بيان أنواع البدعة وحكمها - الجزء الثالث

بدعة الهدى

اعلم أنّ البدعة لغة ما أُحدث على غير مثال سابق، وفي الشرع المحدث الذي لم ينصَّ عليه القرءان ولا جاء في السنّة. قال ابن العربي: "ليست البدعة والمحدث مذمومين للفظ بدعة ومحدث ولا معنييهما، وإنما يذم من البدعة ما يخالف السنّة، ويذمّ من المحدثات ما دعا إلى الضلالة". ا.هـ.

سن خبيب ركعتين عند القتل

ومما يدلّ على أنه ليس كل ما أحدث بعد رسول الله أو في حياته مما لم ينصّ عليه بدعة ضلالة إحداث خبيب بن عدي ركعتين عندما قُدّم للقتل، كما جاء ذلك في صحيح البخاري، ففيه ما نصّه:
"حدّثني إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام بن يوسف، عن مَعْمَر، عن الزُّهْرِي، عن عمرو بن أبي سفيان الثقفي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سريةً عينًا وأمّر عليهم عاصم بن ثابت - وهو جدّ عاصم بن عمر بن الخطّاب - فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عُسْفان ومكة ذُكِرُوا لحيّ من هُذيل يقال لهم بنو لحيان فتبعوهم بقريب من مائة رام، فاقتصوا ءاثارهم حتى أتوا منزلاً نزلوه فوجدوا فيه نوى تمر تزوّدوه من المدينة فقالوا: هذا تمر يثرب، فتبعوا ءاثارهم حتى لحقوهم، فلما انتهى عاصم واصحابه لجؤوا إلى فَدْفَد، وجاء القوم فأحاطوا بهم فقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلاً. فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمّة كافر اللّهمّ أخبر عنّا نبيّك، فقاتلوهم حتى قتلوا عاصمًا في سبعة نفر بالنبل، وبقي خبيب وزيد ورجل ءاخر فأعطَوْهم العهد والميثاق، فلما أعطوهم العهد والميثاق نزلوا إليهم، فلما استمكنوا منهم حلّوا أوتار قسيّهم فربطوهم بها، فقال الرجل الثالث الذي معهما هذا أول الغدر، فأبى أن يصحبهم فجرّروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة، فاشترى خبيبًا بنو الحارث بن عامر بن نوفل، وكان خبيبٌ هو قتل الحبرث يوم بدر فمكث عندهم أسيرًا حتى إذا أجمعوا قتله استعار موسى من بعض بنات الحارث ليستحدّ بها فأعارته، قالت: فغفلت عن صبي لي فدرج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه، فلما رأيته فزعت فزعة عرف ذاك منّي وفي يده الموسى فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذاك إن شاء الله، وكانت تقول: ما رأيت أسيرًا قطّ خيرًا من خبيب، لقد رأيته يأكل من قِطْفِ عنب وما بمكّة يومئذ ثمرة، وإنه لموثق في الحديد وما كان إلا رزقًا رزقه الله، فخرجوا به من الحرم ليقتلوه، فقال: دعوني أصلّي ركعتين، ثم انصرف إليهم فقال: لولا أن تروا أن ما بي جزع من الموت لزدت، فكان أوّل مَن سنّ الركعتين عند القتل هو، ثم قال: اللّهمّ أحصهم عددًا، ثم قال:

فلستُ أبالي حِينَ أُقْتَلُ مُسلمًا ***** عَلَى أيّ شقّ كان لله مَصْرَعِي
وذلك في ذاتِ الإِلهِ وإِنْ يَشَأْ ***** يُباركْ على أوْصالِ شِلوٍ مُمَزَّعِ

ثم قام إليه عُقبة بن الحبرث فقتله. وبعثت قريش إلى عاصم ليُؤتوا بشىء من جسده يعرفونه، وكان عاصم قتل عظيمًا من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليه مثل الظُّلَّةِ من الدَّبْر فحمتْهُ من رسلهم، فلم يقدروا منه على شىء" ا.هـ.

نقط يحيى بن يعمر المصاحف

ومما يدلّ أيضًا على ذلك أن الصحابة الذين كتبوا الوحي الذي أملاه عليهم الرسول، كانوا يكتبون الباء والتاء ونحوهما بلا نقط، ثم عثمان بن عفّان لما كتب ستة مصاحف وأرسل ببعضها إلى الآفاق إلى البصرة ومكّة وغيرهما واستبقى عنده نسخة كانت غير منقوطة. وإنما أوّل مَن نقط المصاحف رجل من التابعين من أهل العلم والفضل والتقوى، يقال له يحيى بن يعمر.

ففي كتاب المصاحف لابن أبي داود السجستاني ما نصّه: "حدّثنا عبد الله، حدّثنا محمّد بن عبد الله المخزوميُّ، حدّثنا أحمد بن نصر بن مالك، حدّثنا الحسين بن الوليد، عن هارون بن موسى قال: أوّل مَن نقط المصاحف يحيى بن يعمر" ا.هـ. وكان قبل ذلك يكتب بلا نقط، فلما فعل هذا لم ينكر العلماء عليه ذلك، مع أن الرسول ما أمر بنقط المصحف، فمن قال كل شىء لم يُفعل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعة ضلالة فليبدأ بكشط النقط من المصاحف حتى ابن تيمية زعيمهم ذكر في فتاويه ما نصه: "قيل: لا يكره ذلك لأنه بدعة، وقيل: لا يكره للحاجة إليه، وقيل: يكره النقط دون الشكل لبيان الإعراب، والصحيح أنه لا بأس به" اهـ.

زيادة عثمان رضي الله عنه أذانًا ثانيًا يوم الجمعة

روى البخاري في صحيحه قال: "حدّثنا ءادم قال: حدّثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الجمعة أوّلُه إذا جلس الإِمام على المنبر، على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما كان عثمان رضي الله عنه وكثر الناس زادَ النداءَ الثالثَ على الزَّوْراء".

قال الحافظ في شرح هذا الحديث: "وله في رواية وكيع عن ابن أبي ذئب: كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر أذانين يوم الجمعة، قال ابن خزيمة: قوله: "أذانين" يريد الأذان والإِقامة، يعني تغليبًا، أو لاشتراكهما في الإِعلام كما تقدّم في أبواب الأذان" ا.هـ.

ثمَّ يقول: "قوله: "زاد النداء الثالث" في رواية وكيع عن ابن أبي ذئب فأمر عثمان بالأذان الأول، ونحوه للشافعيّ من هذا الوجه، ولا منافاة بينهما لأنه باعتبار كونه مزيدًا يسمّى ثالثًا وباعتبار كونه جُعل مقدّمًا على الأذان والإِقامة يسمّى أولاً، ولفظ رواية عقيل الآتية بعد بابين: "أنّ التأذين بالثاني أمر به عثمان" وتسميته ثانيًا أيضًا متوجه بالنظر إلى الأذان الحقيقيّ لا الإِقامة". ا.هـ.

وهذه بدعة أحدثها عثمان رضي الله عنه، فهل يقتصر هؤلاء الذين يقولون لا تكون البدعة إلا بدعة ضلالة على أذان واحد يوم الجمعة كما كان الأمر أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم أم يؤذّنون أذانين كما فعل عثمان، فما هذا التناقض بين فعلهم وقولهم.

< الصفحة التالية -3- الصفحة السابقة >