من كتب العلّامة الهرري كتاب جامع الخيرات - الجزء الأول
 الدرس الرابع والعشرون- االكلامُ في المعتزلةِ والمشبهةِ

الدرس الرابع والعشرون
الكلامُ في المعتزلةِ والمشبهةِ

جامع الخيرات

جامع-الخيرات درسٌ ألقاهُ المحدثُ المتكلمُ الشيخُ عبدُ اللهِ بنُ محمدٍ العبدريُّ رحمه الله تعالى وهو في بيانِ القولِ الصواب في حكمِ المعتزلة وفي الردّ على المشبهةِ.
قالَ رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الحمدُ للهِ رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى ءالهِ وأصحابه الطيبين الطاهرين.
أما بعد، فقد اختَلفَ الناسُ في المعتزلةِ فكفّرتهُم طائفةٌ منَ العلماءِ على الإطلاقِ وقالت طائفةٌ بتركِ تكفيرِهم، والصوابُ تكفيرُ مَنْ ثبتَتْ عليهِ قضيةٌ تقتضي تكفيرَهُ. فمَن ثبتَ عليهِ أنهُ يقولُ: إنَّ العبدَ يخلُقُ أفعاله الاختياريةَ أي يُبرِزُها منَ العدمِ إلى الوجودِ استقلالاً أو مشاركةً معَ اللهِ فهوَ كافرٌ لأنهُ أَشركَ باللهِ، جعلَ صفةً خاصةً باللهِ لغيره. وكذلكَ مَن قالَ منهُم: بأنَّ القرءانَ مخلوقٌ وقال: اللهُ متكلمٌ بخلقِ الكلامِ في غيرهِ ليسَ متكلمًا بكلامِ هو صفةٌ قائمةٌ بذاتِهِ فهوَ أيضًا كافرٌ. فإنْ قالَ قائلٌ: كيفَ يُكفَّرُ هذا وثلاثةٌ منَ الخلفاءِ العباسيينَ وافَقوا المعتزلةَ في القولِ بأنَّ القرءانَ مخلوقٌ ولـم يُكَفِّرْهُم أحدٌ منَ العلماءِ بل خاطبَ الإمامُ أحمدُ المعتصمَ منهُم بقولِ يا أميرَ المؤمنينَ فالجوابُ: أنَّ هؤلاءِ الثلاثةَ ما كانوا يعتقدونَ أن اللهَ ليسَ لهُ كلامٌ بمعنى صفةٍ قائمةٍ بذاتِهِ إنما أطلَقوا هذا اللفظَ القرءانُ مخلوقٌ، بهذا وافقُوهم ولـم يُوافقُوهم في الـمَقالتينِ الأُخرَيَينِ القولِ بأنَّ العبدَ يخلقُ أفعالَ نفسِهِ والقولِ بأنَّ اللهَ متكلمٌ بكلامٍ يخلُقُهُ في غيرهِ ليسَ مُتكلمًا بكلامٍ هو صفةٌ لذاتِهِ فبطلَ احتجاجُ بعضِ الناسِ بقولِ أحمدَ للمعتصمِ يا أميرَ المؤمنينَ كمحمدِ سعيدٍ البُوطيّ فإنهُ احتجَّ بذلكَ على نفيِ تكفيرِ المعتزلةِ على الإطلاقِ.
وكيفَ لا يُكفَّرونَ على قولهم إنَّ العبدَ يخلقُ أفعالَ نفسِهِ الاختياريةَ وقد قالوا إنَّ اللهَ تعالى كانَ قادِرًا على أن يخلقَ أفعالَ العبدِ حركاتِهِ وسكناتِهِ قبل أن يُعطِيَ العبدَ القدرةَ عليها وبعدَ أن أعطى العبدَ القدرةَ عليها صارَ عاجِزًا، وهذا ثابتٌ عنهُم صرَّحَ بذلكَ الإمامُ عبدُ القاهرِ بنُ طاهرٍ التميميُّ البغداديُّ والإمامُ أبو منصورٍ الماتريديُّ والإمامُ أبو سعيدٍ المتولي الشافعيُّ والإمامُ أبو الحسنِ شيثُ بنُ إبراهيمَ وإمامُ الحرمَينِ وغيرهم. أما أبو منصورٍ البغداديُّ فقد قالَ ذلكَ في كتابهِ الفرقِ بينَ الفِرقِ، وأما أبو منصورٍ الماتريديُّ فقدْ قالَ ذلكَ في كتابهِ المسمَّى كتابَ التوحيد، وأما أبو سعيدٍ الـمُتوَلي فقد ذكرَ ذلكَ في كتابهِ الغُنيةِ، وأما شيثُ بنُ إبراهيمَ فقد ذكرَ ذلكَ في كتابهِ حَزِّ الغلاصِمِ وإفحامِ المخاصِمِ، وأما إمامُ الحرمَينِ فقد ذكرَ ذلكَ في كتابهِ الإرشادِ.
وأما قولُ الشافعيّ رضيَ اللهُ عنهُ أقبَلُ شهادةَ أهلِ الأهواءِ إلا الخطّابية فهوَ محمولٌ على مَنْ لـم تَثبُت فيهِ قضيةٌ تقتضي كُفْرَهُ بدليلِ أنهُ كَفَّرَ حَفصًا الفردَ المعتزليَّ فقالَ لقد كفرتَ باللهِ العظيمِ1 اهـ فقالَ حفصٌ الفردُ بعدَ خُروجِهِ منَ المجلسِ الذي ناظرَ فيهِ الشافعيَّ فقطعهُ الشافعيُّ وغلبَهُ أرادَ الشافعيُّ ضربَ عُنُقي2 اهـ فقولُ بعضِ الشافعيةِ قولُ الشافعيّ لحفصٍ لقد كفرتَ باللهِ العظيمِ مرادهُ بهِ كُفرانُ النعمةِ لا كفرانُ الجحودِ فهوَ مردودٌ كما قالَ الحافظُ سراجُ الدين البُلقينيُّ في حواشيهِ على روضةِ الطالبينَ ردَّ فيها قولَ روضةِ الطالبينَ3 مِن أنَّ المعتزلةَ تَصحُّ الصلاةُ خلفُهُم. قالَ البلقينيُّ هذا خلافُ ما عليهِ أكابرُ أصحابِ الشافعيّ وهذا ما فَهِمَهُ تلميذُ الشافعيّ الربيعُ الـمُراديُّ لأنَّ عبد الرحمنِ بنَ أبي حاتمٍ روى عن الربيعِ أنَّ الشافعيَّ كفَّرَهُ. وبيانُ ذلكَ أنَّ المعتزلةَ ليسوا كلُّهم على عقيدةٍ واحدةٍ بل بعضُهم يُوافقُ بَعضَهُم على بعضِ مقالاتِهم ويخالفُهم في مقالاتٍ لهم أخرى كبشْرٍ الذي هوَ أحدُ رؤسائِهِم فلا يصحُّ القولُ بتكفيرِ كلِّ الـمُنتسبينَ إلى الاعتزالِ. وقد قالَ ثُمامةُ بنُ أشرَسَ أحدُ رؤساءِ المعتزلةِ إنَّ المأمونَ لـم يُوافقْ على القولِ بخلقِ الأفعالِ اهـ ومجرَّدُ اللفظِ بأنَّ القُرءانَ مخلوقٌ لا يُثبِتُ كفرَهُ إلا إذا كانَ يعتقدُ أن الله ليسَ لهُ كلامٌ إلا هذا اللفظَ الذي يخلُقُهُ. كيفَ واعتقادُ أهلِ السنةِ الـمُنَزِّهينَ للهِ عن صفاتِ الحدوثِ أنَّ القرءانَ وغيرَهُ منَ الكتبِ السماويةِ المنزّلةِ عبارةٌ عن كلامِهِ الذي هوَ صفةٌ قائمةٌ بذاتِهِ الذي ليسَ هوَ حرفًا ولا صوتًا الذي هوَ أزليٌّ أبديٌّ كسائرِ صفاتِهِ. لكنْ إطلاقُ القولِ بأنَّ القرءانَ مخلوقٌ حرامٌ، لكنْ في مقامِ تعليمِ علمِ الاعتقادِ يقالُ عندَ أهلِ السنةِ إنَّ القرءانَ بمعنى الكلامِ الذاتيّ النفسيّ القائمِ بذاتِ اللهِ قديمٌ أزليٌّ ليسَ مخلوقًا أما اللفظُ المنزَّلُ فهوَ مخلوقٌ للهِ لأنهُ لو كانَ اللهُ تباركَ وتعالى يجوزُ عليهِ التلفُّظُ بحروفِ القرءانِ كما يتلفظُ بهِ المؤمنون لجازَ على اللهِ كلُّ الصفاتِ الحادثةِ التي يَتَّصِفُ بها الخلقُ من حركةٍ وسكونٍ وانتقالٍ وصعودٍ ونُزولٍ وسهوٍ وضَعْفٍ ومرضٍ إلى غيرِ ذلكَ ولا يقولُ بذلكَ مَن يعرفُ الخالقَ منَ المخلوقِ.
ولا حُجةَ لإطلاقِ بعضِ الشافعيةِ الـمُتأخّرينَ القولَ إنَّ الطوائفَ المبتدِعةَ في العقيدةِ لا يُكفَّرون لأنَّ هذا مُخالفٌ لقولِ السلفِ فقد نقلَ الإمامُ أبو جعفرٍ الطحاويُّ عنِ السلفِ في كتابهِ الذي سمّاهُ ذِكرُ بيانِ عقيدةِ أهلِ السنةِ والجماعةِ قولَهم ومَن وصفَ اللهَ بمعنَى من معاني البشرِ فقد كفرَ اهـ والنطقُ بحروفٍ مُتعاقبةٍ يسبِقُ بعضُها بعضًا ويتأخّرُ بعضُها عن بعضٍ مِن صفاتِ البشرِ. إذا قرأَ أحدُنا بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ سَبقتِ الباءُ السينَ ثمَّ السينُ سبقتِ الميمَ وهكذا ما بعدَهُ كلُّ حرفٍ سابقٌ ما بعدهُ والذي بعدَهُ مُتأخِّرٌ عما قبلَهُ وهذا نُطقٌ واللهُ لا يوصفُ بالنطقِ وما خالفَ هذا الذي نقلهُ الحافظُ أبو جعفرٍ الطحاويُّ فهوَ مردودٌ، وكذلكَ الجسميةُ ولوازِمُها فمُعْتَقِدُها في حقّ اللهِ تعالى كافرٌ.
ومُعتَقَدُ السلفِ كما نقلَ أبو جعفرٍ الطحاويُّ أنَّ اللهَ يتعالى عنِ الحدودِ والغاياتِ والأركانِ و الأعضاء والأدواتِ ولا تُحيطُ بهِ الجهاتُ الستُّ كسائرِ الـمُبتدعاتِ. فليُحذَرْ ما في كتابِ الاقتصادِ في الاعتقادِ منَ القولِ بأنَّ كلَّ الفِرَقِ المبتدعةِ في العقيدةِ منَ المنتسبينَ إلى الإسلامِ لا يكفرونَ فإنَّ ذلكَ مصادِمٌ للنصّ القرءانيّ في سورةِ الشورى ﴿ليسَ كمِثلِهِ شىءٌ﴾ فمَنِ اعتقدَ اللهَ جسمًا لطيفًا أو كثيفًا فقد جعلَ لهُ أمثالاً كثيرةً كالنورِ والظلامِ منَ الأجسامِ اللطيفةِ والنجمِ والشمسِ والقمرِ والإنسانِ منَ الأجسامِ الكثيفةِ وقد ذكرَ اللهُ في القرءانِ أنَّ الأجسامَ اللطيفةَ والأجسامَ الكثيفةَ مخلوقاتٌ حادثةٌ. قال اللهُ تعالى في سورةِ الأنعامِ: ﴿الحمدُ للهِ الذي خلقَ السمواتِ والأرضَ وجعلَ الظلماتِ والنورَ﴾. أخبرَ في هذهِ الآيةِ بأنَّ الأجسامَ اللطيفةَ والكثيفةَ حادثاتٌ لـم تكُنْ موجودةً ثمَّ صارَت موجودةً بإيجادِهِ وخَلقِهِ. وكذلكَ يستحيلُ على اللهِ لوازمُ الجسميةِ منَ التحيُّزِ في المكانِ والصِغَرِ والكِبَرِ والتحولِ من صفةٍ إلى صفةٍ وكلُّ ذلكَ مَنفيٌّ عنِ اللهِ بهذهِ الآيةِ ﴿ليسَ كمِثْلِهِ شىءٌ﴾ فأمّا مَنْ ينفي عنِ اللهِ بعضَ صفاتِ الخَلقِ ويُثبِتُ لهُ بعضَها فهوَ مخالفٌ للعقلِ والنقلِ فلو كانَ يجوزُ على اللهِ الجسميةُ والمقدارُ واللونُ والحرارةُ والبرودةُ والانفعالُ لكانَ ذلكَ نقضًا للدليلِ العقليّ القاضي بأنَّ الشمسَ والقمرَ والنجومَ وغيرَها لا تصلحُ للألوهيةِ، لا يستقيمُ هذا الدليلُ العقليُّ القاطعُ إلا على مذهبِ أهلِ السنةِ الذينَ يَنْفُونَ عنِ اللهِ هذهِ الصفاتِ القائمةَ بالمخلوقِ لأنهُ لو كانَ حجمًا مخصوصًا لجازت الألوهيةُ للشمسِ لكنَّ أهلَ الحقّ الـمُتمسكينَ بذلكَ الدليلِ العقليّ يُبطِلونَ ذلكَ بقولهم الشمسُ لها حجمٌ مخصوصٌ ولونٌ مخصوصٌ وصفاتٌ مخصوصةٌ كالحرارةِ والتّحيُّزِ في الفضاءِ الذي هوَ مكانُها يُبطِلونَ عقيدةَ عُبّادِها بكونِ اعتقادِهِم الألوهية للشمس باطلاً مخالفًا للعقلِ. نُبطِلُ اعتقادَهُم مِن دونِ أنْ نُوردَ عليهمُ الدلائلَ القرءانيةَ كقولهِ تعالى في سورةِ الأنبياء: ﴿وهُوَ الذي خلقَ الليلَ والنهارَ والشمسَ والقمرَ﴾ الآيةَ. فإذا كانتِ الشمسُ يَمنعُ الدليلُ العقليُّ دعوَى ألوهيتِها معَ أنَّ الشمسَ حجمٌ كبيرٌ كثيرةُ النفعِ للخلقِ فكيفَ يستجيزُ العاقلُ أنْ يكونَ اللهُ تعالى حجمًا قاعدًا على العرشِ أو مُتحيّزًا فوقَ العرشِ من دونِ القولِ بأنهُ قاعدٌ.
ثمَّ في القرءانِ الكريمِ ما يدلُّ على أنَّ ألفاظَ القرءانِ لا يجوزُ أن تكونَ منطوقةً لله تعالى. قولُ اللهِ تعالى في سورةِ التكويرِ ﴿إنهُ لَقَولُ رسولٍ كريمٍ* ذِي قوةٍ عِندَ ذي العرشِ مَكين* مُطاعٍ ثَمَّ أمينٍ﴾. الرسولُ الكريمُ هوَ جبريلُ باتفاقِ الـمُفسرينَ فلمَّا كانَ القرءانُ مَقْرُوءَهُ عبَّرَ القرءانُ بهذهِ العبارةِ ﴿إنهُ لَقَولُ رسولٍ كريمٍ﴾ ليُفهِمَنا أنَّ القراءةَ المعهودةَ وهيَ إيرادُ الكلماتِ بصوتٍ وحروفٍ متعاقبةٍ هوَ من صفةِ جبريلَ ليسَ من صفةِ الله، ومعَ هذا يجوزُ إطلاقُ القرءانُ كلامُ اللهِ بمعنى أنَّ هذا اللفظَ هوَ عبارةٌ عن كلامِ اللهِ الذي هوَ صفتُهُ القائمِ بذاتِهِ كحياتِهِ ليسَ على أنَّ اللهَ تعالى قرأهُ على جبريلَ كما يقرأُ الأستاذُ على الطالبِ.
ومما يدلُّ على أنَّ كلامَ اللهِ ليسَ بصوتٍ وحروفٍ أنهُ لـم يَرِدْ في الكتابِ ولا في السنةِ أنَّ اللهَ يَنطِقُ ولا وردَ في أسمائِهِ الناطِقُ إنما الذي وردَ في حقهِ تعالى الكلامُ والقولُ وهما مُترادِفانِ فما كانَ منَ الكلامِ والقولِ للمخلوقِ فقد يكونُ بالحرفِ والصوتِ وما كانَ للهِ فبخِلافِ ذلكَ لأنهُ لا يجوزُ على اللهِ أن لا يشابِهَ خلقَهُ في شىءٍ ويُشبِهَهَم في شىءٍ ءاخرَ لذلكَ وردَتِ الآيةُ بلفظِ النكرةِ في مَعْرِضِ النّفيِ، فشىءٌ الواردُ في هذهِ الآيةِ ﴿ليسَ كمِثلِهِ شىءٌ﴾ يشملُ كلَّ أجناسِ الخلقِ الحجمِ وصفاتِ الحجمِ. فالآيةُ نزَّهَتِ اللهَ تعالى عن أنْ يكونَ حجمًا أو صفةَ حجمٍ وهذا معنى كلامِ الـمُتكلمينَ في علمِ كلامِ أهلِ السنةِ إنَّ اللهَ ليسَ جوهرًا ولا عَرَضًا فقولهم هذا شرحٌ للآيةِ ليسَ إلا. أما المشبهةُ فقد جعلتِ اللهَ تعالى حجمًا وأثْبَتَتْ لهُ مع ذلك صفاتِ الحجمِ حيثُ إنهُ عندَهم حجمٌ لطيفٌ عندَ مَنْ قالَ منهم إنهُ نورٌ يتلألأُ وحجمٌ كثيفٌ عندَ مَن قالَ منهم إنهُ حجمٌ قاعدٌ على العرشِ أو قال هوَ حجمٌ متحيزٌ فوقَ العرشِ بدونِ وصفِهِ بالقعودِ وكِلا الفريقَينِ مخالفٌ للآيةِ لكنَّ الفريقَ الذي أثبَت لهُ القعودَ أنْحَسُ وأنجَسُ لأنَّ هؤلاءِ الذينَ وصفوهُ بالقُعودِ على العرشِ وصفوهُ بصفةٍ يشتَرِكُ فيها ذَوو العقولِ الملائكةُ والإنسُ والجِنُّ وغيرُهم منَ البهائمِ والطيورِ وكِلا الفريقَينِ جاهلٌ بخالقِهِ فلو ناظَرَهُم عابدُ الشمسِ لـم يستطيعوا أنْ يُقيموا عليهِ حُجةً عقليّةً لأنهُ لا يقبلُ الحجةَ النقليةَ لا يقبلُ القرءانَ لأنهُ يقولُ أنا لا أؤمنُ بكتابكم أعطوني دليلاً عقليًا على أنَّ الشمسَ لا يصح أن تكونَ إلهًا من حيثُ العقلُ وأنَّ ما تَزعُمُونَهُ من وجودِ جسدٍ قائمٍ فوقَ العرشِ أو مستقرٍّ يستحقُّ الألوهيةَ حقٌّ. وأما أهلُ السنةِ فإنَّ لهم جوابًا حُجةً عقليةً يقطعونَ عابدَ الشمسِ بها، يقولونَ لهُ مَعبودُكَ هذا الشمسُ حجمٌ مخصوصٌ لهُ شكلٌ مخصوصٌ وصفةٌ مخصوصةٌ وحيّزٌ مخصوصٌ فكيفَ تَخصَّصَ بهذهِ الصفاتِ دونَ غيرِها فإنْ قالَ هيَ خصَّصَتْ نفسَها بهذا الحجمِ وهذهِ الصفةِ، قيلَ لهُ يستحيلُ عقلاً أن يُخصِّصَ الشىءُ نفسَهُ بحجمٍ مخصوصٍ وصفاتٍ مخصوصةٍ دونَ غيرِ ذلكَ الحجمِ وتلكَ الصفاتِ إنما الذي خصّصها بالوجودِ على هذا الحجمِ المخصوصِ وتلكَ الصفاتِ المخصوصةِ مَوجودٌ ليسَ حجمًا لا يتصفُ بصفاتٍ حادثةٍ فهوَ الذي يصحُّ عقلاً أن يكونَ موجودًا خالقًا للشمسِ وغيرها منَ الأجسامِ والأعراضِ أيِ الصفاتِ التي تقومُ بالأجسامِ عندئذٍ لا يجدُ عابدُ الشمسِ جوابًا بل ينقطعُ. وللهِ الحمدُ أن وفَّقَ أهلَ السنةِ الذينَ جَمعوا بينَ التنزيهِ والإثباتِ لهذهِ الحجّةِ العقليةِ معَ الحججِ القرءانيةِ والحديثيةِ. أما الحجةُ القرءانيةُ فتكفي هذهِ الآيةُ التي مرَّ ذِكرُها، وأما الحُججُ الحديثيةُ فمِنها حديثُ البخاريّ كانَ اللهُ ولـم يكُنْ شىءٌ غيرُهُ4 اهـ إذ منَ المعلومِ يقينًا أنهُ لـم يكن في الأزلِ حجمٌ لطيفٌ ولا حجمٌ كثيفٌ ولا صِفاتُهُما فوجبَ من ذلكَ أنَّ اللهَ تعالى ليسَ حجمًا متصفًا بصفاتِ الحجمِ وهذهِ حجةٌ ظاهرةٌ كالشّمسِ لكنْ مَن أقفلَ اللهُ قلبَهُ لا يفهَمُها.
انتهى والله تعالى أعلم.
------------------

1- رواه البيهقي في مناقب الشافعي.
2- رواه البلقيني في حواشي الروضة.
3- ما في الروضة من القول بصحة الصلاة خلف المعتزلة فهو لأنه لا يُحكم على كل فردٍ انتسب إليهم بالكفر فإنَّ مِنَ الناسِ مَن انتسبَ إليهم من غير أن يعتقد مقالاتهم الكفرية وإنما اعتقد مقالاتٍ من مقالاتهم أقل ضررًا ولـم يُرد صاحبُ الروضةِ أنه تصح الصلاةُ خلف من بلغ حد الكفر منهم. لكن عبارة الروضة توهمُ الإطلاق ولهذا ردّها البلقينيّ.
4- رواه البخاري في صحيحه باب ما جاء في قول الله تعالى ﴿وهوَ الذي يبدَؤُا الخلقَ ثمَّ يُعيدُهُ وهُوَ أهْوَنُ عليهِ﴾.


جامع الخيرات
الجزء الأول

قائمة جامع الخيرات