ذكَر الحاكمُ صَاحِبُ المسْتَدْرَكِ في تَاريخِ نَيْسَابُورَ قالَ: "سَمِعتُ أبا زكرِيّا يَحيى بنَ محمّدٍ العنبرِيَّ يقولُ: سَمِعتُ أبَا العباس بنَ محمّدِ بنِ عِيْسَى الطَّهْمَانيَّ المروزي يَقولُ: إنَّ الله تباركَ وتَعالى يُظْهِرُ ما شاءَ إذَا شاءَ من الآيَاتِ والعِبَرِ في بَرِيَّتِه، فيَزِيدُ الإسْلامَ بها عِزًّا وقُوَّةً ويُؤيّدُ ما أُنزل من الهُدَى والبيّناتِ ويَنْشُر أعْلامَ النُّبُوَّةِ ويُوضِحُ دِلالة الرّسالةِ ويُوثِقُ عُرَى الإسلامِ، ويُثْبِتُ حَقائقَ الإيْمانِ مَنًّا مِنهُ1 على أوْليائه وزِيَادَةً في البُرهَانِ بهم وحُجَّةً على من عَاندَ في طاعتِه2 وألْحَدَ في دِينِه3 لِيَهلِكَ من هلَكَ عَن بيّنَةٍ ويَحْيا من حَيَّ عن بيّنَةٍ4 فلَهُ الحمدُ لا إلَه إلا هوَ ذُو
الحُجَّةِ البَالِغَةِ5 والعزّ القَاهِرِ6 . والطَّوْلِ البَاهِر7 . وصلّى الله على سيّدنا محمّدٍ نبيّ الرَّحْمةِ ورَسُولِ الهُدَى وعليه وعلى ءالهِ الطَّاهرينَ السَّلامُ ورحْمةُ الله وبَركَاتُه.
وإنَّ مِمّا أدْرَكْنا عِيَانًا وشَاهَدْناهُ في زماننا وأحَطْنا عِلْمًا به8 فَزادَنا يَقِينًا في دِينِنا وتَصْديقًا لِمَا جَاءَ بِه نبِيُّنا ودَعا إليه منَ الحقّ فرَغَّب فِيه مِنَ الجِهادِ مِنْ فَضِيلَةِ الشُهَداء9 وبَلَّغَ عن الله عزَّ وجَلَّ فِيهمْ إذْ يَقُولُ جَلَّ ثَناؤه ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ(170)﴾10 [سورة ءال عمران]، أنّي ورَدْتُ في سَنةِ ثمانٍ وثلاثينَ ومائَتينِ مَدِيْنةً منْ مَدائِنِ خُوارِزْمَ تُدْعَى هَزَارَاسْبْ11 وهي في غَرْبي وَادِي جَيْحُونَ ومنْها إلى المدِيْنَةِ العُظْمَى مسَافَةُ نِصْفِ يَوم12 وخُبّرْتُ أنَّ بها امْرأَةً من نسَاءِ الشُّهَداءِ رَأت رؤيَا كأنَّها أُطعِمَت في مَنامِها شَيْئًا فَهي لا تأْكُلُ شيئًا ولا تَشْربُ مُنْذُ عَهْدِ أبي العبّاسِ بنِ طاهِرٍ والِي خُراسَانَ وكانَ توفّي قبلَ ذلكَ بثمانِ سنينَ رَضِيَ الله عنه13 ثمّ مَرَرْتُ بتلكَ المدينةِ سنَة اثنَتَينِ وأرْبعينَ ومائتين14 فَرأيتُها وحدَّثَتْني بحديْثها فلَم أسْتَقْصِ علَيْها15 لحدَاثَةِ سِنّي ثُمَّ إنّي عُدْتُ إلى خُوَارِزْمَ في ءاخِرِ سنة اثنَتينِ وخمسينَ ومائتَين فرأيتُها باقِيةً ووَجَدْتُ حَديثَها شَائعًا مسْتَفِيضًا16 . وهذِه المدينَةُ على مَدْرَجَةِ القوافِلِ17 وكانَ الكَثيرُ ممَّن ينَزَلَها إذَا بلغَهُم قِصّتها أحَبُّوا أن ينْظروا إليها18 فلا يَسألونَ عنها رجُلا ولا امرأةً ولا غُلامًا إلا عَرفَها ودَلَّ علَيها19 فلَمَّا وافَيتُ النَّاحِيَةَ طلَبتُها فوجَدْتُها غائبةً على عِدّةِ فراسِخَ فمضَيتُ في أثرِها20 مِنْ قَرْيةٍ إلى قَرْيَةٍ فأَدْرَكْتُها بَيْنَ قريَتَيْنِ تمشِي مِشيَةً قويّةً فإذَا هي امرأةٌ نَصَفٌ21 جَيّدَةُ القَامَةِ حسَنَةُ البدن ظَاهِرةُ الدَّمِ مُتَورّدَةُ الخَدَّينِ ذَكِيَّةُ الفُؤَادِ22 فَسَايَرتْني23 وأنَا رَاكِبٌ، فعَرَضْتُ علَيها مَرْكَبًا فلمْ تركَبْهُ24 وأقبَلَت تمشِي مَعي بِقُوَّةٍ25 . وحضرَ مَجلسي قَومٌ من التُّجَّار والدَّهَاقين وفيهم فَقِيهٌ يُسَمَّى محمدَ بنَ حَمْدَوَيْه الحارِثيَّ26 وقَد كتبَ عنْه مُوسى ابنُ هارونَ البزَّارُ بمكّةَ27 [وهو] كَهلَ لَهُ عبادةٌ وروايةٌ للحَديث، وشَابٌّ حسَنٌ يُسَمَّى عبدَ الله بنَ عَبْدِ الرّحمنِ، وكَان يُحلّفُ أصْحابَ المظَالم بنَاحيَتِه28 فَسَأَلْتُهم عَنها فأحْسَنُوا الثَّنَاء علَيها وقَالُوا عنْها خَيرًا وقَالوا إنَّ أمرَها ظاهِرٌ عندَنا فلَيْسَ فِينا مَن يخْتلِفُ فيها، قال المسَمَّى عبدَ الله بنَ عَبدِ الرحمن: أنَا أسمَعُ حدِيثَها منذُ أيّامِ الحدَاثَةِ29 ونَشأتُ والنّاسُ يتفَاوضُون في خبَرها وقد فَرَّغتُ بالي لَها وشَغَلتُ نَفْسِيَ بالاسْتِقْصاءِ علَيها فلَم أرَ إلا سَتْرًا وعَفافًا30 ولَم أعْثُرْ لَها على كَذِبٍ في دَعْواها ولا حِيْلَةٍ في التَّلبيسِ، وذَكَر أنَّ مَن كَانَ يَلي خُوَارِزْمَ من العُمّالِ31 كانوا فيما خَلا يَستَحضِرونَها ويَحصُرُوْنها الشّهرَ والشّهْرينِ والأكْثرَ في بيتٍ يُغلِقُونَه عليها32 ويُوَكّلُونَ من يُراعِيْهَا33 فلا يَرونَها تأكُلُ ولا تَشْربُ، ولا يجِدُون لَها أثرَ بولٍ ولا غائطٍ فَيبَرُّونَها34 ويَكسُونَها35 ويُخْلُونَ سَبيلَها36 فَلَمّا تَواطَأ أهْلُ النَّاحيةِ على تَصْدِيقها استقصصتها عن حَدِيثها وسَألتُها عن اسمِها وشَأنِها كُلّه، فذكَرَتْ أنَّ اسمَها رَحمَةُ بنتُ إبْراهيمَ وأنَّه كانَ لَها زَوجٌ نَجّارٌ فَقيرٌ مَعيشته مِن عَملِ يَدِه، يأتِيْه رِزقُه يَومًا فَيَومًا37 لا فَضْلَ في كَسْبِه عن قُوتِ أهْلِه، وأنَّها وَلَدَتْ لَهُ عِدَّةَ أوْلادٍ، وجَاء الأقْطَعُ ملِكُ الترك إلى القَريةِ فعبَرَ الوَاديَ عِنْدَ جُمُودِه إلَينا في زُهاءِ ثلاثَةِ ءالافِ فَارسٍ38 وأهْلُ خُوَارِزْم يَدْعُونَهُ كَسْرَى. قَالَ أبُو العبَّاسِ: والأَقْطَعُ هَذا كانَ كافِرًا عاتيًا غاشِمًا39 شَديدَ العَداوةِ للمُسْلمينَ40 قَدْ أثّرَ على أهْلِ الثّغُورِ41 وألَحَّ على أهْلِ خُوارِزْمَ بالسَّبْي والقَتْل والغَاراتِ وكَان وُلاةُ خُراسَانَ يتأَلَّفُونَه وأشباهَهُ من عُظَماءِ الأعَاجِمِ ليَكُفُّوا غاراتِهمْ عن الرَّعِيَّةِ ويَحقِنُوا دِمَاءَ المسلمِيْنَ42 فيَبْعَثُونَ إلى كُلّ واحدٍ منْهُم بأَمْوالٍ وألْطَافٍ كَثيْرةٍ وأنْواع من فَاخِرِ الثّيابِ43 وإنَّ هذَا الكافِرَ اسْتاءَ في بَعضِ السّنيْنَ على السُّلْطانِ، ولا أدْري لِمَ ذاكَ، أَستَبطَأ المبارَّ عَن وقْتِها أم استَقَلَّ ما بُعِثَ إلَيه في جَنْبِ مَا بُعِثَ إلى نُظَرائِه من الملُوكِ44 فأقْبَلَ في جنُودِه واستَعْرضَ الطرُقَ45 فَعَاثَ وأفْسَدَ وقتَلَ ومَثَّلَ فعَجزَ عَنْه خيُولُ خُوارِزْم، وبَلغَ خبرهُ أبَا العبّاسِ عبدَ الله بنَ طَاهرٍ رحمه الله، فأنْهَضَ إليهِ أربَعةً من القُوّادِ46 : طاهِرَ بنَ إبراهيمَ بنِ مُدرك، ويعقوبَ بنَ مَنصُورِ بنِ طَلحةَ، ومِيكالَ مَولى طَاهرٍ، وهَارُونَ العَارِضَ وشحَنَ البلَدَ بالعساكرِ والأسْلحةِ ورتّبَهُم في أرْبَاعِ البلَدِ كلٌّ في رُبْعٍ، فَحَمَوا الحرِيْمَ بإذنِ الله تعالى، ثمَّ إنَّ وادي جَيحُونَ وهو الذي في أعْلَى نَهْرِ بَلْخٍ جَمَدَ لما اشتَدَّ البَرْدُ، وهو وادٍ عظِيمٌ شَدِيدُ الطُّغْيانِ47 كَثِيرُ الآفَات وإذا امتَدَّ كانَ عَرْضُهُ نَحْوًا من فَرسَخٍ وإذَا جَمَدَ انطَبَقَ فلَم يُوصَلْ منه إلى شَىءٍ حتَّى يُحْفَرَ فِيه كَما تُحفَرُ الآبَارُ في الصُّخُورِ وقَدْ رأَيتُ كثَفَ الجَمَدِ عَشَرَةَ أشْبارٍ، وأُخبِرْتُ أنَّه كانَ فيما مَضى يزِيدُ على عِشرينَ شِبْرًا وإذَا هُو انْطبَقَ صَارَ الجمَدُ جَسْرًا لأهْلِ البلَدِ تَسِيْرُ عليهِ العَساكِرُ والعَجَلُ48 والقَوافِلُ فيَنْطمَّ ما بَين الشَّاطِئيْنِ، ورُبَّما دامَ الجمَدُ مائةً وعِشْرينَ يومًا، وإذا قلَّ البَرْدُ في عَامٍ بَقيَ سَبْعِيْنَ يَوْمًا إلى نَحْوِ ثلاثَةِ أشْهُر.
قالتِ المرأةُ: فَعَبَرَ الكافِرُ في خَيْلِه إلى بَابِ الحِصْنِ وقد تَحصَّنَ النّاسُ وضَمُّوا أمْتِعَتَهُم وصَبَّحوا المسلمينَ49 وأضَرُّوا بهم فحُصِرَ مِنْ ذلِكَ أهلُ النَّاحيةِ وأرَادُوا الخروجَ فَمنعَهُمُ العَامِلُ50 دونَ أن تَتوافَى عسَاكرُ السُّلطانِ وتَتلاحَقَ المتطوّعَةُ، فشَدَّ طائفةٌ من شُبَّانِ النَّاسِ وأَحْداثِهم فَتقَارَبُوا مِنَ السُّورِ بما أطاقُوا حَمْلَه من السّلاحِ51 وحملوا على الكفرة فتهارج الكفرة52 واستجروهم من بين الأبنية والحيطان، فَلَمَّا أصْحَرُوا كَرَّ الترك علَيهم53 وصَارَ المسْلمونَ في مِثلِ الحرَجَةِ54 فتَحصَّنُوا واتَّخَذُوا دَارةً يُحَاربُونَ من وَرائِها وانْقطَعَ ما بينَهُم وبَيْن الحِصْنِ وبَعُدَت المعونة عنهُم فَحارَبُوا كأشَدّ حَرْبٍ وثَبتُوا حتَّى تَقطَّعَت الأَوْتارُ والقسِيُّ55 وأدرَكَهُمُ التّعَبُ ومَسَّهُمُ الجوعُ والعَطَشُ وقُتِلَ معظمهم وأُثْخِنَ البَاقُونَ بالجِراحَات56 .
ولما جَنَّ عَلَيهمُ الليلُ57 تَحاجَزَ الفَريْقانِ58 قالَتِ المرأةُ: ورُفِعَتِ النّارُ على المنَاظِرِ سَاعةَ عُبُورِ الكَافرِ، فاتّصَلَ الخبَرُ بالجُرْجَانِيّةِ وهي مَدِينةٌ عَظيمةٌ في قاصِيَةِ خُوَارِزْمَ59 ، وكانَ مِيكالُ مَوْلَى طَاهرٍ بِهَا في عَسْكَرٍ فَخفَّ في الطّلبِ60 هَيْبَةً للأميْرِ أبي العبّاسِ عبدِ الله بنِِ طَاهرٍ رحمه الله، وركَضَ إلى هَزَاراسْبْ في يَومٍ ولَيلةٍ أربعينَ فرسَخًا بفَراسِخِ خُوارِزْمَ وفِيْها فَضلٌ كثِيرٌ على فراسِخِ خُراسَانَ61 ، وغَدا الترك لِلفَرَاغ مِنْ أَمْر أولئِكَ النَّفَرِ62 فبَينَما هُمْ كذلكَ إذ ارتفَعتْ لهُمُ الأعلامُ السُّودُ وسَمِعُوا أصْواتَ الطّبُولِ فأَفْرَجُوا عن القَوْم63 ، ووَافَى مِيكالُ64 مَوْضِعَ المعْركةِ فَوارَى القَتْلَى وحَمَلَ الجرْحَى65 ، قالَتِ المرأةُ: وأُدْخِلَ الحِصْنَ علَينا عَشِيَّةَ ذَلكَ زُهاءُ أربَعمائةِ جَنَازةٍ فلمْ تبْقَ دارٌ إلا حُمِلَ إليها قتيلٌ وعَمَّتِ المصِيبةُ وارْتجَّتِ النَّاحِيةُ بالبُكاءِ. قالت: ووُضِعَ زَوْجي بَيْنَ يدَيَّ قَتيلا فأَدْرَكَني من الجزَع والهلَعِ66 علَيهِ ما يُدْرِكُ المرأة الشّابّة على زَوْجِها أبي الأَوْلادِ، وكانَت لَنا عِيَالٌ. قالتْ: فاجْتَمع النّساءُ من قَرابَاتي والجِيرانُ يُسْعِدْنَني على البكاءِ67 ، وجَاءَ الصّبْيانُ وهمْ أطْفالٌ لا يَعْقِلُونَ من الأَمْرِ شيئًا68 يَطْلبونَ الخبْزَ وليسَ عِنْدِي ما أعطيهم فَضِقْتُ صَدْرًا بأَمْري ثمّ إنّي سَمِعْتُ أَذانَ المغْربِ فَفَزِعْتُ إلى الصّلاةِ69 فصَلَّيتُ ما قَضَى لي ربّي ثُمّ سَجَدْتُ أَدْعُو وأتَضَرَّعُ إلى الله تَعالى وأسأَلهُ الصَّبْرَ وأن يَجْبُرَ يُتْمَ صِبياني فذهب بيَ النّومُ في سجودي فَرأيتُ في مَنامي كأَنّي في أَرْض حَسْناءَ ذَاتِ حِجَارةٍ وأنَا أطْلُبُ زَوْجِي، فنَاداني رَجُلٌ إلى أينَ أيّتُها الحُرّةُ؟ قلتُ أطلُبُ زَوجِي، فقالَ خُذِي ذَاتَ اليَمينِ، قالت فأخذت ذات اليمين فرُفِعَ لي أرضٌ سَهْلَةٌ70 طيّبةُ الرِّيّ ظَاهِرةُ العُشْبِ وإذَا قصُورٌ وأَبنيَةٌ لا أحْفَظُ أنْ أصِفَها ولَمْ أَرَ مِثْلَها71 وإذا أنْهارٌ تَجْري علَى وجْهِ الأَرْضِ بغَيْرِ أخَاديدَ72 ليسَ لها حَافاتٌ، فانْتَهيْتُ إلى قَوم جلُوسٍ حَلَقًا حَلَقًا73 علَيْهمْ ثِيَابٌ خُضْرٌ قَدْ عَلاهُمُ النُّورُ، فإذَا هُم الذينَ قُتِلُوا في المعركةِ يأْكُلونَ على موائدَ بينَ أيدِيْهم فجعَلْتُ أتخلَّلُهم وأتصَفَّحُ وجُوْهَهُم74 أبغي زَوْجي لكي يَنْظُرُنِي، فنَادَاني: يا رَحْمَةُ! فيَمَّمْتُ الصَّوْتَ75 فَإذَا به في مِثْلِ حَالِ من رَأيتُ من الشُهداءِ، وجهُهُ مثلُ القمَرِ ليلةَ البَدْرِ وهوَ يأكلُ معَ رُفقةٍ لَه قُتِلُوا يَومئذٍ معَهُ، فَقالَ لأَصْحابِه إنَّ هذهِ البائِسَةَ جَائعةٌ مُنْذُ اليومَ أفَتأذَنُونَ لي أنْ أُنَاوِلَها شَيئًا تأْكُلُه؟ فأَذِنُوا لَهُ، فنَاوَلَنِي كِسْرةَ خُبزٍ76 . قالت: وأنا أعْلَمُ حينئذٍ أنّه خبزٌ ولكن لا أدري كيْفَ يُخْبَزُ، هو أشدُّ بياضًا من الثَّلجِ واللّبنِ وأحلى من العَسلِ والسُّكرِ وأليَنُ من الزُّبْدِ والسَّمْنِ77 ، فأكَلْتُه فلمّا استقرَّ في جوفي قال: اذهبي كفاكِ الله مَؤُونَةَ الطّعامِ والشّرابِ ما حيِيتِ في الدّنيا، فانتَبهْتُ من نَومي شَبْعَى رَيَّا لا أحتاجُ إلى طَعامٍ ولا شرابٍ وما ذُقتُهما منذُ ذلكَ إلى يَومي هَذا ولا شَيئًا يأكلُه الناسُ. وقالَ أبو العبّاسِ: وكانت تَحْضُرُنا وكُنّا نأكلُ فتتنَحَّى وتأْخذُ على أنْفِها تَزعُمُ أنّها تتأذَّى من رائحةِ الطَّعامِ، فسأَلتُها أتتغَذَّى بشَىءٍ أو تَشربُ شيئًا غيرَ الماءِ؟ فقالتْ لا، فسألتُها هل يَخرجُ منها ريحٌ أو أذًى كما يَخرُجُ مِنَ النّاسِ؟ قالت لا عَهْدَ لي بالأذَى منذُ ذلكَ الزّمانِ، قلتُ والحيضُ؟ أظنُّها قالت انقطعَ بانقطاعِ الطُّعْمِ78 ، قلتُ هل تحتاجينَ حاجَةَ النساءِ إلى الرّجالِ قالتْ أمَا تستحي منّي تسألُني عنْ مِثل هذا، قلتُ إنّي لعَلّي أُحَدّثُ النّاسَ عنكِ ولا بدّ أن أستَقْصِيَ، قالت لا أحتاجُ، قلتُ فتنامينَ؟ قالتْ نعَم أطيَبَ نومٍ، قلتُ فما ترَينَ في منامِكِ؟ قالت مِثلَما ترَوْنَ، قلتُ فتَجِدينَ لفَقْدِ الطّعامِ وَهْنًا؟ قالتْ ما أحْسَسْتُ بجوعٍ منذ طَعِمْتُ ذلك الطعامَ، وكانت تقبَلُ الصَّدَقةَ فقلتُ لها ما تَصْنَعينَ بها، قالت أكْتَسي وأكسُو ولَدِي، قلتُ فهلْ تجدينَ البردَ وتتأذَّينَ بالحرّ؟ قالَتْ نَعَم، قلتُ فهل تدرين الكلل اللُّغوبُ والإعياء79 إذا مشَيتِ؟ قالت نعَم ألَسْتُ منَ البشرِ، قلتُ فتتوضَّئِيْنَ للصّلاةِ؟ قالت نعم، قلتُ لِمَ؟ قالَت أمرَني الفقهاءُ بذلكَ، قلتُ إنَّهم أفْتَوْها على حَديثِ: "لا وضوءَ إلا من حَدَثٍ أو نومٍ"، وذكَرتْ لي أنَّ بطنَها لاصِقٌ بظَهْرِها، فأمَرْتُ امرأةً من نسائِنا فنظَرَتْ (أي إلى غير العورة) فإذا بطنُها كمَا وصَفَتْ وإذا قد اتّخَذَتْ كِيْسًا فضَمَّتِ القُطْنَ وشَدَّتْهُ على بَطنِها كي لا ينقصِفَ ظهرُها إذا مشَت، ثمّ لم أزل أختلِفُ إلى هزَاراسْبْ بينَ السّنتين والثّلاثِ فتَحضُرُني فأعيدُ مسألتَها فلا تَزيدُ ولا تَنْقُصُ، وعَرَضْتُ كلامَها على عبدِ الله بنِ عبدِ الرّحمنِ الفَقيهِ، فقالَ: أنا أسمَعُ هذا الكلامَ منذُ نشأتُ فلا أجِدُ من يدفَعُهُ أو يَزْعُمُ أنّه سَمِعَ أنّها تأكلُ أو تَشْرَبُ أو تتَغوَّطُ. انتهى.
فهذه القِصَّةُ فيها أن لا تَلازُمَ عقلِيٌّ بين فِقْدانِ الأَكْلِ وبينَ المرَضِ وذَهابِ الصّحَّةِ وانْهِدام البُنْيَةِ وكذلكَ سائرُ الأسْبابِ العَاديّةِ يصِحُّ عقلا أن تتخلَّفَ مفعولاتُها وأن الأشْياءَ بمشيئةِ الله تعالى، وأنَّ الشُّهداءَ لهم حَياةٌ برْزخِيَّةٌ فسُبْحانَ القَدِيرِ على كلِّ شىءٍ.
------------------