في العقيدة الإسلامية كتاب إجابة الداعي إلى بيان اعتقاد الإمام الرفاعي
 إجابة الداعي

إجابَةُ الداعِي
إلى بيانِ اعتِقادِ الإمامِ الرفاعِيِّ رضِيَ اللهُ عنهُ

بيان اعتقاد الإمام الرفاعي

التوحيدُ الذي أوضَحَهُ الشيخُ الكبيرُ ووَصَّى بهِ الْمُريدَ أنْ يَفهَمَهُ (1)
قالَ شيخُنا ومفزَعُنا السيدُ أحمدُ الرفاعيُّ رضيَ اللهُ عنهُ على كرسيهِ في أمِّ عَبيدَةَ يومَ الجمعةِ سنةَ سبعينَ وخمسمائةٍ، وقد أحدَقَ به أصحابُه وأئمةُ العَصرِ رِضوانُ اللهِ عليهم أجمَعين:
طَريقِي عقيدةٌ طاهِرةٌ، وسَريرةٌ عامِرةٌ، والإِقبالُ على اللهِ لوجهِ اللهِ بتَركِ مَطامعِ الدنيا والآخرةِ، فلمّا أتمَّ مجلِسَهُ المباركَ قالَ له الشيخُ يَعقوبُ بنُ كراز: سيِّدي لو كتَبتَ لَنا كتابًا في العقيدةِ نُعوِّلُ عليهِ ويُعوِّلُ عليه أيضًا مُريدوكَ بعدَكَ، فأجابَهُ وأمَرَ بالدواةِ والقِرطاسِ، وقالَ: اكتُبوا:

بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
الحَمدُ للهِ الْمُبدِىءِ الْمُعيدِ الفَعّالِ لِما يريدُ ذِي العَرشِ المجيدِ، والبَطشِ الشديدِ، الهادِي صَفوةَ العَبيدِ إلى المنهَجِ الرشيدِ، والمسلَكِ السديدِ، الْمُنعِمِ علَيهِم بعد شَهادةِ التوحيدِ، بحِراسةِ عَقائدِهِم عن ظُلُماتِ التشكِيكِ والترديدِ، السائقِ لهم إلى اتِّباعِ رسولِهِ المصطَفَى صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، واقتِفاءِ صَحبِهِ الأكرَمينَ بالتأييدِ والتسديدِ، المتَجَلِّي (2) لهُم في ذاتِهِ وأفعالِهِ بمحاسنِ أوصافِهِ التي لا يُدركُها إلا مَن ألقَى السمعَ وهو شهيدٌ، الْمُعَرّفِ إيّاهُم أنهُ واحِدٌ لا شَريكَ له، فَردٌ لا مِثلَ له، صَمَدٌ لا ضِدَّ له، متَفرِّدٌ لا نِدَّ له.
وأنه قديمٌ لا أوّلَ له، أزليٌّ لا بِدايةَ له، مُستَمِرُّ الوجودِ لا ءاخِرَ له، أبَديٌّ لا نهايةَ له، قيومٌ لا انقِطاعَ له، دائمٌ لا انصِرامَ له، لم يزِلْ ولا يَزالُ مَوصوفًا بنُعوتِ الجَلالِ، لا يُقضَى عليه بالانقِضاءِ وَتَصَرُّمِ الآمالِ، وانقراضِ الآجالِ، بل هو الأوّلُ والآخرُ والظاهرُ والباطنُ.
وَأنَّهُ ليَس بجِسمٍ مُصَوَّرٍ، ولا جَوهرٍ مَحدودٍ مُقدَّرٍ، وأنه لا يُماثِلُ الأجسامَ لا في التقديرِ ولا في قَبولِ الانقِسامِ، وأنهُ ليسَ بجَوهَرٍ ولا تَحُلُّهُ الجواهِرُ، ولا بعَرَضٍ ولا تَحُلُّهُ الأعراضُ، لا يُمَاثِلُ مَوجودًا ولا يُمَاثِلُهُ موجودٌ، ليسَ كمِثلِهِ شَىءٌ ولا هوَ مثلُ شَىءٍ.
وأنهُ لا يَحُدُّهُ المِقْدارُ، ولا تَحويهِ الأقطارُ، ولا تَحيطُ به الجِهاتُ ولا تَكتَنِفُهُ السمَواتُ، وأنهُ مُستَوٍ على العرشِ على الوجهِ الذي قالَهُ وبالمعنَى الذي أرادَهُ، استِواءً مُنَزَّهًا عن الْمُماسَّةِ والاستِقرارِ والتمَكُّنِ والتحَوُّلِ والانتِقالِ، لا يحمِلُهُ العَرشُ، بلِ العَرشُ وحَملتُهُ مَحمولونَ بلُطفِ قُدرتِهِ، ومَقهورونَ في قَبضَتِهِ، وهو فوقَ العرشِ، وفوقَ كلِّ شىءٍ إلى تُخومِ الثرَى، فَوقيةً لا تزيدُهُ قُربًا إلى العرشِ والسماءِ، بل هو رفيعُ الدرجاتِ عن العرشِ كما أنهُ رفيعُ الدرجاتِ عن الثرَى، وهو مع ذلكَ قَريبٌ مِن كلِّ مَوجودٍ، وهو أقربُ إلى العبيدِ من حبلِ الوريدِ، فهوَ على كلِّ شىءٍ شهيدٌ، إذ لا يُمَاثِلُ قُرْبُهُ قربَ الأجسامِ، كما لا يُماثِلُ ذاتُهُ ذاتَ الأجسامِ.
وأنهُ لا يَحُلُّ في شَىءٍ ولا يَحُلُّ فيه شَىءٌ، تَعالى عن أن يَحويهِ مَكانٌ، كما تقَدَّسَ عن أن يَحُدَّهُ زمانٌ، بل كانَ قبلَ خَلقِ الزمانِ والمكانِ، وهو الآنَ على ما عَليهِ كانَ.
وأنهُ بائِنٌ بصِفاتِهِ عن خَلقِهِ ليسَ في ذاتِهِ سِواهُ، ولا في سِواهُ ذاتهُ (3).
وأنهُ مقدسٌ عن التَّغَيُّر والانتقالِ، لا تحلُّهُ الحوادِثُ، ولا تعتريهِ العوارِضُ، بل لا يزالُ في نعوتِ جلالِهِ مُنزهًا عن الزوالِ، وفي صفاتِ كمالِهِ مستَغنِيًا عن زيادةِ الاستِكمالِ.
وأنَّه في ذاتِهِ مَعلومُ الوجودِ بالعقولِ، مرئِيُّ الذاتِ بالأبصارِ، نعمةً منه ولطفًا بالأبرارِ في دار القَرَارِ، وإتمامًا للنعيمِ بالنظرِ إلى وجههِ الكريمِ.
وأنه حيٌّ قادرٌ، جبارٌ قاهرٌ، لا يعتَريهِ قُصُورٌ ولا عجزٌ، ولا تأخُذُه سِنةٌ ولا نومٌ، ولا يعارِضُهُ فناءٌ ولا موتٌ.
وأنَّه ذو الْمُلكِ والملكوتِ، والعزةِ والجبروتِ، له السلطانُ والقهرُ، والخلقُ والأمرُ، والسمواتُ مَطويّاتٌ بيمينِهِ، والخلائقُ مَقهورونَ في قبضتِهِ.
وأنه المتفردُ بالخلقِ والاختراعِ المتوحِدِ بالإِيجادِ والإِبداعِ، خلقَ الخلقَ وأعمالَهم، وقدَّر أرزاقَهم وءاجالَهم، لا يَشُذُّ عنه مَقدورٌ، ولا يَعزُبُ عن علمهِ مثقالُ ذرةٍ في الأرضِ ولا في السماءِ، بل يعلمُ دبيبَ النملةِ السوداءِ، على الصخرةِ الصماءِ، في الليلةِ الظَّلماءِ، ويُدرِكُ حركةَ الذَّرِّ في جَوِّ الهواءِ، ويعلمُ السرَّ وأخفَى، ويطَّلعُ على هواجِس الضمائرِ وخفيَّاتِ السرائرِ بعلمٍ قديمٍ أزليٍّ لم يزلْ مَوصوفًا بهِ في أزلِ الآزالِ، لا بِعِلمٍ مُتجَدِّدٍ حاصلٍ في ذاتِهِ بالحلولِ والانتِقالِ.
وأنه مُريدٌ للكائناتِ، مُدبرٌ للحادِثاتِ، فلا يَجري في الْمُلكِ والملكوتِ قليلٌ ولا كثيرٌ، صغيرٌ أو كبيرٌ، خيرٌ أو شرٌّ، نفعٌ أو ضُرٌّ، إيمانٌ أو كفرٌ، عِرفانٌ أو نُكْرٌ، فوزٌ أو خُسْرٌ، زِيادةٌ أو نُقصانٌ، طاعةٌ أو عصيانٌ، إلا بقضائِهِ وقدَرِهِ، وحُكمِهِ ومشيئتِهِ، لفتَة ناظرٍ، لا فلتةَ خاطِرٍ، بل هو المبدِىءُ المعيدُ، الفَعّالُ لما يريدُ، لا رادَّ لحكمِهِ، ولا مُعقِّبَ لقَضائِهِ، ولا مَهربَ لعبدٍ عن معصيتِهِ إلا بتوفيقِهِ ورحمتِهِ، ولا قوةَ له على طاعةٍ إلا بمحبتِهِ وإرادتِهِ، ولو اجتمعَ الإِنسُ والجنُّ والملائكةُ والشياطينُ على أن يحرِّكوا في العالمِ ذرةً أو يُسَكِّنوها دونَ إرادتِهِ ومشيئتِهِ لعَجزوا عن ذلك.
وأنَّ إرادتَهُ قائمةٌ بذاتِهِ في جملةِ صفاتِهِ، لم يزَلْ كذلك مَوصوفًا بها مُريدًا في أزلِهِ لِوجودِ الأشياءِ في أوقاتِها التي قَدَّرَها، فَوجِدَتْ في أوقاتِها كما أرادَهُ في أزلِهِ من غيرِ تقَدُّمٍ ولا تأخُّرٍ، بل وقَعَت على وَفقِ علمِهِ وإرادتِهِ من غيرِ تبدُّلٍ ولا تغَيُّرٍ، دبَّرَ الأمورَ لا بترتيبِ الأفكارِ وتربُّصِ زمانٍ، فلذَلك لم يشغَلْهُ شأنٌ عن شأنٍ.
وأنهُ سميعٌ بصيرٌ يسمعُ ويَرى، لا يَعزبُ عن سمعِهِ مَسموعٌ وإن خَفيَ، ولا يَغيبُ عن رؤيَتِهِ مَرئيٌّ وإن دَقَّ، ولا يَحجبُ سمْعَه بُعْدٌ، ولا يدفَعُ عن رؤيتِهِ ظلامٌ، يَرى من غيرِ حدقةٍ وأجفانٍ، ويَسمعُ من غيرِ أصمِخةٍ وءاذانٍ، كما يعلمُ بغيرِ قلبٍ، ويبطِشُ بغيرِ جارحةٍ، ويخلُقُ بغيرِ ءالةٍ، إذ لا تُشبِهُ صفاتُهُ صِفاتَ الخلقِ، كما لا يُشبِهُ ذاتُهُ ذوات الخلقِ.
وأنهُ مُتكلِّمٌ ءامِرٌ ناهٍ، واعِدٌ مُتوعِّدٌ، بكلامٍ أزلي قديمٍ قائمٍ بذاتِهِ، لا يُشبِهُ كلامَ الخلقِ، فليسَ بصَوتٍ يحدُثُ من انسِلالِ هواءٍ، واصطِكَاكِ أجرامٍ، ولا بحرفٍ يتقَطَّعُ بإطباقِ شفَةٍ أو تحريكِ لسانٍ.
وأنَّ القرءانَ والتوراةَ والإنجيلَ والزّبورَ كُتُبُهُ المنزَّلَةُ على رسلِهِ، وأنَّ القرءانَ مَقروءٌ بالألسُنِ، مكتوبٌ في المصاحِفِ، محفوظٌ في القلوبِ، وأنهُ مع ذلك قَديمٌ قائمٌ بذاتِ اللهِ، لا يقبَلُ الانفِصالَ والفِراقَ، بالانتِقالِ إلى القلوبِ والأوراقِ، وأنَّ موسَى سمعَ كلامَ اللهِ بغيرِ صوتٍ ولا حرفٍ، كما يَرى الأبرارُ ذاتَ اللهِ من غيرِ جَوهرٍ ولا عَرَضٍ.
وإِذا كَانَت له هذه الصفاتُ كانَ حَيًّا عالِمًا قادِرًا مُريدًا سميعًا بَصيرًا مُتكلمًا بالحياةِ والعلمِ والقدرةِ والإِرادةِ والسمْعِ والبصرِ والكلامِ لا بمجرَّدِ الذاتِ.
وأنهُ لا موجودَ سِواهُ إلَّا هوَ حادِثٌ بفعلِهِ، وفائِضٌ من عَدلِهِ، على أحسَنِ الوجوهِ وأكملِها، وأتمِّها وأعدَلِها.
وأنهُ حَكيمٌ في أفعالِهِ عادلٌ في أقضِيَتِهِ، لا يُقاسُ عدلُهُ بعدلِ العِبادِ، إذ العبدُ يُتصوَّرُ منه الظلمُ بتصرفِهِ في ملكِ غيرِهِ، ولا يُتصورُ الظلمُ من اللهِ تعالى فإنهُ لا يُصادِفُ لغيرِهِ مُلكًا حتى يكونَ تصرُّفُه فيه ظلمًا، فكلُّ ما سِواهُ من إنسٍ وجنٍ وشيطانٍ وملَكٍ وَسَماءٍ وأرضٍ وحيوانٍ ونباتٍ وجوهرٍ وعَرَضٍ ومُدرَكٍ ومحسوسٍ وحادثٍ اخترَعَهُ بقدرتِهِ بعد العدمِ اختِراعًا، وأنشأَهُ إنشاءً بعد أن لم يكُنْ شيئًا، إذ كانَ في الأزلِ موجودًا وحدَهُ، ولم يكنْ معَهُ غيرُهُ، فأحدَثَ الخلقَ بعدَهُ إظهارًا للقدرةِ، وتَحقيقًا لما سَبَقَ من إرادتِهِ، ولما حَقَّ في الأزلِ من كلمتِهِ، لا لافتقارِهِ إِليه وحاجتِهِ.
وأنه مُتفضِّلٌ بالخلقِ والاختِراعِ والتكليفِ لا عن وجوبٍ، ومُتطوّلٌ بالإِنعامِ والإصلاحِ لا عن لزومٍ، فله الفضلُ والإِحسانُ والنعمةُ والامتِنانُ، إذ كانَ قادرًا أن يَصُبَّ على عبادِهِ أنواعَ العذابِ، ويبتَليهِم بضُروبِ الآلامِ والأوصابِ، ولو فعلَ ذلك لكانَ عدلًا منه ولم يكُنْ قُبحًا ولا ظُلمًا.
وأنه يُثيبُ عبادَهُ على الطاعةِ بحكمِ الكَرَمِ والوَعدِ، لا بحُكمِ الاستِحقاقِ واللزومِ، إذ لا يجبُ عليه فعلٌ ولا يُتصورُ منه ظلمٌ، ولا يجِبُ لأحدٍ عليه حقٌ.
وأنَّ حقَّهُ في الطاعاتِ وجَبَ على الخلقِ بإِيجابِهِ على لِسانِ أنبيائِهِ، لا بمجردِ العقلِ، ولكنَّهُ بعَثَ الرسُلَ وأظهرَ صِدقَهُم بالمعجزاتِ الظاهرةِ فبلَّغوا أمرَهُ ونهيَهُ ووعدَه ووعيدَهُ، فوجبَ على الخلقِ تصديقُهُم فيما جاءوا به.
وأنهُ بعَثَ النبيَّ الأميَّ القُرشيَّ محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ برسالتِهِ إلى كافَّةِ العربِ والعجمِ والجنِّ والإِنسِ، فنَسخَ شَرعُه الشرائعَ إلا ما قدَّرَهُ، وفضَّلَهُ على سائرِ الأنبياءِ، وجعلَهُ سيّدَ البشرِ، ومَنَعَ كمالَ الإِيمانِ بشهادةِ التوحيدِ وهي قولُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، ما لم تَقترِنْ بها شهادةُ الرسولِ، وهي: محمدٌ رسولُ اللهِ، وألزمَ الخَلقَ بتَصديقِهِ في جميعِ ما أخبرَ عنه من أمرِ الدنْيا والآخرةِ.
وأنه لا يُقبَلُ إيمانُ عبدٍ حتى يُؤمِنَ بما أخبرَ عن حُصولِهِ بعد الموتِ، وأوّلُهُ سؤالُ مُنكرٍ ونَكيرٍ، وهما شَخصانِ مَهيبَانِ يُقعِدَانِ العبدَ في قبرِهِ سَويًّا ذا روحٍ وجسدٍ، فيَسألانِهِ عن التوحيدِ والرسالةِ، ويَقولانِ: مَن ربُّك وما دينُكَ ومَن نَبيُّكَ؟، وهما فتَّانا القَبرِ، وسُؤالُهما أوّلُ فِتنةٍ بعدَ الموتِ.
وأن يؤمِنَ بعذابِ القبرِ، وَأنه حقٌّ، وَحِكمةٌ وعَدلٌ، على الجسمِ والروحِ كما يشاءُ.
وأن يؤمِنَ بالميزانِ ذي الكفَّتَينِ واللسانِ، وصِفتُهُ في العِظَمِ أنهُ مثلُ طِبَاقِ السمواتِ والأرضِ، تُوزَنُ فيه الأعمالُ بقدرةِ اللهِ، وتتَّضِحُ يومَئذٍ مَثاقيلُ الذرِّ والخَردلِ، تَحقيقًا لإتمامِ العدلِ، وتُطرَحُ صَحائفُ الحَسناتِ في صورةٍ حسنةٍ في كفةِ النورِ فيثقُلُ بها الميزانُ على قَدرِ درجاتِها عندَهُ بفضلِ اللهِ، وتُطرَحُ صحائفُ السيّئاتِ في كفةِ الظُّلمةِ، فَيَخِفُّ بها الميزانُ بعدلِ اللهِ تَعالى.
وأن يؤمنَ بأنَّ الصراطَ حَقٌّ، وهو جِسرٌ مَمدودٌ على مَتنِ جَهنَّمَ أحَدُّ من السَّيفِ، وأدقُّ من الشعرِ، تَزِلُّ عنه أقدامُ الكافرينَ بحُكمِ اللهِ فتَهوي بهِم إلى النارِ ويثبُتُ عليه أقدامُ المؤمنينَ، فيُساقونَ إِلى دارِ القَرَارِ.
وأن يُؤمنَ بالحوضِ الموْرودِ، حوضِ سيدِنا محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَشربُ منه المؤمنونَ قبلَ دخولِ الجنةِ، وبعد جَوازِ الصِّراطِ، مَن شَربَ منه شربَةً لم يَظمأ بعدَها أبدًا، عرضُهُ مسيرةُ شهرٍ أشدّ بياضًا من اللبَنِ، وأحلَى من العَسلِ، حولَهُ أباريقُ عدَدُها عددُ نجومِ السماءِ، فيه ميزابانِ يُصبَّانِ منَ الكوثَر.
ويؤمنَ بالحِسابِ، وتَفاوتِ الخلقِ فيه إلى مُناقَشٍ في الحسابِ وإلى مُسَامَحٍ فيه، وإلى من يَدخُلِ الجنةَ بغيرِ حسابٍ، وهم المقرَّبونَ، فيَسألُ مَن يَشاءُ منَ الأنبياءِ (4) عن تبليغِ الرسالةِ، ومَن شاءَ منَ الكفارِ عن تكذيبِ المرسَلينَ، ويَسألُ المبتَدِعَةَ (5) عن السنَّةِ، ويَسألُ المسلمينَ عن الأعمالِ.
ويؤمنَ بإخراجِ الموَحِّدينَ منَ النارِ بعدَ الانتِقامِ، حتى لا يَبقَى في جَهنَّمَ مُوحِّدٌ بفضلِ اللهِ تَعالى.
ويؤمنَ بشفاعةِ الأنبياءِ، ثم الأولياءِ، ثم الشهداءِ، ثم سائرِ المؤمنينَ، كلٌّ على حسبِ جاهِهِ ومَنزلتِهِ عندَ اللهِ، ومَن بقِيَ من المؤمنينَ ولم يكُنْ له شفيعٌ أُخرِجَ بفَضلِ اللهِ، فلا يُخلَّدُ في النارِ مؤمنٌ، بل يخرجُ منها من كانَ في قلبِهِ مثقالُ ذرةٍ من الإِيمانِ.
وأن يعتقِدَ فَضلَ الصحابَةِ وترتيبَهم، وأن أفضلَ النّاسِ بعد رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أبو بكرٍ ثمَّ عُمرُ ثم عُثمانُ ثمّ عليٌّ رضوانُ اللهِ عليهِم أجمَعين. وأن يُحسِنَ الظَّنَّ بجميعِ الصحابَةِ (6) ويُثنِي علَيهم كما     أثنَى اللهُ تَعالى ورسولُهُ علَيهم.
فكلُّ ذلك ما ورَدَت بهِ الأخبارُ، وشَهِدَت به الآثارُ. فمَن اعتقدَ جميعَ ذلك موقِنًا به كانَ من أهلِ الحقِّ وعِصابَةِ السنَّةِ، وفارقَ رَهطَ الضلالِ وحِزبَ البدعةِ، فنسألُ اللهَ تَعالى كمالَ اليَقينِ، والثباتَ في الدينِ، لنا ولكافةِ المسلمينَ، إنه أرحمُ الرَّاحمينَ انتهى.
-------------

(1) هذا الفصلُ كلُّهُ مأخوذٌ من كتابِ "الدرَّةُ السامِيَةُ في معرفَةِ فَضائلِ سُلوكِ الطريقةِ الرفاعيَّةِ" للشيخِ أحمدَ بنِ محمدِ بنِ خميسٍ الحضرميِّ الرفاعيِّ، ص/25 _ 35، طبع الكتاب في مطبعة مصطفى البابي الحلبي القاهرة سنة 1356هـ =  1937ر.
(2) أي الذي ألهَمَهُم مَعانيَ أسمائِهِ وصفاتِهِ حتى عَرفوهُ على ما يَليقُ به، مع التعالِي عنِ الحُدوثِ والتحَوُّلِ من حالٍ إلى حالٍ، لأنهُ تباركَ وتعالى ظاهرٌ بدَلائلِ وجودِهِ وبقُدرتِهِ وحِكمَتِهِ وعِلمِهِ كما قالَ القائلُ:
    وفي كلِّ شَىءٍ لهُ ءايَةٌ      تدُلُّ علَى أنَّهُ واحِدُ
وإن كانَ سبحانَهُ وتَعالى على خِلافِ ما يخطرُ بالبالِ ويُتصور.
(3) أي أنَّ ذاتَهُ ليسَ مؤلفًا من أجزاءٍ كسائرِ الأجرامِ فإنَّ العرشَ وما دونَهُ ذو أجزاءٍ، والجزءُ الذي لا يتَجَزأُ من نهايةِ القِلةِ هو أصلُ المتَجزءاتِ المسمَّى عندَ الفَلاسفةِ بالهيُّولى، فإنَّها تَقولُ: الهيُّولى موجودٌ لا كميةَ لهُ ولا كيفيةَ وقد كذَبوا، وكما قالَ صاحبُ القاموسِ: "انهم وصَفوا الهيولى بصفَةِ البارِىءِ"، اللهُ تَعالى هو الذي لا كميةَ له ولا كيفيةَ ولا يكونُ أحدٌ سِواهُ كذلك، فيجبُ تَنزيهُهُ تَعالى عن الاتِّصالِ والانفِصالِ لأنَّ كُلًّا منَ الاتصالِ والانفصالِ يوجِبُ المماثَلةَ لغيرِهِ لأنَّ الجِرمَ لا يخلو أن يكونَ مُتصلًا بغَيرِهِ أو مُنفصِلًا عنه، فوجبَ تنزيهُ الربِّ سُبحانَهُ وتعالى عن ذلك عمَلًا بقولِهِ تَعالى: {لَيسَ كَمِثلِهِ شَىءٌ}، وقد ظنَّ بعضٌ لشدةِ غباوةِ عقولِهِم أنَّ هذا تعطيلٌ ونفيٌ لوجودِ اللهِ، فيُقالُ لهُم: أليسَ كانَ اللهُ مَوجودًا قبلَ وجودِ العالمِ، وهل كانَ يوصَفُ قبلَ وجودِ العالمِ باتِّصالٍ بالعالمِ أو بانفصالٍ عنه؟، فكَما صَحَّ وجودُهُ من غيرِ اتِّصالٍ بسِواهُ أو انفصالٍ قبلَ وجودِ العالمِ يصحُّ وجودُهُ بعد وجودِ العالمِ من غيرِ اتصالٍ أو انفصالٍ عن العالمِ، وقد نصَّ على ذلك جماعةٌ من أهلِ المذاهِبِ الأربعةِ كالإمامِ الكبيرِ أحدِ أصحابِ الوجوهِ في مذهبِ الإمامِ الشافعيِّ المتوَلّي، ثم تبِعَهُ النوويُّ وابنُ حجرٍ الهيتَميُّ، ومن المالكيةِ الإمامُ العالمُ سيدِي أبو عبدِ اللهِ ابنُ جلالٍ وبسطَ العبارةَ في ذلك بَسطًا شافِيًا، والعالمُ المشهورُ محمدُ بنُ احمدَ بنِ محمدِ مَيّارةَ، والإمامُ الكبيرُ أبو المعينِ النسفيُّ لسانُ الحنفيةِ في علمِ العقيدةِ ومقدمُهم، والقونويُّ الحنفيُّ شارحُ العقيدةِ الطحاويةِ، والإمامُ الحافظُ  عبدُ الرَّحمنِ بنُ الجوزيِّ الحنبليُّ، وهذه العبارةُ هي معنَى قولِ الإمامِ ذي النونِ المِصريِّ: "مَهما تصَورتَ ببالِكَ فاللهُ بخلافِ ذلك"، وفي طَيِّ هذهِ العبارةِ نَفيُ الكميَّةِ عن اللهِ لأنَّ بالَ الإنسانِ لا يتصَورُ إلَّا ما لهُ كميةٌ إن كانَت لطيفةً كالنورِ والظلامِ والريحِ، وإن كانَت كثيفةً كالجماداتِ والإنسانِ، والذي أهلَكَ المشبِّهَةَ المجسمةَ هو قياسُهُم للخالقِ بالمخلوقِ وحصرُهُم للوجودِ بما له كمِّيةٌ، فعندَهم لا يصحُّ الوجودُ إلا بالكميةِ وذلك لأنَّ الكميةَ توهِمُ الحدوثَ لأنَّ تخصُّصَ الشىءِ مَهما صَغُرَ ومَهما كَبُرَ بكميةٍ لا بُدَّ من مُخَصِّصٍ له بتلكَ الكميةِ، فبذَلك عرَفْنا أنَّ الشمسَ مع عظَمِ نفعِها لا تصلُحُ للألوهيةِ لأنَّ لَها كميةً فتَحتاجُ إلى مَن خصصَها بهذه الكميةِ، وكذلكَ غيرَها منَ الأجرامِ قالَ تَعالى:{وكُلُّ شَىءٍ عِندَهُ بمِقدارٍ}.
(4) قولُ المؤلفِ: "فيَسألُ مَن يَشاءُ منَ الأنبياءِ" فيه إيهامٌ أنهُ لا يَسألُ جَميعَهم، قالَ اللهُ تَعالى (ولَنَسئَلَنَّ المرسَلينَ)، فالآيةُ فيها تَعميمٌ أي أنَّ كلَّ نَبيٍ يُسألُ، هذا ظاهرُ القُرءانِ، وهذا السؤالُ لإظهارِ شَرفِ الأنبياءِ.
(5) المرادُ بالمبتَدِعةِ المبتدعَةُ في الاعتِقادِ وهم أصحابُ الأهواءِ الذين ترَكوا عقيدةَ أهلِ السنَّةِ من الصحابةِ ومَنِ اتَّبعَهُم، وأخَذوا عقائدَ مُخالفةً لهم كعقيدةِ الخَوارجِ والمعتزلَة.
(6) مُرادُهُ بذلك أنَّ كلَّ واحدٍ منهم فيه خيرٌ، وليسَ مُرادُهُ أنَّهم كلَّهم أتقياءُ صالحونَ بمرتبَةٍ واحدةٍ وأنه لا يقعُ أحدٌ منهم في ذنبٍ، فقد صَحَّ في الحديثِ الذي رَواهُ أحمدُ وابنُ حِبانَ وغيرُهُما أنَّ رجُلًا من الصحابةِ لما ماتَ وجَدوا في شَملتِهِ دينارَينِ فقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "كَيَّتانِ"، ورَوى البخاريُّ وغيرُهُ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ في رجلٍ غَلَّ شملَةً ثم أصابَهُ سهمٌ فقتَلَه: "هوَ في النّارِ"، وقد ثَبتَ أنَّ منهم مَن شربَ الخمرَ ثم أُقيمَ عليه الحدُّ، ومنهم مَن أُقيمَ عليه حدُّ الزِّنى، ورَوى البخاريُّ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: "أنا فَرَطُكُم على الحوضِ ليُرفَعنَّ إليَّ رجالٌ منكُم حتى إذا أهويتُ لأُناوِلَهم اختُلِجوا دونِي، فأقولُ: أي رَبِّ أصحابِي، يقولُ: لا تَدري ما أحدَثوا بَعدَك"، وكذلك الذين قاتَلوا علِيًا رضيَ اللهُ عنه وخرجَوا عن طاعتِهِ فإنهُم يدخلونَ تحتَ الحديثِ الذي رواهُ مسلمٌ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: "مَن خرجَ منَ الطاعةِ وفارقَ الجماعةَ فماتَ ماتَ ميتَةً جاهِليةً"، وهذا ينطبِقُ على مُعاويةَ ومَن معهُ، قالَ الحافظُ ابنُ حجرٍ في التلخيصِ الحَبيرِ ما نصُّه: "قولُه _ أي الرافعي _: ثبتَ أنَّ أهلَ الجملِ وصِفينَ والنهروانِ بُغاةٌ، هو كما قالَ،ويدلُّ عليه حديثُ عليٍّ: أُمِرتُ بقِتالِ الناكِثينَ والقاسِطينَ والمارِقين" اهـ، وروَى الحافظُ البيهقيُّ في كتابِ الاعتِقادِ بالإسنادِ المتصلِ إلى محمدِ بنِ اسحاقَ يعنِي ابنَ خُزيمةَ قال: "وكلُّ مَن نازعَ أميرَ المؤمنينَ عليَّ بنَ أبي طالبٍ في إمارتِهِ فهو باغٍ، على هذا عهِدتُ مشايخَنا، وبه قالَ ابنُ ادريسَ _ يَعني الشافعيَّ _ رحمَهُ اللهُ" اهـ، ويدلُّ على ما ذَكرنا الحديثُ الذي رَواهُ البخاريُّ: "وَيحَ عَمّارٍ تقتُلُهُ الفئةُ الباغيَةُ يدعوهُم إلى الجنةِ ويَدعونَهُ إلى النارِ"، فعمارٌ رضيَ اللهُ عنه كان مع عليٍّ داعيًا إلى الجنةِ، والمقاتِلونَ لعليٍّ دُعاةٌ إلى النارِ، ورَوى البيهقيُّ وابنُ أبي شيبةَ أنَّ عمارَ بنَ ياسرٍ قال: "لا تَقولوا كَفرَ أهلُ الشامِ ولكِن قولُوا فسَقوا أو ظلَموا"، وقد ثبتَ أنَّ معاويةَ قتَلَ حُجْرَ بنَ عديٍّ وهو من فُضلاءِ وأولياءِ الصحابةِ لأنهُ حَصَبَ الخطيبَ بالحصَى لأنهُ أطالَ في الخطبةِ، رواهُ الحاكمُ في المستدركِ، وثبتَ أيضًا أنَّ معاويةَ كانَ يأمرُ بسَبِّ عليٍّ، رواهُ مسلمٌ.

إجابة الداعي إلى بيان
اعتقاد الإمام الرفاعي