الأولياء وكراماتهم

بسم الله الرحمن الرحيم

ومما يجب الإيمان به وجود الأولياء وكراماتهم. أما الولي فهو المؤمن المستقيم بطاعة الله. قال الله تعالى: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ [سورة يونس]. وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [سورة فصلت] . وصف الأولياء بالاستقامة وهي لزوم طاعة الله بأداء الواجبات واجتناب المحرمات والإكثار من نوافل العبادات.
ثم الكرامة هي أمر خارق للعادة تظهر على يد المؤمن المستقيم بطاعة الله وبذلك تفترق الكرامات عن السحر والشعوذة. وتفترق الكرامة عن المعجزة بأن المعجزة تكون لإثبات النبوة، وأما الكرامة فتكون للدلالة على صدق اتباع صاحبها لنبيه. وهي قد تقع باختيار الولي وطلبه. قال بعضهم: «وقد يكون من لا يكشف له أفضلَ ممن كوشف لأن الذي يُكاشف بشىء من الخوارق قد يكون ذلك ليقوى إيمانه ويثبت جنانه. وفوق هؤلاء أقوام باشر بواطنهم روح اليقين وصفت سرائرهم بنور التقوى فلا حاجة لهم إلى مدد من الحوادث». ولهذا لم تكثر في الصحابة الكرامات كثرتها فيمن بعدهم.
ومما يفترق به الوليّ عن النبي أن الولي تجوز عليه المعاصي الكبيرة والصغيرة لكنه معصوم من الكفر. والدليل على ذلك حديث أبي هريرة1 عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى «من عادى لي وليًّا فقد ءاذنته بالحرب. ولا يزال عبدي يتقربُ إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمعُ به وبصره الذي يُبصِر به ويده التي يَبطِش بها ورجله التي يمشي بها»2 . وفي رواية الطبراني من حديث حذيفة3 : «ويكون من أوليائي وأصفيائي» وإسنادها حسن غريب كما قال الحافظ ابن حجر 4. ولا شك أن من كان من أوليائه وأصفيائه ءامنٌ من سلب الإيمان والولاية فلا يصدر منه كفر إلا أنه في حال غيبة عقله قد تصدر منه كلمة كفر، فلا يحكم بكفره لعذره.
والدليل على كرامة الولي ما جاء في القرءان من قوله تعالى: ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي﴾ [سورة النمل] وما رواه الترمذي 5 وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم «اتقوا فِراسَة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» . وما ثبت بالإسناد الصحيح أن عُمر نادى أمير الجيش الذي كان بِنَهاوندَ6 سارية بن زُنيم: يا ساريةُ الجبلَ الجبلَ فسمع سارية وكان عمر بالمدينة يخطب، أخرجها البيهقي7 وأفردها الحافظ الدمياطي بتأليف وصححها وحسنها الحافظ ابن حجر8 . وأخرج ابن أبي شيبة وغيره9 أن خالد بن الوليد لما نزل الحيرة قيل له احذر السم تسقيكه الأعاجم فقال إيتوا به، فأتوه به فأخذه بيده ثم قال بسم الله واقتحمه فلم يضره. قال الحافظ عن هذه الحادثة 10«وقعت كرامةً لخالد فلا يُتأسى به في ذلك لئلا يفضي إلى قتل نفسه» أي إلا لمن وصل لمثل الحال التي حصلت لخالد.
تنبيه. قال الإمام أبو جعفر الطحاوي في عقيدته ما نصه «ولا نُفَضّلُ أَحدًا مِنَ الأَوْلِيَاءِ عَلى أَحدٍ مِنَ الأَنْبيَاءِ عَليْهِمُ السّلامُ، وَنَقولُ نَبِيٌّ وَاحدٌ أَفْضَلُ مِنْ جَميعِ الأَوْلِياءِ».
في هذا رد على من قال بتفضيل بعض الأئمة على الأنبياء لأن الولي إنما يستحق الولاية باتباعه النبي واقتدائه به في طاعة الله تعالى على شريعته، فيستحيل أن يكون أفضل منه أو مثله. قال تعالى بعد ذكر عدد من الأنبياء ﴿وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [سورة الانعام] ، ولا يجوز تأويل الآية بأن المراد عالَمُوْ زمان أولئك المذكورين لأن هذا تأويل بلا دليل وهو ممنوع.
فائدة. قال الحافظ في الفتح11 نقلاً عن القرطبي في قصة موسى مع الخضر ما نصه «ولننبه هنا على مغلطتين:
الأولى وقع لبعض الجهلة أن الخضر أفضل من موسى تمسكًا بهذه القصة وبما اشتملت عليه، وهذا إنما يصدر ممن قصُر نظره على هذه القصَّة ولم ينظر فيما خصَّ الله به موسى عليه السلام من الرسالة وسماعِ كلام الله وإعطائه التوراة فيها علم كل شىء وأن أنبياء بني إسرائيل كلهم داخلون تحت شريعته ومخاطبون بحكم نبوته حتى عيسى، وأدلة ذلك في القرءان كثيرة، ويكفي من ذلك قوله تعالى: ﴿يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي﴾ [سورة الأعراف] ، وسيأتي في أحاديث الأنبياء من فضائل موسى ما فيه كفاية. قال: والخضر وإن كان نبيًّا فليس برسول باتفاق، والرسول أفضل من نبي ليس برسول، ولو تنزلنا على أنه رسول فرسالة موسى أعظم وأمته أكثر فهو أفضل، وغاية الخضر أن يكون كواحد من أنبياء بني إسرائيل وموسى أفضلهم. وإن قلنا إن الخضر ليس بنبي بل ولي فالنبي أفضل من الولي وهو أمر مقطوع به عقلاً ونقلاً، والصائر إلى خلافه كافر لأنه أمر معلوم من الشرع بالضرورة قال: وإنما كانت قصة الخضر مع موسى امتحانًا لموسى ليعتبر.
الثانية ذهب قوم من الزنادقة إلى سلوك طريقة تستلزم هدم أحكام الشريعة فقالوا إنه يستفاد من قصة موسى والخضر أن الأَحكام الشرعية العامة تختص بالعامة والأغبياء وأما الأَولياء والخواص فلا حاجة بهم إلى تلك النصوص بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم ويحكم عليهم بما يغلب على خواطرهم لصفاء قلوبهم عن الأكدار وخلوها عن الأغيار فتنجلي لهم العلوم الإِلهية والحقائق الربانية فيقفون على أسرار الكائنات ويعلمون الأَحكام الجزئيات فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات كما اتفق للخضر فإنه استغنى بما ينجلي له من تلك العلوم عما كان عند موسى، ويؤيده الحديث المشهور 12 «استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتَوك»13 . قال القرطبي وهذا القول زندقة وكفر لأنه إنكار لما علم من الشرائع فإن الله قد أجرى سنته وأنفذ كلمته بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين خلقه المبيّنين لشرائعه وأحكامه كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ﴾ [سورة الحج]، وقال: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [سورة الأنعام] ، وأمر بطاعتهم في كل ما جاءوا به وحث على طاعتهم والتمسك بما أمروا به فإن فيه الهدى، وقد حصل العلم اليقين وإجماع السلف على ذلك فمن ادعى أن هناك طريقًا أخرى يُعرف بها أمرُه ونهيه غيرُ الطرق التي جاءت بها الرسل يُستغنى بها عن الرسل فهو كافر يُقتل ولا يُستتاب، وهي دعوى تستلزم إثبات نبوة بعد نبينا لأن من قال إنه يأخذ عن قلبه لأن الذي يقع فيه هو حكم الله وأنه يعمل بمقتضاه من غير حاجة منه إلى كتاب ولا سنة فقد أثبت لنفسه خاصةَ النبوة كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: «إن رُوحَ القدس نَفَثَ في رُوْعي»14 .
قال: وقد بلغنا عن بعضهم أنه قال: أنا لا ءاخذ عن الموتى وإنما ءاخذ عن الحي الذي لا يموت. وكذا قال ءاخر: أنا ءاخذ عن قلبي من ربي وكل ذلك كفر باتفاق أهل الشرائع. ونسأل الله الهداية والتوفيق. وقال غيره: من استدل بقصة الخضر على أن الولي يجوز أن يطلع من خفايا الأمور على ما يخالف الشريعة ويجوز له فعلُه فقد ضلَّ وليس ما تمسك به صحيحًا فإن الذي فعله الخضر ليس في شىء منه ما يناقض الشرع، فإن نقض لوحٍ من ألواح السفينة لدَفع الظالم عن غصبها ثم إذا تركها أعيد اللوح جائز شرعًا وعقلاً، ولكن مبادرة موسى بالإنكار بحسب الظاهر، وقد وقع ذلك واضحًا في رواية أبي إسحـق التي أخرجها مسلم 15 ولفظه «فإذا جاء الذي يُسخرها فوجدها منخرقةً تجاوزها فأصلحها» فيستفاد منه وجوب التأني عن الإِنكار في المحتمِلات، وأما قتله الغلام فلعله كان في تلك الشريعة، وأما إقامة الجدار فمن باب مقابلة الإِساءة بالإِحسان. والله أعلم» اهـ.

--------------------------------------