الكَلامُ هُو صِفةٌ أزَليّةٌ أبديّةٌ هُوَ متكَلِمٌ بها ءامِرٌ نَاهٍ وَاعِدٌ مُتَوعّدٌ لَيْسَ ككَلامِ غَيْرِه بلْ أزَليٌّ بأَزَليَّةِ الذّاتِ لا يُشْبِهُ كَلامَ الخَلْقِ وليْسَ بِصَوْتٍ يَحدُثُ منَ انْسِلالِ الهَواء أو اصطِكَاكِ الأَجْرامِ ولا بِحَرفٍ يَنْقَطِعُ بإطباقِ شَفَةٍ أو تَحْرِيكِ لِسَانٍ.
ونَعتَقدُ أنَّ مُوسَى سَمِعَ كَلامَ الله الأَزَليَّ بِغَيْرِ حَرْفٍ ولا صَوْتٍ كمَا يَرَى المؤمِنُونَ ذاتَ الله في الآخِرَةِ من غيرِ أن يَكُونَ جَوْهَرًا ولا عَرَضًا لأَنَّ العَقْلَ لا يُحِيلُ سَماعَ مَا لَيْسَ بِحَرفٍ ولا صَوْتٍ.
وكَلامُه تَعالَى الذَّاتيُّ لَيْسَ حُرُوفًا مُتَعَاقِبَةً كَكَلامِنا، وإذَا قرَأ القَارِئ مِنَّا كَلامَ الله فقِرَاءَتُه حَرْفٌ وصَوْتٌ لَيْسَتْ أَزَلِيّةً.
وقد نُقِلَ هذا التفصيلُ عن أبي حنيفةَ رضي الله عنه وهو من السلفِ أدركَ شيئًا من المائةِ الأولى ثم توفيَ سنة مائةِ وخمسينَ هجرية قال1: "والله يتكلمُ لا بآلةٍ وحرفٍ ونحنُ نتكلم بآلةٍ وحرفٍ" فليُفهم ذلكَ. وليسَ الأمرُ كما تقولُ المشبهةُ بأن السلفَ ما كانوا يقولون بأن الله متكلمٌ بكلامِ ليسَ بحرفٍ وإنما هذا بدعةُ الأشاعرة وهذا الكلامُ من أبي حنيفة ثابتٌ ذكرهُ في إحدى رسائِلِه الخمسِ.
والقُرْءانُ لَهُ إطْلاقَانِ يُطْلَقُ علَى اللّفْظِ المُنـزَّلِ على محمدٍ وعلَى الكَلامِ الذَّاتيّ الأزلي الذي لَيْسَ هُوَ بِحَرْفٍ ولا صَوْتٍ ولا لُغَةٍ عَربيَّةٍ ولا غَيْرِها. فَإن قُصِدَ بهِ الكَلامُ الذَّاتيُّ فهو أزليٌّ ليس بحرفٍ ولا صوتٍ، وإن قُصدَ به وبسائرِ الكتبِ السماوية اللّفْظُ المُنَزَّلُ فمنه ما هو باللغةِ العبريةِ ومنهُ ما هو باللغةِ السُّريانيةِ وهذه اللغاتُ وغيرُها من اللغاتِ لم تكن موجودةً فخلقَهَا الله تعالى فَصَارت موجودةً والله تعالى كانَ قبلَ كلّ شىءٍ، وكانَ متكلمًا قبلَها ولم يزل متكلمًا وكلامُهُ الذي هو صفتُهُ أزليٌّ أبديٌّ وهو كلام واحد وهذهِ الكتبُ المنزلةُ كُلُّها عباراتٌ عن ذلكَ الكلامِ الذاتيّ الأزلي الأبدي، ولا يلزمُ من كونِ العبارةِ حادثةً كونُ المعبَّر عنه حادثًا ألا تَرَى أننا إذا كَتَبنَا على لوحٍ أو جدارٍ "الله" فقيلَ هذا الله فهل معنَى هذا أن أشكالَ الحروفِ المرسومة هي ذات الله لا يتوهَّمُ هذا عاقلٌ إنّما يُفهمُ من ذلكَ أن هذه الحروف عبارةٌ عن الإلهِ الذي هو موجودٌ معبودٌ خالقٌ لكلّ شىءٍ ومعَ هذا لا يقالُ القرءانُ مخلوقٌ لكن يُبَيَّن في مقامِ التَّعليمِ أن اللفظَ المنزّلَ ليسَ قائمًا بذاتِ الله بل هو مخلوقٌ لله لأنه حروفٌ يسبِقُ بعضُها بعضًا وما كانَ كذلك حادثٌ مخلوقٌ قطعًا. لكِنّه ليْسَ مِنْ تصنِيفِ مَلَكٍ ولا بَشَرٍ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَن الكَلامِ الذَاتيّ الذي لا يُوصفُ بأنَّه عَرَبيٌّ ولا بأَنّهُ عِبْرانيٌّ، ولا بِأَنَّهُ سُرْيَانِيٌّ، وكُلٌّ يُطْلَق علَيْهِ كَلامُ الله، أيْ أنَّ صِفَةَ الكَلامِ القَائِمَة بذَاتِ الله يُقالُ لَها كَلامُ الله، واللّفْظُ المُنَزَّلُ الذي هُو عِبَارَةٌ عَنْهُ يقَالُ لَه كَلامُ الله.
والإطلاقانِ من بَابِ الحَقِيقَةِ لأنَّ الحَقِيقَةَ إِمَّا لُغَوِيَّةٌ وإِمّا شَرْعِيَّةٌ وإمَّا عُرْفِيَّةٌ. وإطلاق القرءان على اللفظ المنزل حقيقة شرعية فليعلم ذلك.
وتَقْريبُ ذَلِكَ كما تقدم أَنَّ لَفْظَ الجَلالَةِ "الله" عِبَارَةٌ عن ذَاتٍ أزَليّ أبَدِيّ، فَإِذَا قُلْنَا نَعْبدُ الله فَذَلِكَ الذّاتُ هُوَ المَقْصُودُ، وإذَا كُتِبَ هذَا اللّفْظُ فقِيْلَ: مَا هَذا؟ يُقَال: الله، بِمعنَى أنَّ هذِه الحُروفَ تَدُلُّ على ذلكَ الذّاتِ الأزَليّ الأبَدِيّ لا بمَعْنى أنَّ هذِهِ الحُروفَ هي الذَّاتُ الذي نَعبُدُهُ.
------------------