مِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

بسم الله الرحمن الرحيم

وَأَمَّا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى جَمِيعِ إِخْوَانِهِ الأَنْبِيَاءِ وَسَلَّمَ: حَنِينُ الْجِذْعِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَنِدُ حِينَ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعِ نَخْلٍ فِي مَسْجِدِهِ قَبْلَ أَنْ يُعْمَلَ لَهُ الْمِنْبَرُ [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ]، فَلَمَّا عُمِلَ لَهُ الْمِنْبَرُ صَعِدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَبَدَأَ بِالْخُطْبَةِ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَنَّ الْجِذْعُ حَتَّى سَمِعَ حَنِينَهُ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْتَزَمَهُ أَيْ ضَمَّهُ وَاعْتَنَقَهُ فَسَكَتَ.
الشَّرْحُ هَذَا الْجِذْعُ الَّذِي حَنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُ خَلَقَ فِيهِ الإِدْرَاكَ وَالْمَحَبَّةَ وَالشَّوْقَ لِرَسُولِ اللَّهِ فَحَنَّ مِنْ شِدَّةِ الشَّوْقِ وَكَانَ هَذَا الْجِذْعُ فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ.
وَحَدِيثُ حَنِينِ الْجِذْعِ هَذَا مُتَوَاتِرٌ [انْظُرْ قَطْفَ الأَزْهَارِ الْمُتَنَاثِرَةِ] كَمَا أَنَّ الْقُرْءَانَ مُتَوَاتِرٌ وَهَذِهِ مِنْ أَعْجَبِ الْمُعْجِزَاتِ وَيَصِحُّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّهَا أَعْجَبُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى الَّذِي حَصَلَ لِلْمَسِيحِ لِأَنَّ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى يَتَضَمَّنُ رُجُوعَ هَؤُلاءِ الأَشْخَاصِ إِلَى مِثْلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتُوا، أَمَّا الْخَشَبُ فَهُوَ مِنَ الْجَمَادِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِإِرَادَةٍ فَهُوَ أَعْجَبُ، هَذَا مِنْ أَظْهَرِ الْمُعْجِزَاتِ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْطَاقُ الْعَجْمَاءِ أَيِ الْبَهِيمَةِ. رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ [فِي مُسْنَدِهِ] وَالْبَيْهَقِيُّ [فِي دَلائِلِ النُّبُوَّةِ] بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ [أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الإِسْنَادِ" وَوَافَقَهُ الذَّهَبِـيُّ] مِنْ حَدِيثِ يَعْلَى بنِ مُرَّةَ الثَّقَفِيِّ قَالَ: بَيْنَمَا نَسِيرُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ مَرَّ بِنَا بَعِيرٌ يُسْنَى عَلَيْهِ [أَيْ يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْمَاءُ] فَلَمَّا رَءَاهُ الْبَعِيرُ جَرْجَرَ [أَيْ أَصْدَرَ صَوْتًا مِنْ حَلْقِهِ] فَوَضَعَ جِرَانَهُ [أَيْ مُقَدَّمَ عُنُقِهِ] فَوَقَفَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ "أَيْنَ صَاحِبُ هَذَا الْبَعِيرِ" فَجَاءَهُ فَقَالَ "بِعْنِيهِ"، فَقَالَ بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّهُ لِأَهْلِ بَيْتٍ مَا لَهُمْ مَعِيشَةٌ غَيْرُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ "أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَمْرِهِ فَإِنَّهُ شَكَا كَثْرَةَ الْعَمَلِ وَقِلَّةَ الْعَلَفِ فَأَحْسِنُوا إِلَيْهِ".
وَأَخْرَجَ ابْنُ شَاهِينَ فِي دَلائِلِ النُّبُوَّةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ جَعْفَرٍ قَالَ أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ خَلْفَهُ فَدَخَلَ حَائِطَ [أَيْ بُسْتَانَ] رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَنَّ فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ ذِفْرَاتِهِ فَسَكَنَ [فِي النِّهَايَةِ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ: "الذِّفْرُ أَصْلُ أُذُنِ الْبَعِيرِ"]، ثُمَّ قَالَ "مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ"؟ فَجَاءَ فَتًى مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ هَذَا لِي، فَقَالَ "أَلا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ" [أَيْ تُتْعِبُهُ]. وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ كَمَا قَالَ الْمُحَدِّثُ مُرْتَضَى الزَّبِيدِيُّ فِي شَرْحِ إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ.
وَمِنْهَا تَفَجُّرُ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ بِالْمُشَاهَدَةِ فِي عِدَّةِ مَوَاطِنَ فِي مَشَاهِدَ عَظِيمَةٍ وَرَدَتْ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ يُفِيدُ مَجْمُوعُهَا الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ الْمُسْتَفَادَ مِنَ التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ [الَّذِي تَوَاتَرَ مَعْنَاهُ وَلَمْ يَتَّفِقْ رُوَاتُهُ عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ، انْظُرْ فَتْحَ الْبَارِي] وَلَمْ يَحْصُلْ لِغَيْرِ نَبِيِّنَا حَيْثُ نَبَعَ مِنْ عَظْمِهِ وَعَصَبِهِ وَلَحْمِهِ وَدَمِهِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ تَفَجُّرِ الْمِيَاهِ مِنَ الْحَجَرِ الَّذِي ضَرَبَهُ مُوسَى لِأَنَّ خُرُوجَ الْمَاءِ مِنَ الْحِجَارَةِ مَعْهُودٌ بِخِلافِهِ مِنْ بَيْنِ اللَّحْمِ وَالدَّمِ. رَوَاهُ جَابِرٌ وَأَنَسٌ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو لَيْلَى الأَنْصَارِيُّ وَأَبُو رَافِعٍ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ [فِي صَحِيحَيْهِمَا] مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَانَتْ صَلاةُ الْعَصْرِ فَالْتَمَسَ النَّاسُ الْوَضُوءَ [أَيْ طَلَبُوا مَاءَ الْوُضُوءِ] فَلَمْ يَجِدُوهُ فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَضُوءٍ فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ يَدَهُ الإِنَاءِ وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَتَوَضَّؤُوا مِنْهُ فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ أَصَابِعِهِ فَتَوَضَّأَ النَّاسُ حَتَّى تَوَضَّؤُوا مِنْ عِنْدِ ءَاخِرِهِمْ". وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ [فِي صَحِيحِهِ] قَالَ الرَّاوِي لِأَنَسٍ كَمْ كُنْتُمْ قَالَ "ثَلاثَمِائَةٍ".
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ [فِي صَحِيحَيْهِمَا] مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَيْضًا "عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ يَتَوَضَّأُ مِنْهَا فَجَهَشَ النَّاسُ [أَيْ أَقْبَلُوا إِلَيْهِ] فَقَالَ "مَا لَكُمْ"؟ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ عِنْدَنَا مَا نَتَوَضَّأُ بِهِ وَلا مَا نَشْرَبُهُ إِلَّا مَا بَيْنَ يَدَيْكَ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الرَّكْوَةِ فَجَعَلَ الْمَاءُ يَفُورُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ كَأَمْثَالِ الْعُيُونِ، فَشَرِبْنَا وَتَوَضَّأْنَا، فَقِيلَ كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً".
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمَاءَ كَانَ يَنْبُعُ مِنْ نَفْسِ اللَّحْمِ الْكَائِنِ فِي الأَصَابِعِ وَبِهِ صَرَّحَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ جَابِرٍ "فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَخْرُجُ" [رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ]، وَفِي رِوَايَةٍ "يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ" [انْظُرِ التَّخْرِيجَ السَّابِقَ فِي الصَّحِيحَيْنِ].
وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ رَدُّ عَيْنِ قَتَادَةَ بَعْدَ انْقِلاعِهَا، فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلائِلِ [دَلائِلِ النُّبُوَّةِ] عَنْ قَتَادَةَ بنِ النُّعْمَانِ أَنَّهُ أُصِيبَتْ عَيْنُهُ يَوْمَ بَدْرٍ فَسَالَتْ حَدَقَتُهُ عَلَى وَجْنَتِهِ فَأَرَادُوا أَنْ يَقْطَعُوهَا فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ "لا"، فَدَعَا بِهِ فَغَمَزَ حَدَقَتَهُ بِرَاحَتِهِ فَكَانَ لا يَدْرِي أَيَّ عَيْنَيْهِ أُصِيبَتْ اهـ. وَفِي هَاتَيْنِ الْمُعْجِزَتَيْنِ قَالَ بَعْضُ الْمَادِحِينَ شِعْرًا مِنَ الْبَسِيطِ:
إِنْ كَانَ مُوسَى سَقَى الأَسْبَاطَ مِنْ حَجَرٍ ***** فَإِنَّ فِي الْكَفِّ مَعْنًى لَيْسَ فِي الْحَجَرِ
إِنْ كَانَ عِيسَى بَرَا الأَعْمَى بِدَعْوَتِهِ [بَرَا أَصْلُهُ بَرَأَ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ فِعْلٌ لازِمٌ، ثُمَّ تُرِكَتِ الْهَمْزَةُ لِلْوَزْنِ، وَالْمَعْنَى تَعَافَى الأَعْمَى بِدَعْوَةِ الْمَسِيحِ] فَكَمْ بِرَاحَتِهِ قَدْ رَدَّ مِنْ بَصَرِ
الشَّرْحُ خُرُوجُ الْمَاءِ بَيْنَ أَصَابِعِ النَّبِيِّ نَظِيرُ مَا أَعْطَى اللَّهُ لِمُوسَى، فَإِنَّهُ لَمَّا جَاءَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مَعَ عَدَدٍ كَبِيرٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُوَ قَاصِدٌ الْقُدْسَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْقُدْسِ بَقِيَ زَمَانًا فِي أَرْضٍ هِيَ قَبْلَ الْقُدْسِ بِمَسَافَةٍ قَصِيرَةٍ هُنَاكَ احْتَاجُوا إِلَى الْمَاءِ فِي تِلْكَ الأَرْضِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى ﴿أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/160] فَضَرَبَ الْحَجَرَ بِعَصَاهُ فَانْبَجَسَتْ مِنَ الْحَجَرِ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، فَوَزَّعَ مُوسَى هَذِهِ الْعُيُونَ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْ هَذَا الْحَجَرِ الَّذِي ضَرَبَهُ بِعَصَاهُ عَلَى الأَسْبَاطِ أَيْ عَلَى الْقَبَائِلِ الَّتِي كَانَتْ مَعَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ يَعْقُوبَ وَهُوَ إِسْرَائِيلُ، فَصَارُوا يَأْخُذُونَ مِنْ هَذَا الْحَجَرِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَاءِ، ثُمَّ يُمْسِكُ هَذَا الْحَجَرَ ثُمَّ يُفَجِّرُ مَاءً بَعْدَ ذَلِكَ أَيْضًا ثُمَّ يُمْسِكُ وَهَكَذَا ظَلُّوا زَمَانًا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْبِيحُ الطَّعَامِ فِي يَدِهِ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ [فِي صَحِيحِهِ] مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ "كُنَّا نَأْكُلُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّعَامَ وَنَحْنُ نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ". وَهَذِهِ الْمُعْجِزَةُ أَعْجَبُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى الَّذِي هُوَ إِحْدَى مُعْجِزَاتِ الْمَسِيحِ.
وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ.
الإِسْرَاءُ ثَبَتَ بِنَصِّ الْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ [أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ] فَيَجِبُ الإِيـمَانُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْرَى اللَّهُ بِهِ لَيْلًا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى.
الشَّرْحُ أَجْمَعَ أَهْلُ الْحَقِّ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَمُحَدِّثِينَ وَمُتَكَلِّمِينَ وَمُفَسِّرِينَ وَعُلَمَاءَ وَفُقَهَاءَ عَلَى أَنَّ الإِسْرَاءَ كَانَ بِالْجَسَدِ وَالرُّوحِ وَفِي الْيَقَظَةِ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَأَنَسٍ وَعُمَرَ وَحُذَيْفَةَ وَغَيْرِهِمْ [انْظُرِ السِّرَاجَ الْوَهَّاجَ فِي الإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ]، وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ إِنَّ مَنْ أَنْكَرَ الإِسْرَاءَ فَقَدْ كَذَّبَ الْقُرْءَانَ وَمَنْ كَذَّبَ الْقُرْءَانَ فَقَدْ كَفَرَ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَمَّا الْمِعْرَاجُ فَقَدْ ثَبَتَ بِنَصِّ الأَحَادِيثِ [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ]. وَأَمَّا الْقُرْءَانُ فَلَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ نَصًّا صَرِيحًا لا يَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا لَكِنَّهُ وَرَدَ فِيهِ مَا يَكَادُ يَكُونُ نَصًّا صَرِيحًا.
الشَّرْحُ الْمِعْرَاجُ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْءَانِ بِنَصٍّ صَرِيحٍ لا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْقُرْءَانِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمِعْرَاجِ لَكِنَّهُ لَيْسَ نَصًّا صَرِيحًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى﴾ فَمَنْ فَهِمَ أَنَّ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى فِي السَّمَاءِ [أَيْ وَأَنَّ النَّبِـيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْدَهَا يَقَظَةً] وَمَعَ ذَلِكَ أَنْكَرَ الْمِعْرَاجَ كَفَرَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ لا يَعْرِفُ وَلَمْ يَفْهَمْ ذَلِكَ مِنَ الْقُرْءَانِ وَلا اعْتَقَدَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ هَذَا اعْتِقَادُهُمْ فَلا يَكْفُرُ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَالإِسْرَاءُ قَدْ جَاءَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَا﴾ [سُورَةَ الإِسْرَاء/1].
الشَّرْحُ السَّبْحُ فِي اللُّغَةِ التَّبَاعُدُ [انْظُرْ لِسَانَ الْعَرَبِ]، وَمَعْنَى سَبِّحِ اللَّهَ تَعَالَى أَيْ بَعِّدْهُ وَنَزِّهْهُ عَمَّا لا يَلِيقُ بِهِ مِنْ شَبَهِ الْمَخْلُوقَاتِ وَصِفَاتِهِمْ كَالْحَجْمِ اللَّطِيفِ وَالْحَجْمِ الْكَثِيفِ وَصِفَاتِهِمَا كَالأَلْوَانِ وَالْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ وَالْمَقَادِيرِ كَالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَالتَّحَيُّزِ فِي الْجِهَةِ وَالْمَكَانِ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/11] فَلَوْ كَانَ لَهُ حَجْمٌ كَبِيرٌ أَوْ صَغِيرٌ لَكَانَ لَهُ أَمْثَالٌ كَثِيرٌ.
وَقَوْلُهُ ﴿بِعَبْدِهِ﴾ أَيْ بِمُحَمَّدٍ، قِيلَ لَمَّا وَصَلَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ وَالْمَرَاتِبِ الرَّفِيعَةِ فِي الْمِعْرَاجِ أَوْحَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِلَيْهِ: يَا مُحَمَّدُ بِمَاذَا أُشَرِّفُكَ، قَالَ: بِأَنْ تَنْسُبَنِي إِلَى نَفْسِكَ بِالْعُبُودِيَّةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ قَوْلَهُ ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾، مَعْنَاهُ أَنَّ هَذِهِ النِّسْبَةَ نِسْبَةَ النَّبِيِّ إِلَى رَبِّهِ بِوَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ غَايَةُ الشَّرَفِ لِلرَّسُولِ لِأَنَّ عِبَادَ اللَّهِ كَثِيرٌ فَلِمَ خَصَّهُ فِي هَذِهِ الآيَةِ بِالذِّكْرِ، ذَلِكَ لِتَخْصِيصِهِ بِالشَّرَفِ الأَعْظَمِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿لَيْلًا﴾ نَصْبٌ عَلَى الظَّرْفِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَاذَا أَتْبَعَ بِذِكْرِ اللَّيْلِ؟ قُلْنَا: أَرَادَ بِقَوْلِهِ ﴿لَيْلًا﴾ بِلَفْظِ التَّأْكِيدِ تَقْلِيلَ مُدَّةِ الإِسْرَاءِ فَإِنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الشَّامِ.
وَأَمَّا الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ فَهُوَ هَذَا الَّذِي بِمَكَّةَ فَقَدْ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِحُرْمَتِهِ أَيْ لِشَرَفِهِ عَلَى سَائِرِ الْمَسَاجِدِ لِأَنَّهُ خُصَّ بِأَحْكَامٍ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ، وَمُضَاعَفَةُ الأَجْرِ فِيهِ أَكْثَرُ مِمَّا فِي غَيْرِهِ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا.
وَأَمَّا الْمَسْجِدُ الأَقْصَى فَقَدْ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ قِيلَ لِأَنَّهُ مَقَرُّ الأَنْبِيَاءِ وَمَهْبِطُ الْمَلائِكَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [سُورَةَ الصَّافَّات/99] أَيْ إِلَى حَيْثُ وَجَّهَنِي رَبِّي إِلَى مَكَانٍ أَمَرَنِي اللَّهُ أَنْ أَذْهَبَ إِلَيْهِ، أَيْ إِلَى بَرِّ الشَّامِ لِأَنَّهُ عَرَفَ بِتَعْرِيفِ اللَّهِ إِيَّاهُ أَنَّ الشَّامَ مَهْبِطُ الرَّحَمَاتِ وَأَنَّ أَكْثَرَ الْوَحْيِ يَكُونُ بِالشَّامِ وَأَنَّ أَكْثَرَ الأَنْبِيَاءِ كَانُوا بِهَا، وَلِأَنَّ فِلَسْطِينَ لَيْسَتْ تَحْتَ حُكْمِ النُّمْرُودِ، فَيَسْتَطِيعُ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ فِيهَا مِنْ غَيْرِ تَشْوِيشٍ وَمِنْ غَيْرِ أَذًى يَلْحَقُهُ، فَانْتَقَلَ مِنْ بَلَدِهِ الْعِرَاقِ إِلَى فِلَسْطِينَ ثُمَّ بَعْدَ زَمَانٍ ذَهَبَ إِلَى مَكَّةَ وَتَرَكَ سُرِّيَّتَهُ هَاجَرَ وَابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ هُنَاكَ وَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَرْزُقَ أَهْلَ مَكَّةَ مِنَ الثَّمَرَاتِ فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ لِأَنَّ مَكَّةَ وَادٍ لَيْسَ بِهَا زَرْعٌ، فَأَمَرَ اللَّهُ جِبْرِيلَ أَنْ يَنْقُلَ جَبَلَ الطَّائِفِ مِنْ بَرِّ الشَّامِ إِلَى هُنَاكَ فَقَلَعَهُ جِبْرِيلُ وَوَضَعَهُ هُنَاكَ،
وَهَذَا الْجَبَلُ فِيهِ عِنَبٌ مِنْ أَجْوَدِ الْعِنَبِ وَفِيهِ الرُّمَّانُ وَفِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ وَهَوَاؤُهُ لَطِيفٌ جِدًّا وَهُوَ مُصْطَافُ أَهْلِ مَكَّةَ، ذَكَرَ ذَلِكَ الأَزْرَقِيُّ فِي كِتَابِ أَخْبَارِ مَكَّةَ وَهُوَ كِتَابٌ جَلِيلُ الْفَوَائِدِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَا﴾ أَيْ مَا رَأَى تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْعَجَائِبِ وَالآيَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ.
وَقَدْ أَسْرَى اللَّهُ تَعَالَى بِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ مِنْ مَكَّةَ لَيْلًا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَرَّ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَى أَرْضِ الْمَدِينَةِ وَهَذَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ إِلَيْهَا. وَهُوَ بِمَكَّةَ جَاءَهُ جِبْرِيلُ لَيْلًا فَفَتَحَ سَقْفَ بَيْتِهِ وَلَمْ يَهْبِطْ عَلَيْهِمْ لا تُرَابٌ وَلا حَجَرٌ وَلا شَىْءٌ وَكَانَ النَّبِيُّ نَائِمًا حِينَهَا فِي بَيْتِ بِنْتِ عَمِّهِ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ أُخْتِ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ فِي حَيٍّ اسْمُهُ أَجْيَاد بَيْنَ عَمِّهِ حَمْزَةَ وَجَعْفَرِ بنِ أَبِي طَالِبٍ فَأَيْقَظَهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ ذَهَبَ بِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ثُمَّ أَرْكَبَهُ عَلَى الْبُرَاقِ خَلْفَهُ وَانْطَلَقَ بِهِ فَوَصَلا إِلَى أَرْضِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: انْزِلْ فَنَزَلَ فَقَالَ لَهُ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ بِطُورِ سِينَاءَ حَيْثُ كَانَ مُوسَى لَمَّا سَمِعَ كَلامَ اللَّهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ فَوَصَلَ إِلَى مَدْيَنَ وَهِيَ بَلَدُ نَبِيِّ اللَّهِ شُعَيْبٍ فَقَالَ لَهُ انْزِلْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ فَفَعَلَ، ثُمَّ مِثْلَ ذَلِكَ فَعَلَ فِي بَيْتِ لَحْمٍ حَيْثُ وُلِدَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَلَمَّا وَصَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ صَلَّى بِالأَنْبِيَاءِ إِمَامًا، اللَّهُ جَمَعَهُمْ لَهُ هُنَاكَ كُلَّهُمْ تَشْرِيفًا لَهُ، بَعَثَهُمُ اللَّهُ وَقَدْ كَانُوا مَاتُوا قَبْلَ ذَلِكَ إِلَّا عِيسَى فَلَمْ يَكُنْ مِمَّنْ مَاتَ بَلْ كَانَ فِي السَّمَاءِ حَيًّا. ثُمَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى زَادَ نَبِيَّهُ تَشْرِيفًا بِأَنْ رَفَعَ ثَمَانِيَةً مِنَ الأَنْبِيَاءِ هُمْ ءَادَمُ وَعِيسَى وَيَحْيَى وَيُوسُفُ وَإِدْرِيسُ وَهَارُونُ وَمُوسَى وَإِبْرَاهِيمُ إِلَى السَّمَوَاتِ فَاسْتَقْبَلُوهُ فِي السَّمَوَاتِ كَمَا يَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ.
ثُمَّ إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ كَانَ قَدْ أَخَذَ النَّبِيَّ قَبْلَ ذَلِكَ وَوَصَلَ بِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ حَيْثُ شَقَّ صَدْرَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحِسَّ بِأَلَمٍ وَغُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيـمَانًا فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ فِيهِ سِرَّ الْحِكْمَةِ وَالإِيـمَانِ ثُمَّ أَعَادَهُ مِثْلَمَا كَانَ وَذَلِكَ حَتَّى يَتَحَمَّلَ مُشَاهَدَةَ عَجَائِبِ خَلْقِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ شُقَّ صَدْرُ النَّبِيِّ لَمَّا كَانَ صَغِيرًا وَأُخْرِجَ مِنْ قَلْبِهِ عَلَقَةٌ سَوْدَاءُ هِيَ حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنِ ابْنِ ءَادَمَ حَتَّى يَظَلَّ طُولَ عُمُرِهِ مَحْفُوظًا مِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ [قَالَ السُّبْكِيُّ: وَتِلْكَ الْعَلَقَةُ خُلِقَتْ فِي قُلُوبِ الْبَشَرِ قَابِلَةً لِمَا يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ فَبِإِزَالَتِهَا مِنْ قَلْبِهِ لَمْ يَبْقَ فِيهِ مَحَلٌّ قَابِلٌ لإِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ، قَالَهُ الْمُنَاوِيُّ فِي الْعُجَالَةِ شَرْحِ أَلْفِيَّةِ السِّيرَةِ].
وَمِنْ عَجَائِبِ مَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الإِسْرَاءِ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ [فِي دَلائِلِ النُّبُوَّةِ] وَغَيْرُهُ [الْمَقْدِسِيُّ فِي الأَحَادِيثِ الْمُخْتَارَةِ] مِنْ أَنَّهُ فِي أَثْنَاءِ سَيْرِهِ مَعَ جِبْرِيلَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَأَى الدُّنْيَا بِصُورَةِ عَجُوزٍ، وَرَأَى إِبْلِيسَ مُتَنَحِّيًا عَنِ الطَّرِيقِ، وَرَأَى الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَزْرَعُونَ وَيَحْصُدُونَ فِي يَوْمَيْنِ، وَرَأَى خُطَبَاءَ الْفِتْنَةِ الَّذِينَ يَدْعُونَ لِلضَّلالِ وَالْفَسَادِ تُقْرَضُ أَلْسِنَتُهُمْ وَشِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ أَيْ بِمِقَصَّاتٍ مِنْ نَارٍ.
وَرَأَى كَيْفَ يَكُونُ حَالُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ الْفَاسِدَةِ، وَحَالُ الَّذِينَ لا يُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ، وَحَالُ تَارِكِي الصَّلاةِ، وَالزُّنَاةِ، وَالَّذِينَ لا يُؤَدُّونَ الأَمَانَةَ، وَءَاكِلِي الرِّبَا، وَءَاكِلِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَشَارِبِي الْخَمْرِ، وَالَّذِينَ يَمْشُونَ بِالْغِيبَةِ، وَشَمَّ رَائِحَةً طَيِّبَةً مِنْ قَبْرِ مَاشِطَةَ بِنْتِ فِرْعَوْنَ وَكَانَتْ مُؤْمِنَةً صَالِحَةً وَجَاءَ فِي قِصَّتِهَا أَنَّهَا بَيْنَمَا كَانَتْ تَمْشِطُ رَأْسَ بِنْتِ فِرْعَوْنَ سَقَطَ الْمِشْطُ مِنْ يَدِهَا فَقَالَتْ: بِسْمِ اللَّهِ، فَسَأَلَتْهَا بِنْتُ فِرْعَوْنَ: أَوَلَكِ رَبٌّ إِلَهٌ غَيْرُ أَبِي، فَقَالَتِ الْمَاشِطَةُ: رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ هُوَ اللَّهُ، فَقَالَتْ: أَأُخْبِرُ أَبِي بِذَلِكَ، قَالَتْ: أَخْبِرِيهِ، فَأَخْبَرَتْهُ فَطَلَبَ مِنْهَا الرُّجُوعَ عَنْ دَينِهَا فَأَبَتْ، فَحَمَّى لَهَا مَاءً حَتَّى صَارَ شَدِيدَ الْحَرَارَةِ مُتَنَاهِيًا فِي الْحَرَارَةِ فَأَلْقَى فِيهِ أَوْلادَهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، ثُمَّ لَمَّا جَاءَ الدَّوْرُ إِلَى طِفْلٍ كَانَتْ تُرْضِعُهُ تَقَاعَسَتْ أَيْ صَارَ فِيهَا كَأَنَّهَا تَتَرَاجَعُ ازْدَادَ خَوْفُهَا وَانْزِعَاجُهَا وَقَلَقُهَا فَانْطَقَ اللَّهُ تَعَالَى الرَّضِيعَ فَقَالَ: "يَا أُمَّاهُ اصْبِرِي فَإِنَّ عَذَابَ الآخِرَةِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا فَلا تَتَقَاعَسِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ" فَتَجَالَدَتْ فَرَمَى الطِّفْلَ فَقَالَتْ لِفِرْعَوْنَ: لِي عِنْدَكَ طَلَبٌ أَنْ تَجْمَعَ الْعِظَامَ وَتَدْفِنَهَا فَقَالَ: لَكِ ذَلِكَ، ثُمَّ أَلْقَاهَا فِيهِ، رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ [فِي صَحِيحِهِ] وَصَحَّحَهُ.
ثُمَّ نُصِبَ الْمِعْرَاجُ وَالْمِعْرَاجُ مِرْقَاةٌ شِبْهُ السُّلَّمِ فَعَرَجَ بِهَا النَّبِيُّ إِلَى السَّمَاءِ وَهَذِهِ الْمِرْقَاةُ دَرَجَةٌ مِنْهَا مِنْ فِضَّةٍ وَالأُخْرَى مِنْ ذَهَبٍ، ثُمَّ اسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ بَابَ السَّمَاءِ فَقِيلَ مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ سُؤَالُ الْمَلَكِ عَنْ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ بِقَوْلِهِ: "وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ" لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ عَلِمَ بِبِعْثَتِهِ بَلْ كَانَ أَمْرُ مَبْعَثِهِ قَدِ اشْتَهَرَ فِي الْمَلَأِ الأَعْلَى، قِيلَ إِنَّمَا هُوَ لِزِيَادَةِ التَّأَكُّدِ، وَقِيلَ إِنَّ السُّؤَالَ مَعْنَاهُ هَلْ بُعِثَ إِلَيْهِ لِلْعُرُوجِ. فَرَأَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّمَاءِ الأُولَى ءَادَمَ، وَفِي الثَّانِيَةِ رَأَى عِيسَى وَيَحْيَى، وَفِي الثَّالِثَةِ رَأَى يُوسُفَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ فِي وَصْفِهِ يُوسُفَ: "قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ [فِي صَحِيحِهِ] يَعْنِي نِصْفَ الْجَمَالِ الَّذِي وُزِّعَ بَيْنَ الْبَشَرِ، وَفِي الرَّابِعَةِ رَأَى إِدْرِيسَ، وَفِي الْخَامِسَةِ رَأَى هَارُونَ، وَفِي السَّادِسَةِ رَأَى مُوسَى، وَفِي السَّابِعَةِ رَأَى إِبْرَاهِيمَ وَكَانَ يُشْبِهُ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا مِنْ حَيْثُ الْخِلْقَةُ. ثُمَّ رَأَى سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى وَهِيَ شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ وَبِهَا مِنَ الْحُسْنِ مَا لا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَنْ يَصِفَهُ، مِنْ حُسْنِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ وَجَدَهَا يَغْشَاهَا فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْرَاقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ وَثِمَارُهَا كَالْقِلالِ وَالْقِلالُ جَمْعُ قُلَّةٍ وَهِيَ الْجَرَّةُ الْعَظِيمَةُ، أَصْلُهَا فِي السَّادِسَةِ وَتَمْتَدُّ إِلَى السَّابِعَةِ وَإِلَى مَا فَوْقَ ذَلِكَ، ثُمَّ سَارَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ وَحْدَهُ حَتَّى وَصَلَ إِلَى مَكَانٍ يَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلامِ الَّتِي تَنْسَخُ بِهَا الْمَلائِكَةُ فِي صُحُفِهَا مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، ثُمَّ هُنَاكَ أَزَالَ اللَّهُ عَنْهُ الْحِجَابَ الَّذِي يَمْنَعُ مِنْ سَمَاعِ كَلامِ اللَّهِ الَّذِي لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا فَأَسْمَعَهُ كَلامَهُ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ ﴿وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رُؤْيَةً مَنَامِيَّةً، قُلْنَا هَذَا تَأْوِيلٌ وَلا يَسُوغُ تَأْوِيلُ النَّصِّ أَيْ إِخْرَاجُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ لِغَيْرِ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ قَاطِعٍ أَوْ سَمْعِيٍّ ثَابِتٍ كَمَا قَالَهُ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ" وَغَيْرُهُ مِنَ الأُصُولِيِّينَ. وَلَيْسَ هُنَا دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ.
الشَّرْحُ رَأَى مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَى صُورَتِهِ الأَصْلِيَّةِ مَرَّةً أُخْرَى أَيْ مَرَّةً ثَانِيَةً عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَهَذَا فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمِعْرَاجِ لِأَنَّ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى أَصْلُهَا فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ وَتَمْتَدُّ إِلَى السَّابِعَةِ وَإِلَى مَا فَوْقَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْقُرْءَانَ لَمْ يَنُصَّ عَلَى الْمِعْرَاجِ نَصًّا صَرِيحًا لا يَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا لِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَنْ أَنْكَرَ الإِسْرَاءَ كَفَرَ وَمَنْ أَنْكَرَ الْمِعْرَاجَ لا يَكْفُرُ، لِأَنَّ دَلِيلَ الْمِعْرَاجِ لَيْسَ كَدَلِيلِ الإِسْرَاءِ دَلِيلُ الإِسْرَاءِ أَقْوَى. فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ ﴿وَلَقَدْ رَءَاهُ﴾ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رُؤْيَةً مَنَامِيَّةً قُلْنَا: هَذَا تَأْوِيلٌ وَلا يَجُوزُ تَأْوِيلُ النَّصِّ أَيْ إِخْرَاجُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ لِغَيْرِ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ قَاطِعٍ أَوْ سَمْعِيٍّ ثَابِتٍ،
وَالسَّمْعِيُّ مَا كَانَ قُرْءَانًا أَوْ حَدِيثًا لِأَنَّ طَرِيقَهُ السَّمْعُ، أَمَّا الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ فَيَكُونُ بِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ بِالْعَقْلِ. فَلا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُؤَوِّلَ ءَايَةً أَوْ حَدِيثًا إِلَّا بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ قَطْعِيٍّ أَوْ بِدَلِيلٍ سَمْعِيٍّ ثَابِتٍ أَيْ صَحِيحٍ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ [فِي صَحِيحِهِ] عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ وَهُوَ دَابَّةٌ [مِنْ دَوَابِّ الْجَنَّةِ] أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ [أَيْ حَيْثُ يَصِلُ نَظَرُهُ يَضَعُ رِجْلَهُ، كُلُّ خَطْوَةٍ مِنْ خَطَوَاتِهِ تَسَعُ إِلَى مَدِّ الْبَصَرِ، أَمْرُ الْبُرَاقِ مِنَ الْعَجَائِبِ الْمُخَالِفَةِ لِلْعَادَةِ]، قَالَ: فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهَا الأَنْبِيَاءُ، قَالَ: ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ [أَيْ مِنْ خَمْرِ الْجَنَّةِ اللَّذِيذِ الَّذِي لا يُسْكِرُ وَلا يُصْدِعُ الرَّأْسَ] وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ [أَيْ حَلِيبٍ] فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ "اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ" [أَيْ تَمَسَّكْتَ بِالدِّينِ] قَالَ: ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ" إِلَى ءَاخِرِ الْحَدِيثِ.
وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الإِسْرَاءَ وَالْمِعْرَاجَ كَانَا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ يَقَظَةً إِذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّهُ وَصَلَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ نَامَ.
أَمَّا رُؤْيَةُ النَّبِيِّ لِرَبِّهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ فَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ [فِي فَتْحِ الْبَارِي] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ مَرَّتَيْنِ".
وَرَوَى ابْنُ خُزَيـْمَةَ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ [وَعَزَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ لِابْنِ خُزَيْـمَةَ وَقَوَّى إِسْنَادَهُ، انْظُرْ فَتْحَ الْبَارِي]: "رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ" [هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي سُنَنِهِ].
وَالْمُرَادُ أَنَّهُ رَءَاهُ بِقَلْبِهِ بِدَلِيلِ حَدِيثِ مُسْلِمٍ [فِي صَحِيحِهِ] مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ [سُورَةَ النَّجْم]، قَالَ "رَأَى رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ".
تَنْبِيهٌ قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ "الصَّحِيحُ أَنَّ النَّبِيَّ لَمْ يَرَ رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ"، وَمُرَادُهُ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ بِعَيْنِهِ إِذْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَأَيْتُهُ بِعَيْنِي وَلا أَنَّ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعِينَ أَوْ أَتْبَاعِهِمْ قَالَ رَءَاهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ.
الشَّرْحُ اللَّهُ تَعَالَى أَزَالَ عَنْ قَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحِجَابَ فَرَأَى اللَّهَ تَعَالَى بِقَلْبِهِ أَيْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ قُوَّةَ الرُّؤْيَةِ وَالنَّظَرِ بِقَلْبِهِ فَرَأَى الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَرَهُ بِعَيْنِهِ [أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ] لِأَنَّ اللَّهَ لا يُرَى فِي الدُّنْيَا بِالْعَيْنِ وَلَوْ كَانَ يَرَاهُ أَحَدٌ بِالْعَيْنِ لَكَانَ رَءَاهُ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ [فِي صَحِيحِهِ]، كَمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى لِسَيِّدِنَا مُوسَى ﴿لَنْ تَرَانِي﴾. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ فَقَالَ "سُبْحَانَ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ رَأَيْتُهُ بِفُؤَادِي وَمَا رَأَيْتُهُ بِعَيْنِي" وَهَذَا ضَعِيفٌ لَمْ يَثْبُتْ. وَقَالَ الإِمَامُ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ [انْظُرْ فَتْحَ الْبَارِي]: "لا يُرَى الْبَاقِي بِالْعَيْنِ الْفَانِيَةِ وَإِنَّمَا يُرَى بِالْعَيْنِ الْبَاقِيَةِ فِي الآخِرَةِ" أَيْ بِعُيُونَ أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّتِـي لا يَلْحَقُهَا الْفَنَاءُ لِأَنَّهُمْ لا يَمُوتُونَ أَبَدَ الآبِدِينَ.
وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ فَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ وَمَنْ قَالَهُ لا يُبَدَّعُ وَلا يُفَسَّقُ لِأَنَّهُ قَالَ بِهِ جَمْعٌ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ [انْظُرْ شَرْحَ صَحِيحٍ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ]، فَمَنْ قَالَ بِذَلِكَ يُقَالُ لَهُ: هَذَا الْقَوْلُ مَرْجُوحٌ وَالْقَوْلُ الرَّاجِحُ أَنَّهُ رَءَاهُ بِفُؤَادِهِ أَيْ بِقَلْبِهِ لا بِعَيْنَيْهِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "رَءَاهُ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَرَهُ بِعَيْنِهِ" [انْظُرْ فَتْحَ الْبَارِي]، وَنَحْنُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ.