أداء الواجبات واجتناب المحرماتِ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ للهِ ربِ العالمينَ لهُ النعمةُ وله الفضلُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له وأشهدُ أن محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ أما بعدُ:
فإنَّ اللهَ تباركَ وتعالَى يقولُ في كتابِهِ العزيزِ القرءانِ الكريمِ: ﴿ومَنْ يَتَعَدَّ حدودَ اللهِ فقد ظَلَمَ نفسَهُ﴾ "سورة الطلاق /ءاية 1" ورُوّينَا في جامِعِ الترمذِيّ أن رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: "إنَّ اللهَ فَرَضَ فرائِضَ فلا تضيعُوهَا، وحَدَّ حدودًا فلا تعتدُوهَا وحرَّمَ أشياءَ فلا تَنتَهِكُوهَا، وسَكَتَ عن أشياءَ رحمةً بكُم غيرَ نسيانٍ فلا تبحثُوا عنهَا".
أمورُ الدينِ مبنيةٌ على شيئينِ أحدهُمَا أداءُ الفرائضِ والآخرُ اجتنابُ المحرماتِ، فمَنْ أهملَ هذا وقَلَبَ الدين بالعكسِ فقد ضَلَّ وأهلكَ نفسَهُ.
فليكُنْ اعتناءُ المسلمِ بهذينِ الأمرينِ أكثرَ وأقوَى من اهتمامِهِ بغيرهِـمَا، لا يَـجعَلُ المسلمُ النوافلَ بِمنـزلةِ الفرائضِ ولا يَـجعَلُ المحرماتِ بِمنـزلةِ المكروهاتِ، فإن أناسًا لا يهتَمُونَ ولا يبالونَ إن فاتَتْهُم فرائضُ أو ارتكبُوا محرماتٍ، إنَّـمَا هَـمُهُم أن يتعلقُوا بأشياءَ ليسَتْ من قبيلِ الفرائضِ ولا من قبيلِ اجتنابِ المنهياتِ المحرماتِ، فهؤلاءِ يقضُونَ أعمارَهُم وهم في الغرورِ، يقضُونَ أعمارَهُم وهم تائهُونَ.
والسبيلُ إلى ذلكَ أي إلى التمسكِ بالأمرينِ الذينَ هُـمَا أهمُ أمور الدين أداءِ الفرائض واجتناب المحرمات، هو تلقي العلم الشرعي من أهل المعرفة ولو مشافهةً بالمجالسةِ من غيرِ قراءةٍ ودراسةٍ في كتابٍ نظرًا. ليسَ الشرطُ قراءةَ كتابٍ من كتبِ العلمِ الشرعيّ يبينُ ما فَرَضَ اللهُ وما حَرَّمَ اللهُ، إنَّـما الأصلُ الذي لا يستغنَـى عنهُ وعليهِ المعولُ والاعتمادُ تلقِي هذا العلمِ من أهلِ المعرفةِ إنْ كانَ نظرًا في كتابٍ وإنْ كانَ بدونِ نظرٍ في كتابٍ؛ فقد وَصَفَ اللهُ تبارك وتعالى أصحابَ نبيهِ بأنَّـهُم أميونَ قالَ اللهُ تباركَ وتعالى: ﴿هو الذي بَعَثَ في الأميينَ رسولاً منهُم يتلُوا عليهِم آياتِهِ ويزكِيهِم ويُعلمُهُم الكتابَ والحكمةَ﴾ "سورة الجمعة /ءاية 2" مع وصفِهِ لهُم بأنَّهُم أميونَ أي لا يقرأونَ نظرًا، قال: ﴿ويُعلمُهُم الكتابَ والحكمةَ﴾، ووصفَ نبيَهُ بأنهُ أميٌّ أي لا يعرفُ الخطَ وقراءةَ ما خَطَّ ومع ذلكَ كان الصدرُ الأولُ وهم أصحابُ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ من بينِ أمةِ محمدٍ خيرَ القرون، أي أنَّـهُم أفضلُ مِـمَّنْ يأتِـي بعدَهُم إلى يومِ القيامةِ. قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : "خيرُ القرونِ قرنِي ثم الذينَ يلونَهُم ثم الذينَ يلونَهُم".
فقوله صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ "إنَّ اللهَ فَرَضَ فرائِضَ فلا تضيعُوهَا". هذهِ الفرائضُ تشملُ الفرضَ العمليَّ الذي هو يتعلقُ بالبدنِ، والفرضَ الاعتقاديَّ الذي هو متعلقٌ بالقلبِ، وهو علمُ ما يتعلقُ بـمعرفةِ اللهِ ورسولِهِ وما يتعلقُ بالمعادِ والحشرِ والثوابِ والعقابِ في الآخرةِ والجنةِ والنارِ، وما يتعلقُ بأعمالِ القلوبِ من إخلاصِ النيةِ للهِ تعالَى للخلاصِ من الرياءِ والعجبِ والحسدِ وسوءِ الظنِ بعبادِ اللهِ تعالى، وما يتعلقُ بالأعمالِ البدنية ِكالصلواتِ الخمسِ وصيامِ رمضانَ والزكاةِ والحجِ وما في معنى ذلكَ من الأعمالِ البدنيةِ الأخرى، فإنَّ كلَّ ذلكَ يجبُ معرفةُ حكمِهِ الشرعيّ.
وأما القسمُ الآخرُ وهو قسمُ المحرماتِ فمعرفتُهَا فرضٌ على المكلفِ لأنهُ إذا لم يتعلمْ ما هو الحرامُ على الجوارحِ على اللسانِ والعينِ والسمعِ والرجلِ والفرجِ والبطنِ فإنهُ لا يأمنُ على نفسِهِ من الوقوعِ في تلكَ المحرماتِ.
وأما ما سِوَى ذلكَ مما يتعلقُ بفضائلِ الأعمالِ والنوافلِ، فمعرفتُهُ ليسَ فرضَ عينٍ على المكلفِ إنما يكلَفُ بذلكَ على طريقِ فرضِ الكفايةِ الذي إذا قامَ بهِ بعضُ المكلفينَ سقطَ الحرجُ عن الباقينَ. وأما نوافلُ الأعمالِ من العباداتِ كالصلواتِ التي هي رواتبُ الفرائضِ فإنَّ ذلكَ مَنْ فَعلَهُ وقامَ بهِ فلَهُ أجرٌ جزيلٌ يزيدُهُ زلفًا وقربًا إلى اللهِ، ومَنْ لم يأتِ بهِ أي لم يفعلْهُ فليسَ عليهِ عقابٌ في الآخرةِ .
ثم إنَّ مَنْ أرادَ أن يبدأَ بالصلاةِ وكانَ قبلَ ذلكَ تاركًا للصلاةِ لا يقومُ بهَا وكانَ مِنْ المكلفينَ أي البالغينَ العاقلينَ، فيجبُ عليهِ الإسراعُ في البدءِ بالصلاةِ من غيرِ أنْ يفوتَهُ فرضٌ واحدٌ، وإلا فمَنْ فَوَّتَ صلاةً عن وقتِهَا إلى أن دَخَلَ وقتُ الصلاةِ التي بعدَهَا فعذابُهُ عندَ اللهِ شديدٌ، قالَ اللهُ تعالى: ﴿فويلٌ للمصلينَ الذينَ هُم عن صلاتِـهم ساهونَ﴾ [سورة الماعون ءاية 4/5].
من أرادَ النجاةَ فليبادرْ إلى تعلمِ الفرائضِ وليحرصْ أولاً على تعلمِ الضرورياتِ للصلاةِ فقط من غيرِ أن يضيفَ إليهَا سننَهَا، فإنَّ مِنَ الناسِ من يريدونَ أن يتعلمُوا فرائضَ الصلاةِ وسننَهَا وينتظرونَ الانتهاءَ من ذلكَ ليبدأُوا بالصلاةِ، وقد يـمضِي على هؤلاءِ أيامٌ عديدةٌ وهم لَـم يبدأُوا بالصلاةِ فهؤلاء يَجِبُ نصحُهُم، يقالُ لَـهُم : اقتَصِرُوا على تعلمِ الفرائضِ في الوقتِ الحاضرِ، على تعلمِ ضرورياتِ الصلاةِ، ثم بعد ذلكَ تتعلمونَ سننَ الصلاةِ، كذلكَ الأمرُ في الوضوءِ لِمن يجهلُهُ، وكذلكَ الأمرُ في الغُسلِ من الجنابةِ بالنسبةِ لِمَنْ يَـجهَلُ كيفيتَهُ.
وهنا أمرٌ مهمٌ معرفةُ معناهُ على الوجهِ الصوابِ في هذا الحديثِ وهو قولُهُ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "وسَكَتَ عن أشياءَ رحمةً بكُم غيرَ نسيانٍ فلا تبحثُوا عنهَا". معنَى هذهِ الجملةِ أنَّ ما لم يذكرْهُ اللهُ في القرءانِ ولا أوحَى بهِ إلى نبيِهِ ليبلغَ أمتَهُ، فهو عفوٌ عفَا اللهُ عنهُ أي أنَّ اللهَ تبارك وتعالى لَـمْ يذكُرْ ذلكَ في كتابهِ ولا أوحَى بهِ إلى نبيهِ ليبلغَكُم رحمةً بكُم غيرَ نسيانٍ، لأن النسيانَ الذي هو الذهولُ مستحيلٌ على اللهِ تبارك وتعالى.
ليس معنَى الحديثِ أنَّ اللهَ تعالى يتكلمُ بذاتِهِ ثم يسكتُ كما يحصلُ للواحدِ من الخلقِ يبدأُ بالكلامِ ثم يقطعُ ثم يفتتحُ ثم يختَتِمُ من وقتٍ إلى وقتٍ هذه عادةُ الخلقِ فاللهُ تبارك وتعالى لا يجوزُ عليه هذا، إنَّـما كلامُ اللهِ يطلقُ على وجهينِ، الكلامِ الذاتيِ الأزلي الأبدِي الذي ليسَ حرفًا ولا صوتًا، والكلامِ بِـمعنَـى اللفظِ المنـزلِ على النبي صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فيقالُ لهُ كلامُ اللهِ، لكنْ الكلامُ الذاتِـيُّ الذي هو صفةُ الله تعالى هو الكلامُ الذي هو أزليٌّ أبديٌّ لا يبتدأُ ثم يختتمُ بل هو موجودٌ أزلاً وأبدًا كما أن قدرتَهُ موجودةٌ أزلاً وأبدًا، وعلمُهُ موجودٌ أزلاً وأبدًا، ذلكَ الكلامُ هو الذي يقالُ لهُ الكلامُ الذاتِـيُّ الأزلِـيُّ الأبديُّ فذلكَ يستحيلُ عليهِ أن يكونَ فيهِ تقطعٌ أي ابتداءٌ ثم اختتامٌ ثم ابتداءٌ ثم اختتامٌ هذا مستحيلٌ على الكلامِ الذاتِـيّ.
فإياكُم أن يظنَ أحدُكُم من هذا الحديثِ أن اللهَ يتكلمُ ثم يسكتُ كما هو صفةُ أحدِنَا هذا ليسَ من صفةِ اللهِ، لا يجوزُ على اللهِ، القرءانُ له أساليبُ والحديثُ كذلكَ فيهِ أساليبُ فمَنْ فَهِمَ هذهِ الأساليبَ انتفعَ بذلكَ ومن جهلَهَا زلَّ في الخطرِ العظيمِ.
وسبحانَ اللهِ والحمدُ للهِ ربِ العالمينَ .