ غفلةٌ. هذهِ المدةُ ما كانَ فيها سلاطينُ عِندهُم مُراقبةٌ كافيةٌ، لو كانَ فيها سلاطينُ يُراقبونَ مُراقبةً كافيةً ما بقيَ بينَ الناسِ مُستعمَلاً.
الفَخْرُ الرازيُّ قبلَ هذا بثلاثِـمائةِ سنةٍ ذكرَ كُفريةً وردَتْ في الجلالَينِ بيَّنَ أنها كفرٌ. كانَ قد حذَّرَ منها قبلَ ثلاثمائةِ سنةٍ معَ ذلكَ هذا الكتابُ بقيَ بينَ الناسِ مُستعمَلاً. ما هذهِ الغفلةُ. هذهِ الكفريةُ هيَ أنهُ مذكورٌ في هذا الكتابِ أنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم كانَ يقرأُ في سورةِ النجمِ فلمَّا بلغَ ﴿أفَرَءَيْتُمُ اللاتَ والعُزَّى﴾ الشيطانُ ألقَى على لسانِهِ فقرأَ ما ليسَ في القرءانِ وهوَ يظنُّ أنهُ منَ القرءانِ مِمَّا هو مَدْحٌ لهذهِ الأوثانِ الثلاثةِ فجاءَ جبريلُ فقالَ لهُ هذا ليسَ منَ القرءانِ فحَزِنَ الرسولُ فأنزلَ اللهُ هذهِ الآيةَ التي هيَ مِنْ سورةِ الحجِّ ﴿وما أرْسَلنا مِنْ قَبْلِكَ مِن رسولٍ ولا نبيٍّ إلا إذا تَمَنَّ ألْقَى الشيطانُ في أمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشيطانُ ثمَّ يُـحْكِمُ اللهُ ءاياتِهِ واللهُ عليمٌ حكيمٌ﴾ اهـ هذا الكلامُ وارِدٌ في القِسمِ المنسوبِ للجَلالِ المحَلّي. هذا الكتابُ لاثنينِ الجلالِ السيوطيّ والجلالِ المحلي، هذا الكلامُ في النصفِ الثاني المنسوبِ للجلالِ المحليّ.
والصحيحُ أنَّ الرسولَ صلى الله عليهِ وسلم كانَ يقرأُ في سورةِ النجمِ فلمَّا بلغَ إلى هذا الموضعِ الشيطانُ نطقَ بهذا الكلامِ الذي هوَ مدحٌ لهذهِ الأوثانِ وكانَ قُربَهُ مُشرِكونَ ففَرِحوا قالوا ما مدَحَ ءالهتنا قبلَ الآن فلما بلغَ الرسولُ موضعَ السجدةِ في سورةِ النجمِ سَجَدَ الرسولُ وسجدَ معَهُ المشركونَ. أما القصةُ التي أُدخِلَتْ في تفسيرِ المحليّ فيقولُ الفخرُ الرازيُّ: إنَّ مَنِ اعتقدَها كافرٌ. هذا ضررٌ كبيرٌ، كيفَ استمرَّ هذا الكتابُ بينَ الناسِ، لعلَّهُ طُبعَ عشرينَ أو ثلاثينَ طبعةً. هذهِ كفريةٌ منَ الكفرياتِ. بعضُ الناسِ إذا وجدوا كلامًا لمؤلفٍ مشهورٍ بينَ الناسِ يقولونَ هذا صوابٌ ولو كانَ يُخالفُ الدينَ ويخالفُ أصلَ العقيدةِ، يقولونَ هذا المؤلف لا يخطئُ، هذهِ مصيبةٌ كبيرةٌ. الرسولُ عليهِ السلامُ قالَ: "ما مِنكُم مِن أحدٍ إلا يُؤخَذُ مِنْ قولِهِ ويُترَكُ غيرَ رسولِ اللهِ" اهـ وفي روايةٍ: "غيرَ النبيّ" 1 اهـ معناهُ كلُّ فردٍ من أفرادِ الأمةِ بعضُ كلامهِ فيهِ خطأٌ، هذا يشمَلُ الصحابةَ ومَن جاءَ بعدَهم. بعضُ الناسِ على خلافِ هذا الحديثِ، يظنونَ أنَّ مشايِخَهم مشايخَ الطريقةِ يستحيلُ عليهم الخطأ يظنونَ أنَّ كلامَهم كأنَّهُ وحيٌ مُنَزَّلٌ.
إذا تأكدَ المريدُ أنَّ الشيخَ أخطأَ ينبِّهُهُ فإنْ رجعَ الشيخُ فذاكَ الأمرُ وإلا فيترُكُ المريدُ قولَهُ ويَتْبَعُ الشرعَ. الشيخُ عبدُ القادرِ والشيخُ الرفاعيُّ رضيَ اللهُ عنهُما بيَّنا هذهِ الحقيقةَ قالا هكذا، لكنِ المنتسبونَ إلى بعضِ الطرقِ كالقادريةِ والشاذليةِ والنقشبنديةِ كثيرٌ منهُم ما يُنسَبُ إلى واحدٍ من مشايخهم يعتقدونَ ما يُنسَبُ إلى واحدٍ من مشايخهم يعتقدونَ أنهُ الحقُّ ولو كانَ خطأً.
لو كانَ الوليُّ يَجِلُّ عنِ الخطأ ما أخطأَ أبو بكر ولا عمر لأنهما أفضلُ أولياءِ الأمةِ إلى يومِ القيامةِ، حتى المهديُّ ليسَ في درجَتِهِما.
إذا كانَ سيدُنا عمرُ اعترفَ بأنهُ أخطأَ، مرةً راجَعَتهُ امرأةٌ فقيهةٌ فرجعَ عن خطئِهِ وأعلنَ على المنبرِ أنهُ أخطأ، قالَ: "أصابتِ امرأةٌ وأخطأَ عمرُ" فكيفَ هؤلاءِ الأولياءُ الذينَ جاؤوا بعدَهُ كأبي الحسنِ الشاذليّ وشاهِ نَقْشَبَنْد، ماذا يكونُ أمثالُ هؤلاءِ بالنسبةِ إلى عمرَ. كثيرٌ منَ الناسِ غَلَوْا في حبِّ مشايِخِهِم فكفَروا.
شيخُنا الشيخُ أحمدُ عبدُ الرحمن2 رضيَ اللهُ عنهُ كانَ مِن أعبدِ الناسِ ومن أعلمِ أهلِ تلكَ الناحيةِ، نادرٌ مثلهُ في ذاكَ الزمنِ، قالَ لي من شدةِ احتياطِهِ إذا رأيتَ مِني مكروهًا فنَبِّهْني، ما قالَ حرامًا، قالَ مكروهًا.
كيفَ اعتقدَ هؤلاءِ أنَّ الشيطانَ استطاعَ أن يُنطِقَ الرسولَ بكلامٍ هو كفرٌ مدحٌ للأصنامِ ويَظُنُّ الرسولُ أن هذا الكلامَ منَ القرءان، هذا الزعمُ كفرٌ والعياذُ بالله.
فيما مضى قبلَ ألفٍ ومائةِ سنةٍ كانَ رجلٌ يقالُ لهُ الحلاجُ، كانَ مشهورًا بينَ بعضِ الناسِ أنهُ صوفيٌّ وهوَ لـم يكن صوفيًّا بل متشبّهًا، ظهرَتْ منهُ كلماتٌ شاذَّةٌ فتبِعهُ بعضُ المغرورينَ وظنُّوهُ على حقّ من شدةِ جهلِهِم اعتَبروهُ وليًّا واتَّبعوهُ على الكفرِ. سمَّى نفسَهُ "الرحمن الرحيم" وقالَ: "أنا الحقُّ" أي أنا الله والعياذُ باللهِ. ثمَّ هذا الرجلُ لـمَّا ظهرَ أمرهُ ووصلَ إلى القاضي الشرعيّ أبي عمرَ المالكيّ الذي كانَ قاضيَ بغدادَ وإلى الخليفةِ في ذلكَ الزمنِ وكانَ اسمهُ المقتدرَ باللهِ العباسيّ رحمهما اللهُ طُبّقَ عليهِ حكمُ المرتدِ فأخِذَ فقُطِّعَت يداهُ ورِجلاهُ ثمَّ قُطِعَ رأسُهُ ثمَّ أحرِقَتْ جثَّتُهُ بالنارِ وأُذْرِيَ رمادُهُ في النهرِ. جماعتُهُ بدلَ أن يرجِعُوا ويتُوبوا تعصَّبوا لهُ وقالوا الحلاجُ ظهرَ لنا في اليومِ الثاني فقالَ أنتم تزعمونَ كما يزعُمُ هؤلاءِ البقر أنني قٌتِلتُ وصُلِبتُ إنما قُتلَ شبهي، افتَرَوا، كذَبوا، وقالوا أيضًا إنَّ دمَهُ جرَى على الأرضِ وكتبَ لا إله إلا الله الحلاجُ وليُّ الله، وهذا ما حصلَ، لا هو ظهرَ لهم ولا دمُهُ جرَى على الأرضِ وكتبَ، كلُّهُ كذبٌ، وإنما أرادوا تأييدَ دعوتِهِم بدلَ أنْ يتوبوا ويتركوا ذلكَ الرجلَ الحلاجَ. العلماءُ الأولياءُ الصادقونَ شأنُهُم أنهم لا يدَّعُونَ أنهم مَعصومونَ بل يخافونَ أنْ يطرأَ عليهم ما يضرُّهُم. هذا شيخُنا أحمدُ عبد الرحمن كانَ من أعلمِ الناسِ وأعبدِ الناسِ كانَ يختِمُ كلَّ يومٍ ختمةً وكانَ يصومُ ثلاثةَ أشهرٍ غيرَ رمضانَ كانَ كأنهُ ملَكٌ في صورةِ بشرٍ من قوَّتِهِ على الطاعةِ وزُهدِهِ. في أولِ شَبيبَتِهِ خرجَ إلى زَبيدٍ ليَطلبَ العلمَ فأصابتهُ حُمَّى فكانَ صاحبُ البيتِ يخرجُ منَ البيتِ فيتركُهُ وحدَهُ معَ امرأتِهِ. ثمَّ هذهِ المرأةُ تحرّكت نحوَهُ وهوَ كانَ مريضًا، الحمّى هدَّتْهُ ومعَ هذا الطبيعةُ تحركَت فيهِ فجاءَ جدُّهُ وكانَ ماتَ قبلَ ذلك بزمانٍ دخلَ بينهُ وبينَ تلكَ المرأةِ. هذا الشيخُ ما كانَ يعتبرُ نفسهُ مَعصومًا بل قالَ لي إنْ رأيتَ مني مكروهًا فنبِّهني. هكذا المشايخُ الصادِقونَ ليسَ مثلَ رجبْ ديب الذي كانَ يقولُ "نحنُ أنبياءُ مُصَغَّرونَ" وقالَ لجماعَتِهِ "إذا جاءَكُم مُنكرٌ ونكيرٌ في القبرِ قولوا نحنُ مِن مُريدي الشيخ رجب". أبو بكرٍ ما قالَ هذا ولا عمرُ ولا عثمانُ ولا عليٌّ ولا أحدٌ من الأولياءِ الذين جاؤوا بعدهم قال هذا. هذا رجب كافرٌ عدوُّ اللهِ جاهلٌ، هذهِ المقالةُ قالها في دمشقَ وهناكَ أيضًا لهُ أتباعٌ.
اللهُ تعالى يجعلُ بعضَ الناسِ فتَّانِينَ ويجعلُ لهم مَنْ يتبعُهم على الضلالِ. فرعونُ كتبَ اللهُ لهُ أن يكونَ لهُ أتباعٌ، وهذا رجب ديب الدجالُ في زمانِهِ اللهُ تعالى قيَّضَ لهُ أناسًا يسمعونَ كلامَهُ ويَتبعُونَهُ في كُفرهِ. بعضُهُم قالَ يجوزُ أن نقول أشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وأن رجب ديب رسولُ الله. فيجبُ التحذيرُ منهُ ومِن أمثالهِ، إذا علمَ أحدُكُم مَنْ يذهبُ إلى جماعَتِهِ ويستَمِعُ في مجالسِهِم كلامَهم فلـم يحذِّرْهُ لا بنفسهِ ولا بواسطةِ غيرهِ أثِمَ إثمًا كبيرًا.
وكذلكَ حزبُ الإخوانِ والوهابيةُ وحزبُ التحريرِ يجبُ التحذيرُ من كلّ هؤلاءِ، كلُّ هؤلاءِ مِنْ فتنِ هذا العصرِ، اللهُ تعالى أرادَ بهم الضلالَ وأرادَ لمن اتّبعَهم الضلالَ واللهُ فعالٌ لما يُريدُ هوَ الحاكمُ الذي ليسَ لهُ حاكمٌ، هوَ الآمرُ الذي ليسَ لهُ ءامِرٌ، لا يُقالُ لـم فعلَ كذا لـم فعلَ كذا. هذهِ البهائمُ لها روحٌ البقرُ والغنمُ والدجاجُ وغيرُ ذلكَ اللهُ أباحَ لنا أن نقْتُلَها لأجلِ لَذَّتِنا وحرَّمَ علينا أنْ نقتلَ البشرَ ونأكلَ لحمَهُ، نحنُ والبهائمُ كِلانا نتالـمُ بالجَرحِ والذًّبْحِ أحلَّ هذا وحرَّمَ هذا فلا يُقالُ لـم فعلَ هذا. كذلكَ البشرُ والجنُّ شاءَ في الأزلِ أن يكونَ بعضُهم مؤمنينَ صالحينَ وشاءَ أن يكونَ بعضُهُم مؤمنينَ غيرَ صالحينَ وشاءَ أن يكونَ بعضُهم كافرينَ، لا يُعترضُ على اللهِ. اللهُ تعالى لا ينْتَفِعُ بشىءٍ من عباداتِنا وعبادةِ الملائكةِ إنما نحنُ ننتفعُ بعباداتنا، كذلكَ هؤلاءِ الكفارُ لا يَضُرُّونَهُ. لذلكَ نقولُ لا يُسألُ عمَّا يفعلُ ونحنُ المسؤولونَ.
انتهى والله تعالى أعلم.
------------------

1- رواه الطبراني في المعجم الكبير.
2- المعروف بحاج أحمد كبير من مشايخ شيخنا رحمهما الله.


جامع الخيرات
الجزء الأول

قائمة جامع الخيرات