درسٌ ألقاهُ الفقيهُ العابدُ الشيخُ عبدُ اللهِ بنُ مـحمدٍ العبدريُّ رحـمهُ الله تعالى في العشرينَ من صفر سنةَ ثـمانٍ وتِسعينَ وثلاثِـمائةٍ وألفٍ وهو في بيانِ مَن هُوَ الوليُّ.
قال رحمهُ اللهُ تعالى رحمةً واسعةً:
الحمدُ للهِ ربِّ العالَمينَ وصلى اللهُ على سيّدنا مـحمَّدٍ وعلى ءالِهِ وصَحبهِ وسلَّمَ. أما بعدُ فقد قالَ اللهُ تعالى في سورةِ يونُس: ﴿ألا إنَّ أولياءَ اللهِ لا خَوفٌ عليهِمْ ولا هُم يَـحْزَنونَ*﴾. وقد روى البُخاريُّ من حديثِ أبي هُريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم: "قال الله تعالى: أعْدَدْتُ لِعبادِيَ الصّالِـحينَ ما لا عَينٌ رأتْ ولا أذُنٌ سَـمِعَتْ ولا خَطَرَ على قلبِ بَشرٍ1" اهـ.
اللهُ أخبرَ في كِتابِهِ الـمُبينِ بأنَّ أولياءَهُ لا خَوفٌ عليهم أيْ ليسَ عليهمْ عِقابٌ في الـمستقبلِ لا في القبرِ ولا في الآخرةِ ولا نَكَدٌ ولا يَـحزَنونَ على ما مَضى بعدَ مُفارَقَتِهِم للدُّنيا فهُم ءامِنُونَ لـهُمُ البُشرى في الدنيا وفي الآخرةِ، فسَّرَ العلماءُ بُشراهُم في الحياةِ الدُّنيا بأنَّهُ يَنزِلُ عليهم ملائكةٌ قبلَ موتِـهِم يُبَشِّرُونَـهُم برحمة الله ورضوانه فيَسْتَبْشِرونَ بفضلِ اللهِ، وهؤلاءِ ملائكةُ الَّرحمةِ يأتونَ إلى أولياءِ اللهِ عندَ موتِهِم حتـى يَذهَبَ عنهُم خوفُ الـموتِ فإنَّ الولـيَّ مِنْ حيثُ طبعُهُ يَـخافُ الـموتَ ويكرَهُهُ لأنَّ طبيعَتَهُ مَـجبولةٌ على حُبِّ الدنيا وخوفِ الـموتِ إلى أنْ تنزلَ عليهِ ملائكةُ الرًّحمةِ فتُبَشِّرَهُ وعندئذٍ يذهبُ الـخوفُ عنهُ، ومنهم مَنْ ينزلُ عليهم خـمسُمائةٍ منْ ملائكةِ الرحمةِ منظرُهُم حسَنٌ كأنَّ وجوهَهُم الشَّمسُ، وهؤلاءِ أيْ ملائكةُ الرحـمةِ يأتونَ إلى الولـيِّ قبلَ مـجيءِ عَزرائيلَ ثـمَّ يأتِـي عَزرائيلُ فيُبشِّرُهُ. ومِنهُم مَنْ يرى تلكَ الـملائكةَ ويرى كثيرًا منَ الأنبياءِ والأولياءِ، ومنهُم مَنْ يرى رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضاحِكًا إليهِ يُبَشِّرُهُ بالـجنّةِ، ورُؤيةُ الولـيِّ للرسولِ صلى الله عليه وسلم تلكَ الساعةَ تَـحتَمِلُ وَجْهَينِ: أنْ يأتِيَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم2 أو أن يُرِيَ اللهُ هذا الوليَّ بعينِهِ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهُوَ في قبرِهِ الشريفِ فيراهُ مع بُعْدِ الـمَسافةِ كأنَّهُ أمامَهُ لأنَّ اللهَ يَـخرِقُ العاداتِ لِمَنْ شاءَ.
ومنَ الأولياءِ مَنْ يرى ملائكةَ الرّحـمةِ وهُمْ في حالِ الصّحةِ فقد جاءَ عن كثيرٍ من أولياءِ اللهِ ما يَشْهَدُ بذلكَ، كانَ بعضُ الأولياءِ الـمعروفينَ بالكراماتِ يُـحَدِّثُ عن نفسِهِ أنهُ يأتِيهِ كُلَّ عامٍ اثنانِ منَ الـملائكةِ يَزُورانِهِ، ثـمَّ قالَ في العام الذي تُوفّي فيه إنّه زاره أربعة من الملائكة قال: ولعلَّ ذلكَ لِقِصَرِ مُدَّةِ حياتي بعدَ هذا فتُوُفِّـيَ في ذلكَ العامِ. ويشهدُ لذلكَ ما صحَّ في الـحديثِ أنهُ صلى الله عليه وسلم أخبرَ فاطمةَ بنتَهُ رضيَ اللهُ عنها قالَ لـها في مرضِ وفاتِهِ يُسَارُّها بذلكَ: "إنَّ جبريلَ يُعارِضُنـي3 بالقرءانِ كلَّ عامٍ مرةً واحدةً وإنَّهُ عارَضَنِـي هذا العامَ مرَّتَينِ وأرى أنَّ ذلكَ لِحُضورِ أَجَلي4" اهـ وقد كانَ تـمامُ نُزولِ القرءانِ في ذلكَ العامِ الذي دارَسَهُ القرءانَ مرَّتَينِ فيهِ.
هكذا شأنُ الأولياءِ الذينَ فازُوا بالزُّلفى5 عندَ اللهِ بـمُتابَعَتِهِم للرّسولِ صلى الله عليه وسلم اتِّباعًا كامِلاً ولولا اتِّباعُهُم الكاملُ للرّسولِ صلى الله عليه وسلم ما حصلَ لـهُم ذلكَ الفضلُ. وأمّا بُشراهُم بعدَ موتِهِم فمِن ذلكَ أنَّ الـمَلَكَينِ الكَريـمَينِ مُنكرًا ونكيرًا يأتِيانِ عِبادَ اللهِ الصّالحينَ أولياءَ اللهِ فيسألانِ الولـيَّ فيُثَبِّتُهُ اللهُ تعالى للجوابِ بِسُهولةٍ بلا فَزَعٍ معَ أنهُ ثبتَ في الحديثِ أنَّ مُنكرًا ونكيرًا أسودانِ أزرَقانِ لكنْ هؤلاءِ الأولياءُ لا يُهَوِّلُـهُم ولا يُرَوِّعُهُم هذا الـمنظرُ ثـمَّ يُبشِّرانِ ولـيَّ اللهِ يقولانِ نَـمْ نَومةَ العَروسِ الذي لا يُوقِظُهُ إلا أحبُّ الأهلِ إليهِ فينامُ. ولا تُفارقُ روحُهُ الجسدَ حالاً بعدَ السُّؤالِ بل تَثْبُتُ معَ الـجسدِ وتُلازِمُهُ فلا يرى نكدًا ولا وَحْشَةً ولا ظُلمةً فقدْ صحَّ في الحديثِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ اللهَ تباركَ وتعالى يُوسِّعُ القبرَ على الـمؤمنِ الكامِلِ سبعينَ ذراعًا في سبعينَ ذراعًا وأنهُ يُـمْلأُ خَضِرًا ونُورًا فيُنَوَّرُ كنورِ القمرِ ليلةَ البدرِ واللهُ قادِرٌ على كلِّ شىء فهذهِ ليلةُ القدرِ يراها واحدٌ مِن أهلِ بيتٍ ثـمَّ هذا الذي يراها قد يُوقِظُ مَنْ معهُ ثـمَّ لا يَرَوْنَ هذا النورَ أمَّا هوَ فيَراهُ ويُشاهِدُهُ، يُشاهِدُ نورًا عظيمًا، وهكذا في القبرِ يُنَوِّرُ اللهُ لأوليائِهِ قبورَهُم ثـمَّ لو فَتَحَ الإنسانُ قُبورَهُم قد يَـحْجُبُ اللهُ بَصَرَ هذا الذي فَتَحَ القبرَ فلا يرى ذلكَ النورَ الذي خلقَهُ اللهُ في قبرِ الولـيِّ ولا يَرَى هذا الإنسانُ الـخَضِرَ الذي يـملأُ قبرَهُ. اللهُ تعالى يُضَيِّقُ الواسِعَ في نظرِ مَن شاءَ مِنْ عبادِهِ ويُكَثِّرُ القليلَ في نظرِ مَن شاءَ من عبادِهِ ويُقلِّلُ الكثيرَ في نظرِ مَن شاءَ مِنْ عِبادِهِ كما حصلَ ذلكَ لأصحابِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم في بعضِ غزواتـِهِم فقد كانَ الكُفّارُ ثلاثةَ أضعافِ أصحابِ رسولِ اللِه صلى الله عليه وسلم الـمُجاهِدِينَ فكَثَّرَ اللهُ هذا العددَ القَلِيلَ في أنظارِ الكُفارِ وقَلَّلَ عَدَدَ الكفارِ الذي هوَ كثيرٌ في أعيُنِ الـمُؤمنينَ. واللهُ لا يُعجِزُهُ شىءٌ فيجبُ الإيـمانُ بكُلِّ ما ثبتَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنْ خالفَ العادةَ فالعقلُ السليمُ يَقبَلُهُ. ومعَ هذا فإنَّ عبادَ اللهِ الصالـحينَ الأولياءَ قد يُريهِمُ اللهُ حالَ قبرِ ولـيِّ اللهِ، يُريهِم اتِّساعَهُ سبعينَ ذِراعًا في سبعينَ وامتِلاءَهُ بالنورِ وغيرَ ذلكَ بالصفةِ التـي ورَدَتْ في الحديثِ من دُونِ أن يَفتَحُوا القبرَ معَ وُجودِ طبقةِ التُرابِ بينَهُم وبينَ القبرِ، واللهُ تعالى يَـجْعَلُ هذا الـحَاجِزَ الكثيفَ كالبِلَّورِ لِمن شاءَ من عبادِهِ. ما شاءَ اللهُ كانَ وما لـم يشأْ لـم يكُنْ فلا أحدَ يَـمنَعُ نفاذَ مشيئةِ اللهِ تعالى.
وقد وردَ في جامعِ الترمذيِّ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ رضي الله عنهما أنَّ رجُلاً ضربَ خيمةً6 على قبرٍ فصارَ يسمعُ منَ القبرِ قِراءةَ تباركَ الذي بيدِهِ الـمُلكُ حتى خَتَمها فذهبَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأَخْبرَهُ بِـما حصلَ لهُ فقالَ مُصدِّقًا له:"هيَ الـمانِعةُ هيَ الـمُنجيةُ"7 اهـ.
هذا ما حَصَلَ لبعضِ الصحابةِ في زَمَنِ الرسولِ صلى اللهُ عليهِ وسلم وحَصَلَ بعدَ ذلكَ مِثلُ هذا فقد تواتَرَ أنَّ عالِمًا مِنْ عُلماءِ الصُّومالِ كانَ من أولياءِ اللهِ هذا ما حَصَلَ لبعضِ الصحابةِ في زَمَنِ الرّسولِ صلى اللهُ عليهِ وسلم وحَصَلَ بعدَ ذلكَ مِثلُ هذا فقد تواتَرَ أنَّ عالِمًا مِنْ عُلماءِ الصُّومالِ كانَ من أولياءِ اللهِ الفُقهاءِ العُلماءِ الوَرِعينَ الزاهدينَ النَّاسِكينَ واسـمُهُ محمدُ إدريس لَمَّا تُوُفِّـيَ كانَ لهُ طالبٌ صالِحٌ منَ الأتقياءِ يقرأُ على الشيخِ في كتابٍ وتُوُفِّـيَ الشيخُ ولـم يَـخْتِمْ دِراسةَ ذلكَ الكتابِ فحَزِنَ حُزنًا شديدًا فرأى شيخَهُ في الـمنامِ فقالَ لهُ: ائتِ القبرَ ومعكَ الكتاب، ثمَّ استيقظَ وحَـملَ معهُ الكتابَ الذي كانَ يَدْرُسُ فيهِ ولـم يَـختِمْهُ بعدُ فجلسَ أمامَ الشيخِ على القبرِ وبدأ الشيخُ يشرَحُ كعادَتِهِ منَ القبرِ حتى خَتَمَ الكتابَ، ثمَّ بعدَ ذلكَ حَـملَ معهُ كتابًا ءاخَرَ فذهبَ إلى القبرِ وجَلَسَ أمامَ الشيخِ وبدأ يقرأُ فلـم يَسْمَعْ صوتَ شيخِهِ لأنَّ هذا منَ الأسرارِ فاللهُ تعالى خَرَقَ لهُ العادةَ فاستَطاعَ أن يَـخْتِمَ ذلكَ الكتابَ بـمشيئةِ اللهِ وفضلِهِ وإحسانِهِ لكنَّ الأسرارَ لا تستمرُّ في الغالبِ والتـي هيَ من هذا القبيلِ لا تدومُ بل تنْقَطِعُ. فإذا كانَ هذا حالَ أولياءِ اللهِ فينبغِي معرفةُ شرطِ الوِلايةِ حتى إذا أَرادَ واحدٌ أن يَسْلُكَ مَسْلَكَهُم ويَصِلَ إلى ما وصلُوا إليهِ عرفَ كيفَ يَقتَديَ بأفعالِهِم وأقوالِهِم واعتقاداتِهِم الـمُوافقةِ للقُرءانِ والحديثِ.
فالولـيُّ هُوَ الـمؤمنُ الذي ءامَنَ باللهِ ورسولِهِ وتعلَّمَ مِنْ علومِ الدينِ ما هُوَ فرضٌ ضروريٌّ ولو بالتَّلَقي الشَّفَويِّ بِـحُضُورِ مَـجالِسِ أهلِ العلمِ، حَصَّلَ القَدْرَ الذي لا بُدَّ منهُ لصحةِ العقيدةِ ولتصحيحِ الأعمالِ من صلاةٍ وصيامٍ وعرفَ معاصيَ القلبِ كالرّياءِ والعُجبِ والحسدِ والكِبْرِ وعَرَفَ معاصِيَ السَّمعِ كالاستِماعِ إلى الغيبةِ والنميمةِ عَمْدًا وعَرَفَ مَعَاصِيَ اليدِ كضربِ الـمُؤمنِ ظُلمًا وعرفَ مَعَاصِيَ اللّسان كالشّتمِ والغيبةِ والكُفرِ اللّفظيِّ وعرفَ معاصيَ الرِّجلِ كالـمَشيِ إلى الـمُحرَّماتِ وعَرَفَ مَعاصِيَ الفرْجِ كالزِّنَـى وعَرَفَ معاصيَ البطنِ كأكلِ الـمُحرَّماتِ وغيرَ ذلكَ مِـمَّا يـجبُ عليهِ تعلُّمُهُ ثـمَّ طبَّقَ ذلكَ على نفسِهِ بأنْ تَـخَلَّى عنِ الـمَعاصي الظاهرةِ والباطِنةِ وتَـحلَّى بأداءِ الفرائضِ وأفضلُها الإيـمانُ باللهِ ورسولِهِ ثُـمَّ الصلاةُ ثُـمَّ أكثرَ منَ النّوافلِ لكنْ ليسَ شرطًا للوِلايةِ أن يأتـيَ بـجميعِ أنواعِ النّوافلِ بلْ إذا أَكْثَرَ منْ نوعٍ أو نَوْعَينِ منَ النوافلِ يَكْفِي ذلكَ لثُبوتِ الوِلايةِ. والنوافلُ التـي يكونُ مِنْ شأنِ الولـيّ أنْ يكونَ مُكثِرًا منها: التَّهَجُّدُ بالليلِ، ومِنها: كثرةُ الذِّكرِ اللّسانِـيِّ والتّهليلُ أفضلُهُ، ومنها: التسبيحُ وهُوَ بعدَ "لا إلهَ إلا الله" بالفَضْلِ. كانَ أبو هريرةَ رضي اللهُ عنهُ أحدُ علماءِ الصحابةِ الـمُكْثِرينَ من روايةِ أحاديثِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لهُ وِرْدٌ يفْعَلُهُ كلَّ يومٍ أنهُ كانَ يُسبِّحُ اثنَتَـي عَشْرَةَ ألفِ تسبيحةٍ كلَّ يومٍ8.
هذا شرطُ الوِلايةِ. ثـمَّ الولـيُّ لا يشتَغِلُ بـما تفعَلُهُ السَّحَرةُ وأصحابُ العزائمِ مِنْ ضربِ الـمَنْدَلِ وقِراءةِ الكفِّ وأيُّ إنسانٍ يفعلُ ذلكَ هُوَ فاسِقٌ ليسَ بولـيٍّ. وأولياءُ اللهِ تعالى نوَّرَ اللهُ بصائِرَهُم ومَكَّنَهُم تـمكينًا في تَقوَاهُم فليسَ مِنْ شأنـِهِم أيضًا الاشتِغالُ بكتابةِ الطّلاسِمِ وقد تكونُ في الواقعِ أسـماءً ورُمُوزًا لعُظَماءِ الشّياطينِ الذينَ يُقَدِّسُونَـهُم فإذا كُتِبَتْ هذهِ الطّلاسِمُ وطُبِّقَتْ على التّرتيبِ الذي يشتَرِطُونَهُ يـحصُلُ بقدرةِ اللهِ الأثرُ الذي يُرادُ مِنْ أجلِهِ كتابةُ هذهِ الطّلاسمِ أحيانًا. وليسَ منْ أولياءِ الله الذينَ يشتَغِلونَ بطريقِ صُحبةِ الـجِنِّ على حَسبِ الشروطِ الفاسدةِ التي يَشتَـرِطُهَا هولاءِ الـجنِّ عليهم، على أنّهُ يجوزُ أنْ يكونَ عندَ بعضِ أولياءِ اللهِ أصحابٌ منَ الـجنِّ مؤمنونَ يطلُبُونَ صُحبةَ هؤلاءِ البشرِ الصُّلَحاءِ لِيَسْتَفيدوا من صُحبَتِهم في الدِّينِ، ولا يتعارَضُ كونُهُ بشرًا وليًّا معَ تردُّدِ جِنِّـيٍّ إليهِ يستفيدُ منهُ في الدّينِ لكنَّ الذي يتعارضُ معَ الشّرعِ فِعْلُ هؤلاءِ الذينَ يقولونَ نـحنُ مُؤَاخُونَ للرُّوحانـيّ ثـمَّ مِنْ شأنِ هذا الذي يُسَمُّونَهُ رُوحًا أو رُوحانيًا أنْ يَدْخُلَ في الرَّجلِ أو في الأُنثى ثـمَّ يَتكلَّمُ على لِسانِـهِم فهـؤلاءِ ليسُوا مِنْ أوليـاءِ اللهِ تعالى والـجِنِّـيُّ الذي معَهُم فاسِقٌ معَ فاسِقٍ، ولا يستطيعُ هؤلاءِ أن يُـحْضِرُوا روحَ إنسانٍ بشرٍ ميتٍ ولو كانَ كافِرًا. وولـيُّ اللهِ لا يطلبُ الـجِنَّ لِيَدْخُلَ فيهِ ويتكلّمَ على لسانِهِ ولو بقراءةِ القُرءانِ ولو زعمَ هذا الـجِنـيُّ أنهُ روحُ الشّيخِ الرّفاعيِّ أو الـجَيلانـيّ فإنَّ هذا جِنـيٌّ خبيثٌ، ومَن يدخلُ جِنـيٌّ فيهِ بِرِضاهُ خَبيثٌ بعيدٌ منَ الوِلايةِ بُعْدَ السّماءِ منَ الأرضِ لأنَّ هذا مُـحَرَّمٌ حرَّمَهُ اللهُ تعالى. ويوجدُ جِنٌّ أولياءُ كما يوجدُ إنسٌ أولياءُ.
والـمُبتَلى بالعارِضِ إنْ تحصَّنَ بآياتِ اللهِ تباركَ وتعالى يَقِيهِ ذلكَ أذى الجنِّ، فقد كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يتعوَّذُ بأشياءَ من ذكرِ اللهِ ثم لَمَّا أُنزِلَتْ عليهِ الـمُعوذتان كان يَتَعَوَّذُ بـهِما، لذلكَ سنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأمَّتِهِ قراءةَ الـمُعوّذتَينِ معَ سورةِ الإخلاصِ معَ تصحيحِ الحروفِ مساءً ثلاثًا وصباحًا ثلاثًا صباحًا أي مِن طُلوعِ الفجرِ إلى ما بعدَ طلوعِ الشمسِ بنحوِ ساعَتَينِ ومساءً من غروبِ الشمسِ إلى نـحوِ ثلاث ساعاتٍ فمَنْ حافظَ على هذا فقد تَـحصَّنَ بِـحِصْنٍ عظيمٍ مِنْ ضررِ الإنسِ والـجِنِّ والسّحرِ.
كذلكَ علَّمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما يَدْفَعُ بهِ ضَررَ الوَسوسةِ بأنْ يَتْفِلَ ثلاثَ مراتٍ عن يسارِهِ إذا أَحسَّ بـها ويَستعيذَ باللهِ فيقولُ: "اللهمَّ أعوذُ بكَ من شرِّ الشيطانِ وفِتنَتِهِ" اهـ. ولا يتمادَى فيها ويَصرِفُ فكرَهُ إلى غيرِ ذلكَ، وذلكَ أنَّ الشيطانَ يُـحِبُّ أن يُعَكِّرَ على الـمؤمنِ ويُضايقَهُ فيَفْتَحُ عليهِ بابَ الوَسْوَسةِ حتى يَـحزَنَ ويَنْشَغِلَ عنِ الأٌمورِ الـمُهمَّةِ.
وهناكَ أمرٌ أخفُّ مِنْ قراءةِ الـمُعوّذاتِ ثلاثَ مراتٍ صباحًا ومساءً وهوَ أنْ يقولَ: "حسبِـيَ اللهُ لا إلهَ إلا هوَ عليهِ توكَّلتُ وهوَ ربُّ العرشِ العظيمِ" سبعَ مراتٍ بعدَ الفجرِ وبعدَ الغروبِ فمَنْ واظبَ على ذلكَ حفِظَهُ اللهُ من كثيرٍ منَ الـمهالكِ كإصابةِ العينِ أو السحرِ.
ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كانَ يتعوَّذُ بالـمُعَوّذتَينِ9 وهوَ أطْهَرُ خَلقِ اللهِ وأنْوَرُهُم بصيرةً فكيفَ لا يـحتاجُ غيـرُهُ أن يتعوَّذَ. لـم يَقُلْ: أنا نبيُّ اللهِ يَنْزِلُ عَلَيَّ الوحيُ صباحَ مساءَ والـملائكةُ أحبابـي وأنصارِي فلا أستفيدُ منَ التعوُّذِ، فمَنْ تَعَوَّدَ على التَحصُّنِ بـهذا الحِصنِ في حالِ صحتِهِ كانَ ذلكَ أحفَظَ لهُ عندَ التّعرُّضِ لأذى الجِنِّ أو الإنسِ، ولولا أنَّ اللهَ لهُ عنايةٌ بعبْدِهِ المؤمنِ وأَمَتِهِ الـمؤمنةِ كانَ للشّياطينِ شأنٌ أشدُّ مِـمَّا هو عليهِ فلولا حفظُ اللهِ لتخَطَّفُونا منَ الأرضِ.
والـمُؤمنونَ أعداءُ الشّياطينِ الذينَ لـم يتـرُكُوا مُـحَاولةَ إيذاءِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقد كَانَ إبليسُ على جبلٍ مرةً قُبالةَ بابِ الكعبةِ وسيدُنا مـحمدٌ صلى الله عليه وسلم سَاجِدٌ في الكعبةِ فحَلَفَ إبليسُ لَيَطَأنَّ مـحمدًا صلى الله عليه وسلم فركضَ جبريلُ وضرَبَهُ ضربةً طَيَّـرَتْهُ إلى العراقِ، وجاءَ ذاتَ يومٍ جنودٌ منَ الشّياطينِ وكانَ فيهم مَنْ يَـحْمِلُ شُعلةً من نارٍ ليَرميَها في وَجْهِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم فأعطى اللهُ تعالى رسولَهُ مَقْدِرَةً على أنْ أمسَكَ أحدَهُم وخَنَقَهُ فهزَمَهُم اللهُ تعالى، وكذلكَ جاءَ إبليسُ مرةً إلى الـمُشركينَ بصورةِ إنسانٍ مِن نَـجْدٍ وكانوا يَتَآمَرُونَ على الرسولِ صلى الله عليه وسلم إمَّا لِقَتْلِهِ وإما لـحَبْسِهِ وإمَّا لِنَفيِهِ مِن مكةَ فدَخَلَ معهُم إبليسُ في الـمُؤَامَرةِ وفضَّلَ رأيَ القَتْلِ على غيرِهِ منَ الآراءِ لكنَّ اللهَ ردَّ كيدَهُم ومَكَرَهُم وأخبرَ نبيَّهُ بالوحيِ فذَهَبَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قبلَ الفَجْرِ من بيتِهِ وغَادرَ ذلكَ الـمَكانَ فلـم يَـجِدُوا إلا عليَّ بنَ أبي طالبٍ كرَّمَ اللهُ وجهَهُ فنجَّاهُ اللهُ من مَكْرِهِم الذي كانَ إبليسُ معَهُم فيهِ.
واللهُ تعالى كَلَّفَ بِنا ملائكةً يتعاقَبُون ليلَ نـهارَ يـحفَظُونَنا مِـمَّا لـم يُقَدِّرِ اللهُ أن يُصيبَنا وما قدَّرَهُ اللهُ لا يـحفَظُونَنا منهُ.
انتهى واللهُ سبحانهُ وتعالى أعلمُ.
------------------