قال المؤلف رحمه الله (فصل)
الشرح أن هذا فصل معقود لبيان أهمية تعلم أحكام البيع وغيره من المعاملات.
قال المؤلف رحمه الله (يجبُ على كلِّ مسلم مكلّفٍ أنْ لا يدخلَ في شىءٍ حتَّى يعلمَ ما أحلَّ الله تعالى منهُ ومَا حرَّمَ لأنَّ الله سبحانَهُ تَعبّدَنا أي كلَّفَنا بأشياءَ فلا بُدَّ مِنْ مُرَاعاةِ ما تَعَبَّدَنَا)
الشرح على العبد أن يطيع خالقه بأداء ما أمر به واجتناب ما نهى عنه لأنه أهل1 لأن يُطاع، وسواء في ذلك ما عُقِلَت الحكمة فيه لنا وما لم تعقل الحكمة فيه لنا لأن بعض ما تعبّدنا به معقول المعنى لنا وبعضًا غير معقول المعنى لنا، وذلك ابتلاءٌ منه لعباده واختبارٌ لأنّه من سلّم لله في كل شىء فهو العبد المطيع المسرع في الطاعة ومن لم يكن كذلك فليس كاملَ الطاعة.
قال المؤلف رحمه الله (وقدْ أحلَّ البيعَ وحَرَّمَ الرِّبا، وَقَدْ قَيَّدَ الشرعُ هذا البيعَ بآلةِ التعريفِ لأنّهُ لا يَحِلُّ كلُّ بيعٍ إِلا ما استوفى الشروطَ والأركانَ فلا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاتِهَا)
الشرح أن الله تبارك وتعالى لما ذكر في كتابه البيعَ الذي أحلّه وعرّفه بأداة التعريف وهي الِ العهديّة2 أي التي تفيد أن البيع الذي أحلَّه هو البيع المعهود في شرعه بالحلّ وجب على متعاطي البيع والشراء معرفةُ ما أحلّ الله من ذلك لأنه بدون هذه المعرفة لا يأمن على نفسه من الوقوع في البيع الذي لم يحلَّهُ الله.
فمن شروط جواز البيع3 أي صحته أن يكون العوضان أي المبيع والثمن مباحين في الشرع فلا يجوز بيع المحرّم كبيعِ نَجِسِ العينِ كالدمِ ولحْمِ الميْتةِ وسائرِ أجزائها من عظمٍ وشعرٍ وغيرِ ذلك.ومنها أن يكون غير موقت أو معلّق فلا يصحُّ أن يقولَ له بِعْتُك هذا الغَرَضَ لسنةٍ أو أن يقول له إن جاء أبي من سفَرِه فقد بِعْتُكَ هذا الكتاب، ومنها أن يكون المعقود عليه أي كل من الثمن والمثمن طاهرًا وأن يكون معلومًا، وأن يكون البائع قادرًا على تسليمه، وأن لا يكون معدومًا كبناء لم يُبْنَ بعد.
قال المؤلف رحمه الله (فعلى مَنْ أرادَ البيعَ والشراءَ أن يتعلَّمَ ذلكَ وإِلا أَكلَ الرِّبا شاءَ أَمْ أبى. وقدْ قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «التّاجرُ الصَّدوقُ يحشرُ يومَ القيامةِ معَ النبيين والصِّدِّيقينَ والشّهداءِ»4
وما ذاك إِلا لأجلِ ما يلقاهُ مِنْ مجاهدةِ نفسِهِ وهواهُ وقهرِهَا على إجراءِ العقودِ على الطّريقِ الشرعيِّ وإِلا فَلا يَخْفَى ما تَوَعَّدَ اللهُ مَنْ تعدَّى الحدودَ.
الشرح لَما ذكر الله تبارك وتعالى إحلاله البيع وتحريمه الرِّبا علمنا أنه ليس كل بيع حلالا وأن السبيل لتجنّب الحرام وموافقة الأحكام الشرعيّة المتعلقةِ بالبيع والشراء وما يتبع ذلك التفقُّهُ في دينِهِ لأن من لَم يتعلّم ما يتعلق بذلك من الأحكام الشرعيّة يُخشى عليه أن يقع في الرِّبا الذي هو من أكبر الكبائر وفي غير ذلك من المعاملات المحرمة، وقد ثبت عن عمر رضي الله عنه أنّه قال «لا يقعد في سوقِنا من لم يتفقَّهْ» رواه الترمذي5.
وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «التّاجرُ الصّدوقُ يُحشرُ يومَ القيامةِ معَ النبيين والصِّدِيقينَ والشهداءِ» بشارة لمن تعاطى التجارة واتّقى الله بتجنّب ما حرّم الله تعالى من أنواع التجارات المحرمة والخيانة والغِش والتدليس بأن يوهمَ المشتريَ خلاف الحقيقة والتزم الصدق في وصفه لبِضاعته وسلعته وفي إخباره بالثمن الذي اشترى به بضاعته إن ذكره بأنَّه من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأما من لم يكن كذلك فهو مستحق للعذاب الأليم.
قال المؤلف رحمه الله (ثمَّ إِنَّ بقيةَ العقودِ من الإجارةِ والقِرَاضِ والرَّهنِ والوَكالة والوديعةِ والعاريةِ والشركة والمساقاةِ كذلك لا بدَّ من مراعاة شُروطِها وأركانِها.)
الشرح أنَّ هذه المذكورات حكمُها حكم البيع في وجوب معرفة أحكامها الشرعيّة على من أراد تعاطيَها. وقول المؤلف "من الإجارة" يريد به أنه يجب تعلُّم أحكام الإجارة على من أراد تعاطيها فالإجارة منها ما هو جائز ومنها ما هو باطل والإجارة الصحيحة هي التي استوفت الشروط وتعريفها شرعًا أنها تمليك منفعة مباحة بعِوض مع بقاء العين على وجه خاص. والمراد بالمنفعةِ هنا المنفعةُ المعتبرةُ حِسًا وشرعًا،
وتشترط فيها الصيغة عند الإمام الشافعي وأن تكون معلومة لا مجهولة بأن يكون كل من الأجرةِ والعملِ معلومًا.
وقول المؤلف "والقِراض" يريد به أنه يجب على من أراد تعاطيَ القراض معرفة ما يحتاج إليه من أحكامه. والقراض هو تفويض الشخص وإذنُهُ لشخص أن يعمل في ماله في نوع أو أنواع من التجارة على أن يكون الربح مشتركًا6.
القراض هو تفويض الشخص وإذنُهُ لشخص أن يعمل في ماله في نوع أو أنواع من التجارة على أن يكون الربح مشتركًا
وقول المؤلف "والرهن" يريد به أن من أراد تعاطي الرهن يجب عليه معرفة ما يحتاج إليه من أحكامه. والرهن هو جعل عين مالية وثيقة بدين يُستوفى منها الدين عند تعذُّر الوفاء7، فمعناه أن يستمسكَ الدائنُ بشىءٍ من مالِ المدينِ ليستوفيَ من هذا حَقَّهُ إذا تعذّرَ عليه الإيفاءُ، ويكون الاستيفاء بطريق الحاكم.
وأمّا ما يسمِّيه بعض الناس استرهانًا وهو أن يدفع الشخص شيئا يملكه لمن أقرضه مبلغًا من المال على أن ينتفع به المقرض مجانًا إلى أن يوفيه دينه أو يشرط عليه أُجْرَةً مخفّفة له من أجل الدَّين فذلك حرام بالإجماع وهو نوع من أنواع الرِّبا8 وكثيرٌ من الناس واقعون فيه فهؤلاء وقعوا في هلاك عظيم لأنهم يستحقُّون العذاب بهذا العمل وهم مطالَبُونَ بدفع أجرة مثل هذا الشىء فإن كان المرهون الذي شَرَطَ الانتفاع به بسبب الدين بيتًا سكنه الدائن مجانًا أو دابةً أو سيارةً ركبها مجانًا وجب عليه أجرة المثل للقدر الذي استعمله فيه، وهذا منصوص عليه في كثير من مؤلّفات الفقهاء.
وقول المؤلف "والوَكالةِ" يريد به أنه يجب على من أراد تعاطيَ الوكالة معرفة ما يحتاج إليه من أحكامها وهي تفويض شخصٍ إلى غيره تصرفًا على وجه خاص ليفعله حال حياته9.
وقول المؤلف "والوديعة" يريد به أنّه يجب معرفة أحكام الوديعة على من أراد تعاطيها. والوديعة هي ما يوضع عند غير مالكه لحفظه. ولا يجوز قبول الوديعة ممن يعلم من نفسه أنّه لا يستطيع حفظها، وتستحبّ لمن وثق بأمانة نفسه مع القدرة على حفظها10.
وقول المؤلف "والعاريّة" يريد به أنّه يجب معرفة أحكام العارية على من أراد تعاطيها. والعارية هي إباحة الانتفاع بشىء مجانًا مع بقاء عينه ويشترط في الْمُعار أن يمكن الانتفاع به انتفاعًا مباحًا مع بقاء عينه فلا يصح إعارة مطعوم للأكل أو الشمعة للوقود.
وليس للمستعيرِ أن يُعيرَ غيره ما استعاره بدون إذن المعير11.
وقول المؤلف "والشركة" يريد به أنّه يجب معرفة أحكام الشركة على من أراد تعاطيها.
والشركة هي عقد يتضمن ثبوت الحقّ في شىء لاثنين فأكثر على جهة الشُّيوع12
وقول المؤلف "والمساقاة" يريد به أنّه يجب معرفة أحكام المساقاة على من أراد تعاطيها. والمساقاة هي معاملة شخص على شجرٍ ليتعهده بنحو سقيٍ على أن تكون الثمرة بينهما. ويشترط في المساقاة أن يكون الشجر نخلا أو عنبًا مغروسًا مُعَيَّنًا13.
قال المؤلف رحمه الله (وعقدُ النكاحِ يحتاج إلى مزيدِ احتياطٍ وتثبتٍ حذرًا مما يترتَّبُ على فَقدِ ذلكَ.)
الشرح النكاح أشدُّ حاجة إلى معرفة أحكامه الشرعيّة من كثير من الأمور فإنّ من جهل أحكامه قد يظن ما ليس بنكاح نكاحًا فيتفرّع من ذلك مفاسدُ.
فهو جدير بمزيد احتياط وتَثَبُّتٍ لأن حفظ النسب من الكُلِّيَّات الخمس14 التي اتفقت عليها الشرائع وهي حفظ النفس والمال والعِرض والعقل والنسب15.
ولصحة النكاح شروط أحدها الصيغة كأن يقولَ الولي زوّجتك فلانة فيقولَ الزوج قبلت زواجَها.
الثاني لفظ زوّجت أو أنكحت أو ترجمتُهما عند الإِمام الشافعيّ،
وفي بعض المذاهب يصحّ بكل لفظٍ يدلّ على المقصود.
الثالث كون الزوج مسلمًا بالنسبة للمسلمة فلا يجوز تزوّج الكافر بمسلمة إن كان كتابيًّا وإن كان غير ذلك لقوله تعالى ﴿فإن عَلِمْتُمُوهُنَّ مؤمناٰتٍ فلا تَرْجِعُوهُنَّ إلى الكفارِ لا هُنَّ حِلٌ لهم ولا هُمْ يَحِلُّونَ لهنّ﴾16
فلا يجوز تزويج مسلمة من المسلم الذي ارتدّ بسبب من أسباب الردّة كسبّ الله أو سبّ الرّسول أو الطعن في شريعة الله أو إنكار ما هو معلوم من الدين علمًا ظاهرًا بين الخواص والعوام من كل ما هو عائد إلى تكذيب الدّين.
الرابع كون الزوجة مسلمة أو كتابية يهودية أو نصرانيّة بالنسبة للمسلم.
الخامس كون الزوجة خلية من عِدةٍ لغير الزوج فلا يصحّ عقد النكاح على معتدةِ وفاةٍ أو معتدةِ طلاقٍ أو فسخٍ من غيره.
السادس عدم التأقيت فلو قال الولي زوّجتك بنتي إلى سنة مثلاً فهو فاسد، أمّا من نوى في قلبه أن يتزوّجَ امرأة ويعاشرَها سنة ثم يطلّقَها ولم يُدْخِلْ ذلك في صلب العقد فهو نكاح صحيح، وقد نصّ الشافعي رحمه الله على جواز ذلك في كتاب الأم17 فليس هذا من المتعة المحرمة.
قال المؤلف رحمه الله (وقدْ أشارَ القرءانُ الكريمُ إلى ذلكَ بقولِهِ تعالى ﴿يا أيها الذين ءامنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة﴾18 قَالَ عَطَاءٌ19 رَضِيَ الله عنهُ «أَنْ تَتَعَلَّمَ كَيْفَ تُصَلِّي وَكَيفَ تَصُومُ وَكَيفَ تبيعُ وَتَشتَرِي وَكَيفَ تَنكِحُ وَكَيْفَ تُطَلِّقُ»20 21.)
الشرح أن من أهمل ذلك لم يحفظ نفسه ولا أهله من النار التي عظّم الله أمرها22 وهذا عطاء بن أبي رباح هو الإِمام المجتهد الذي تلقّى العلم من عبـد الله بن عبّاس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة.
-------------