في العقيدة الإسلامية كتاب إجابة الداعي إلى بيان اعتقاد الإمام الرفاعي
 بعض أقواله

بعض أقواله

بيان اعتقاد الإمام الرفاعي

بعدَ أن ذكَرنا عقيدةَ الإمامِ أحمدَ الرفاعيِّ رضيَ اللهُ عنه أحبَبنا أن نُلحِقَ بها بعضَ أقوالِهِ في توحيدِ وتنزيهِ البارِىءِ سبحانَهُ وتَعالى، أخَذناها من كتابِهِ البُرهانِ المؤيَّدِ، ومن غيرِهِ منَ الكتبِ التي نُقِلَت عنه بالإسنادِ الصحيحِ.
يقولُ رضِيَ اللهُ عنه: "صُونوا عقائِدَكُم منَ التمَسُّكِ بظاهِرِ ما تَشابَهَ منَ الكتابِ والسنَّةِ، لأنَّ ذلك    من أصولِ الكُفرِ، قالَ تَعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ﴾ [سورة ءال عمران/7 ].
وقال: "فسَبيلُ المتَّقينَ من السلفِ تنزيهُ اللهِ تَعالى عمَّا دَلَّ عليه ظاهِرُهُ، وتَفويضُ مَعناهُ المرادِ منه إلى الحقِّ تَعالى وتقَدَّسَ، وبهذا سلامةُ الدينِ. سُئلَ بعضُ العارفينَ عن الخالقِ تقدَّسَت أسماؤُهُ فقالَ للسائلِ: إن سألتَ عن ذاتِهِ فليسَ كمثلِهِ شىءٌ، وإن سَألتَ عن صفاتِهِ فهوَ أحدٌ صَمدٌ لم يَلدْ ولم يولَدْ ولم يكُن له كُفوًا أحدٌ، وإن سألتَ عن اسمِهِ فهوَ اللهُ الذي لا إلهَ إلَّا هو عالمُ الغَيبِ والشهادةِ هو الرَّحمنُ الرَّحيمُ، وإن سألتَ عن فِعلِهِ فكلَّ يومٍ هو في شأنٍ. وقد جمعَ إمامُنا الشافعيُّ رضيَ اللهُ عنه جميعَ ما قيلَ في التوحيدِ بقَولِه: "مَنِ انتهَضَ لمعرفةِ مُدبِّرِهِ فانتَهى إلى مَوجودٍ ينتَهِي إليه فِكرُهُ فهوَ مُشبِّهٌ، وإن اطمَأنَّ إلى العَدمِ الصِّرفِ فهو مُعطِّلٌ، وإن اطمأنَّ لموجودٍ واعترَفَ بالعَجزِ عن إدراكِهِ فهو مُوحِّدٌ". أي سادَة: نزِّهوا اللهَ عن سِماتِ المحدَثينَ وصفاتِ المخلوقينَ، وطهِّروا عَقائدَكُم من تفسيرِ مَعنَى الاستِواءِ في حقِّهِ تَعالى بالاستِقرارِ كاستِواءِ الأجسامِ على الأجسامِ المستَلزِمَ للحُلولِ، تَعالى اللهُ عن ذلك. وإيّاكُم والقولَ بالفوقيَّةِ والسفلِيةِ، والمكانِ واليدِ والعينِ بالجارحَةِ، والنزولِ والاتيانِ والانتِقالِ فإنَّ كلَّ ما جاءَ في الكتابِ والسنَّةِ مما يدُلُّ ظاهرُهُ على ما ذُكِرَ فقد جاءَ في الكتابِ والسنَّةِ مثلُهُ مما يؤيِّدُ المقصودَ، فما بقِيَ إلا ما قالَهُ صُلحاءُ السلفِ وهو الإيمانُ بظاهِرِ(1) كلِّ ذلك ورَدُّ عِلمِ المرادِ إلى اللهِ ورسولِهِ، مع تَنزيهِ البارىءِ تَعالى عن الكَيفِ وسِماتِ الحُدوثِ، وعلى ذلك درَجَ الأئمَّةُ" اهـ.
ثم قالَ: "ولكُم حملُ المتَشابِهِ على ما يوافِقُ أصلَ المحكَمِ لأنهُ أصلُ الكتابِ، والمتشابهُ لا يُعارِضُ المحكَمَ، سألَ رجلٌ الإمامَ مالِكًا بنَ أنسٍ رضيَ اللهُ عنه عن قولِهِ تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [سورة طه/5] فقالَ: "الاستِواءُ غيرُ مَجهولٍ (2)، والكيفُ غيرُ مَعقولٍ، والإيمانُ به واجِبٌ، والسؤالُ عنه بدعةٌ، وما أراكَ إلا مُبتدِعًا"، وأمَرَ به أن يُخرَجَ. وقال إمامُنا الشافعيُّ رضيَ اللهُ عنه لما سئِلَ عن ذلك: "ءامنتُ بِلا تشبيهٍ، وصدَّقتُ بلا تَمثيلٍ، واتَّهمتُ نفسِي في الإدراكِ، وأمسَكتُ عنِ الخَوضِ فيه كلَّ الإمساكِ". وقال الإمامُ أبو حنيفةَ رضيَ اللهُ عنه: "مَن قالَ لا أعرفُ اللهَ أَفي السماءِ هو أم في الأرضِ فقد كفرَ، لأنَّ هذا القولَ يوهِمُ أنَّ للحَقِّ مَكانًا، ومَن توهَّمَ أنَّ للحقِّ مَكانًا فهو مُشبِّهٌ". وسُئلَ الإمامُ أحمدُ رضيَ اللهُ عنه عن الاستِواءِ فقال: "استَوَى كما أخبرَ لا كما يخطُرُ للبَشرِ". وقالَ الإمامُ ابنُ الإمامِ جعفرُ الصادقُ عليه السَّلامُ: "مَن زعَمَ أنَّ اللهَ في شَىءٍ أو مِن شىءٍ أو على شىءٍ فقد أشرَكَ، إذ لَو كانَ على شىءٍ لكانَ محمولًا، ولو كانَ في شىءٍ لكانَ مَحصورًا، ولو كانَ مِن شىءٍ لكانَ مُحدَثًا" اهـ.
وقالَ رضيَ اللهُ عنه: "إذا قُلتُم: لا إلهَ إلَّا اللهُ فقولوها بالإخلاصِ الخالِصِ من الغَيريَّةِ، ومن خُطوراتِ التشبيهِ والكَيفيةِ، والتحتيةِ والفوقيةِ، والبُعديةِ والقُربيةِ" اهـ.
وقال رضيَ اللهُ عنه: "ينقلونَ عن الحلاجِ أنهُ قال: أنا الحقُّ، أخطَأَ بوَهمِهِ، لو كانَ على الحقِّ ما قالَ أنا الحقُّ، يذكُرونَ له شِعرًا يوهِمُ الوَحدةَ كلُّ ذلك ومثلُهُ باطلٌ، ما أُراهُ رجلًا واصِلًا أبدًا، ما أُراه شرِبَ، ما أُراهُ حضرَ، ما أُراه سمِعَ إلا رنَّةً أو طَنينًا فأخَذَهُ الوَهمُ من حالٍ إلى حالٍ، منِ ازدادَ قُربًا ولم يَزدَدْ خَوفًا فهو مَمكورٌ، إيّاكُم والقولَ بهذهِ الأقاويلِ، إن هيَ إلا أباطيلٌ، درجَ السلفُ على الحدودِ بلا تَجاوزٍ، باللهِ عليكُم هل يَتجاوزُ الحَدَّ إلا الجاهِلُ" اهـ.
وقال رضيَ اللهُ عنه: "أصِمُّوا أسماعَكُم عن علمِ الوحدةِ، وعلمِ الفلسَفةِ وما شاكَلَهُما، فإنَّ هذه العلومَ مزالقُ الأقدامِ إلى النارِ، حَمانا اللهُ وإيّاكُم، الظاهر الظاهر" اهـ.
وقال رضيَ اللهُ عنه: "واللهِ يا هذا ما ثمَّ اتصالٌ ولا انفِصالٌ، ولا حُلولٌ ولا انتِقالٌ، ولا حركةٌ ولا زوالٌ، ولا مماسَّةٌ ولا مجاورةٌ، ولا محاذاةٌ ولا مقابلةٌ، ولا مماثَلةٌ ولا مجانَسةٌ ولا مُشاكلةٌ، ولا تجسُّدٌ ولا تصورٌ ولا انفعالٌ، ولا تكونٌ ولا تغيرٌ، كلُّ هذه نعوتُ حدثِكَ، والحقُّ سبحانَهُ من وراءِ نُعوتِكَ وصِفاتِك، إذ هي مُبتدَعاتُهُ ومُخترعاتُهُ، فكيفَ يظهرُ بها أو فيها أو عَنها أو مِنها وبهِ ظهَرَت لا بها ظهَرَ (3)، وهو وراءَ الأشكالِ والمعاني والصورِ، وما بَطنَ فيها وما ظَهرَ، ولا أُدرِكَ بالفِكرِ ولا حُصِرَ في النظرِ(4)" اهـ.
وقالَ رضيَ اللهُ عنه أيضًا: "وهو واحدٌ في ذاتِهِ غيرُ مُتحيزٍ ولا مُنقسِمٌ، ولا حالٌّ ولا مُتحِدٌ" اهـ. ويقولُ في مَوضعٍ ءاخرَ: "فانتبِه أيُّها المغرورُ بظواهرِ الصورِ، فإنكَ منَ اللهِ سبحانَهُ على غَررٍ، وما انطَلَقتَ إليه ووَلَّيتَ نحوَهُ من ظاهرِ التشبيهِ والتجسيمِ يومَ يستظلُّ بمِنَّتِهِ من عذابِ اللهِ سبحانَهُ إذا سألَكَ عن معتقَدِك لا يظلُّكَ من عذابِهِ ولا يُنجيكَ من لهَبِ نارِه" اهـ.
ويقولُ عن صفاتِ اللهِ سبحانَهُ وتَعالى: "فهيَ لهُ لا هيَ هوَ، ولا هي غَيرُهُ" اهـ.
ونقلَ الإمامُ الجليلُ الرافعيُّ عن الثقاتِ من أصحابِهِ أنهُ كانَ يقولُ: "التوحيدُ وِجدانٌ عظيمٌ في القلبِ يمنعُ من التعطيلِ والتشبيهِ" اهـ.
وقال رضِيَ اللهُ عنه: "لَفظَتانِ ثُلمتانِ بالدينِ، القولُ بالوحدةِ، والشطحِ المجاوزِ حدَّ التحدُّثِ بالنعمَةِ" اهـ، وقالَ أيضًا: "إيّاك والقولَ بالوحدةِ التي خاضَ بها بعضُ المتصوفةِ، إيّاكَ والشطحَ فإنَّ الحِجابَ بالذنوبِ أولَى منَ الحجابِ بالكُفرِ ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ" اهـ.
هذه عقيدةُ الإمامِ الرفاعيِّ رضيَ اللهُ عنه التي هي عقيدةُ أهلِ السنَّةِ والجماعَة، وَسُبْحَانَ اللهِ وبِحَمْدِه، والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين، وصَلَّى اللهُ علَى سَيِّدِنَا مُحَمَّد وعَلَى ءَالِهِ وصَحْبِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِين.
-------------

(1) مرادُ الإمامِ رضيَ اللهُ عنه بالإيمانِ بالظاهرِ التصديقُ بأنَّ هذه الألفاظَ منَ القرءانِ وأنَّ ما صحَّت الروايةُ بها عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فهيَ من كلامِ رسولِ اللهِ وليسَ مُرادُهُ رضيَ اللهُ عنه أنَّ مَعانيَها المعاني التي يتَبادَرُ الذهنُ إليها لأنَّ هذا خلافُ المقصودِ، ولأنَّ ذلك هو التشبيهُ لله بخَلقِهِ الذي نَهانا اللهُ عنه بقولِهِ: {ليسَ كمِثلِهِ شَىءٌ}. وقد صرَّحَ إمامُنا الرفاعيُّ بأنَّ اعتقادَ المعانِي الظاهرةِ لهذهِ الألفاظِ التي ورَدَت في المتشابِهِ بالصفاتِ منَ الكتابِ والسنَّةِ من أصولِ الكفرِ وذلك كاعتقادِ الوَجهِ المضافِ إلى اللهِ في القرءانِ بمعنَى الجزءِ المركَّبِ في الإنسانِ وغيرِهِ، والعينِ بمَعنى الجزءِ المركَّبِ في الإنسانِ وغيرِهِ، وكذا اليدِ، والمجيءِ الذي ورَدَ في قولِهِ تَعالى: {وجاءَ رَبُّكَ} بمَجيءِ الانتِقالِ الذي هوَ من صِفاتِ الإنسانِ والملائكَةِ وغيرِهِم، والنزولِ إلى السماءِ الدنيا كلَّ ليلةٍ بنُزولِ الانتِقالِ مِن عُلوٍ إلى سُفلٍ الذي هو صفةُ الملائكةِ وغيرِهِم منَ الخَلقِ، لأنَّ ذلك من أصولِ الكفرِ، وذلك الذي أوقعَ بيانَ بنَ سَمعانَ التميمِيَّ في القولِ بأنَّ الخَلقَ واللهَ يَفنَيانِ لكِن اللهَ تَعالى يَبقَى منه الوَجهُ بمَعنَى الجُزءِ المعهودِ في الخلقِ، وقد فهِمَ هذا الفَهمَ الفاسِدَ من قولِهِ تَعالى: {كُلُّ شَىءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ}، وما قالَهُ الإمامُ الرفاعيُّ عينُ الصوابِ.
(2) أرادَ به أنهُ معلومٌ وُرودُهُ في القرءانِ، وليسَ مَعناهُ أنَّ الاستِواءَ هو الجلوسُ لكن كيفيَّتَهُ مَجهولةٌ كما تزعُمُ المشبهَةُ والمجسمَةُ.
(3) أي باللهِ تَعالى وُجِدَت، أي هو أوجَدَها وليسَ هي أوجَدَتِ اللهَ.
(4) أي لا يكونُ مَحصورًا بالاستِدلاليِّ العقليِّ، إنما غايةُ الاستِدلالِ العقليِّ الوصولُ إلى أنهُ مَوجودٌ لا يشبِهُ الموجوداتِ وهذا هو النظرُ الصحيحُ.

إجابة الداعي إلى بيان
اعتقاد الإمام الرفاعي