سُورَةُ الزَّلْزَلَةِ
مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ
مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَءَايَاتُهَا ثَمَان
بسم الله الرحمن الرحيم
إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)
وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)
وَقَالَ الإِنْسَانُ مَا لَهَا (3)
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)
يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6)
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
رَوَى النَّسَائِيُّ فِي فَضَائِلِ الْقُرْءَانِ وَالْحَاكِمُ وَأَحْمَدُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرِأْنِي سُورَةً جَامِعَةً قَالَ فَاقْرَأْ ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا(1)﴾ حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا فَقَالَ الرَّجُلُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لا أَزِيدُ عَلَيْهَا شَيْئًا أَبَدًا ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْلَحَ الرُّوَيْجِل أَفْلَحَ الرُّوَيْجِل.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا(1)﴾ أَيْ إِذَا حُرِّكَتِ الأَرْضُ حَرَكَةً شَدِيدَةً وَقَالَ مُقَاتِل: تَتَزَلْزَلُ مِنْ شِدَّةِ صَوْتِ إِسْرَافِيلَ حَتَّى يَنْكَسِرَ كُلُّ مَا عَلَيْهَا مِنْ شِدَّةِ الزَّلْزَلَةِ وَلا تَسْكُنُ حَتَّى تُلْقِيَ مَا عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ جَبَلٍ أَوْ بِنَاءٍ أَوْ شَجَرٍ ثُمَّ تَتَحَرَّكُ وَتَضْطَرِبُ فَتُخْرِجُ مَا فِي جَوْفِهَا، وَفِي وَقْتِ هَذِهِ الزَّلْزَلَةِ قَوْلانِ أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا تَكُونُ فِي الدُّنْيَا وَهِيَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ قَالَهُ الأَكْثَرُونَ، وَالثَّانِي: إِنَّهَا زَلْزَلَةُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَالَهُ خَارِجَةُ بنُ زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ.
﴿وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا(2)﴾ قَالَ الْفَرَّاءُ: لَفَظَتْ مَا فِيهَا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ مَيِّتٍ.
﴿وَقَالَ الإِنْسَانُ مَا لَهَا(3)﴾ فِيهِ قَوْلانِ أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ يَعُمُّ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَهَا مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَالثَّانِي: إِنَّهُ الْكَافِرُ خَاصَّةً قَالَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي نُزْهَةِ الأَعْيُنِ النَّوَاظِرِ، وَالْفَرَّاءُ فِي مَعَانِي الْقُرْءَانِ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَهَا زَلْزَلَةَ الْقِيَامَةِ لانَّ الْمُؤْمِنَ عَارِفٌ بِهَا فَلا يَسْأَلُ عَنْهَا وَالْكَافِرَ جَاحِدٌ لَهَا لانَّهُ لا يُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ فَلِذَلِكَ يَسْأَلُ.
﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا(4)﴾ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُحَدِّثُ الأَرْضُ أَيْ تُخْبِرُ بِمَا عُمِلَ عَلَيْهَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، اللَّهُ يُنْطِقُهَا فَتَشَهَدُ عَلَى الْعِبَادِ نُطْقًا بِمَا عَمِلُوا عَلَيْهَا، فَالْمُؤْمِنُونَ الأَتْقِيَاءُ لا تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ إلا بِالْحَسَنَاتِ لانَّ سَيِّئَاتِهِمْ مُحِيَتْ عَنْهُمْ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَإِنَّهَا تَشْهَدُ عَلَيْهِ بِمَا عَمِلَ مِنَ الْفُجُورِ وَالْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ وَلَيْسَ لَهُ حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ تَشْهَدُ الأَرْضُ لَهُ بِهَا، أَمَّا عُصَاةُ الْمُسْلِمِينَ فَهَؤُلاءِ قِسْمَانِ قِسْمٌ مِنْهُمْ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِمَا عَمِلُوا مِنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَقِسْمٌ مِنْهُمْ يَسْتُرُهُمُ اللَّهُ فَلا يُشْهِدُ الأَرْضَ عَلَيْهِمْ بِمَا عَمِلُوا عَلَى ظَهْرِهَا، هَذِهِ هِيَ أَخْبَارُ الأَرْضِ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارَهَا؟« قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: "فَإِنَّ أَخْبَارَهَا أَنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ وَأَمَةٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا تَقُولُ عَمِلَ كَذَا وَكَذَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا".
﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا(5)﴾ أَيْ أَنَّ الأَرْضَ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِوَحْيِّ اللَّهِ وَإِذْنِهِ لَهَا أَنْ تُخْبِرَ بِمَا عُمِلَ عَلَيْهَا، قَالَ الْبُخَارِيُّ: يُقَالُ: أَوْحَى لَهَا، وَأَوْحَى إِلَيْهَا، وَوَحَى لَهَا وَوَحَى إِلَيْهَا وَاحِدٌ، وَيُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ أَنَّ الأَرْضَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا إِدْرَاكًا فَيُعْلِمُهَا بِمَا كَانَ يُعْمَلُ عَلَى ظَهْرِهَا.
﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ(6)﴾ أَيْ أَنَّ النَّاسَ يَنْصَرِفُونَ مِنْ مَوْقِفِ الْحِسَابِ أَشْتَاتًا أَيْ فِرَقًا فَرِيقٌ يَأْخُذُ جِهَةَ الْيَمِينِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ الْكُفْرِ جِهَةَ الشِّمَالِ إِلَى النَّارِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ(6)﴾ أَيْ لِيُرَوْا جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنِ الْمَوْقِفِ فِرَقًا لِيَنْزِلُوا مَنَازِلَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعَائِشَةُ لِيَرَوْا بِفَتْحِ الْيَاءِ.
﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ(7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ(8)﴾ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسْعُودٍ: هِيَ أَحْكَمُ ءَايَةٍ فِي الْقُرْءَانِ قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَأَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَذَكَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمَّاهَا الآيَةَ الْفَاذَّةَ الْجَامِعَةَ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، قَالَ الْحَافِظُ: سَمَّاهَا الْجَامِعَةَ لِشُمُولِهَا لِجَمِيعِ الأَنْوَاعِ مِنْ طَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ، وَسَمَّاهَا فَاذَّةَ لانْفِرَادِهَا فِي مَعْنَاهَا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ السُّعَدَاءِ زِنَةَ نَمْلَةٍ صَغِيرَةٍ مِنَ الْخَيْرِ يَرَى ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ أَوْ يَرَى جَزَاءَهُ لانَّ الْكَافِرَ لا يَرَى خَيْرًا فِي الآخِرَةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ(8)﴾ أَيْ يَرَى جَزَاءَهُ وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ ﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ(8)﴾ عَلَى أَنَّ مَا فَوْقَ الذَّرَّةِ يَرَاهُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، وَفِي الْمُوَطَإِ أَنَّ مَالِكَ بنَ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ مِسْكِينًا اسْتَطْعَمَ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ وَبَيْنَ يَدَيْهَا عِنَبٌ فَقَالَتْ لإِنْسَانٍ: خُذْ حَبَّةً فَأَعْطِهِ إِيَّاهَا فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَيَعْجَبُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَتَعْجَبْ؟! كَمْ تَرَى فِي هَذِهِ الْحَبَّةِ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ؟! وَقَرَأَ أَبَّانُ عَنْ عَاصِمٍ يُرَه بِضَمِّ الْيَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْن.