في تفسيرالقرءان الكريم الفيض المبارك في تفسير جزء تبارك
 سورة الملك

سورة الملك

الفيض المبارك في تفسير جزء تبارك

الفيض المبارك سورة الملك
مكية في قول الجميع، وتسمى الواقية والمنجية وهي ثلاثون ءاية
بسم الله الرحمن الرحيم

تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعْ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوْ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنتُمْ مَّنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُمْ يَنصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنْ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ ءامَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (29) قُلْ ءَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَّعِينٍ (30)

روى أبو داود 1 والترمذي وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سورةٌ في القرءان ثلاثون ءاية شَفعتْ لصاحبها حتى غُفِرَ له ﴿تباركَ الذي بيدِهِ المُلك﴾.
وروى الترمذي عن ابن عباس أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ضرب خِباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر فسمع من القبر قراءة ﴿تبارك الذي بيده الملك﴾ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر له ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: "هي المانعةُ، هي المنجية تنجيه من عذاب القبر" وحسّنه الترمذي والسيوطي 2.
-------------

1- أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الصلاة: باب في عدد الآي، والترمذي في سننه: في ثواب القرءان: باب ما جاء في فضل سورة الملك، والحاكم في المستدرك [1/565] وصححه.
2- أخرجه الترمذي في سننه: كتاب فضائل القرءان: باب ما جاء في فضل سورة الملك، وأورده السيوطي في الجامع الصغير [2/56].





﴿تباركَ﴾ أي تبارك الله أي دام فضلهُ وبره وتعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين ﴿الذي بيدهِ﴾ أي بتصرفه، فاليد هنا كنابة عن الإحاطة والقهر قال ابن عباس: يعني السلطان، يُعِزُّ ويُذِلُّ ﴿المُلك﴾ أي ملك السموات والأرض وما فيهما وما بينهما، جميع الخلائق مقهورون بقدرته، يفعل في ملكه ما يريد ويحكم في خلقه بما يشاء يُعِزُّ من يشاء ويُذِلُّ من يشاء، وكل شيء إليه فقير وكل أمر عليه يسير ﴿وهوَ﴾ أي الله ﴿على كُلِّ شيءٍ﴾ ممكن يقبل الوجود والعدم ﴿قديرٌ﴾ فلا يمنعه من فعله مانع ولا يحول بينه وبينه عجز، ولا دافع لِما قضى ولا مانع لما أعطى.




﴿الذي خلقَ الموتَ والحياةَ﴾ أي الله الذي خلق الموت والحياة فأمات من شاء وأحيا من شاء إلى أجل معلوم، وجعل الدنيا دار حياة ودار فناء وجعل الآخرة دار جزاء وبقاء ﴿ليَبْلُوَكُم﴾ أي ليمتحنكم بأمره ونهيه فيُظهر منكم ما علم أنه يكون منكم فيجازيكم على عملكم ﴿أيُّكُم﴾ أيها الناس ﴿أحسنُ عملاً﴾ أي أطوع وإلى طلب رضاه أسرع، أو أيكم أخلصه وأصوبه فالخالص أن يكون لوجه الله والصواب أن يكون على السُّنة. والمراد أنه أعطاكم الحياة التي تقدرون بها على العمل وسلط عليكم الموت الذي هو داعيكم إلى اختيار العمل الحسن على القبيح من حيث إن وراءه البعث والجزاء الذي لا بد منه ﴿وهوَ العزيزُ﴾ الغالب القوي الشديد انتقامه ممن عصاه وخالف أمره ﴿الغفورُ﴾ لمن تاب من ذنوبه. "




﴿الذي خلقَ﴾ أي أوجد وأبرز من العدم إلى الوجود ﴿سَبْعَ سمواتٍ طِباقًا﴾ أي سبع سموات بعضها فوق بعض كما ثبت في حديث الإسراء الذي أخرجه البخاري ومسلم ﴿ما ترى﴾ يا ابن ءادم ﴿في خَلْقِ الرَّحمنِ﴾ العزيز الحكيم ﴿مِن تفاوتٍ﴾ قال البخاري: التفاوت: الاختلاف، والتفاوت والتفوت واحد"، وحقيقة التفاوت عدم التناسب كأنّ بعض الشيء يفوت بعضًا ولا يلائمه، والمعنى: ما ترى يا ابن ءادم في شيء مما خلق الله عز وجل من اعوجاج ولا تناقض ولا عيب ولا خطإ، وليس المراد أن المخلوقات لا يختلف بعضها عن بعض من حيث الشكل والصفة فالاختلاف هنا المراد به ما يناقض الحكمة بالنسبة للخالق، والله عز وجل حكيم لا يجوز عليه العبث والسّفه.
وقرأ حمزة والكسائي: "من تَفَوُّتٍ" بتشديد الواو من غير ألف، وقرأ الباقون بألف.
ثم أمر سبحانه وتعالى بأن ينظروا في خلقه ليعتبروا به فيتفكروا في قدرته فقال: ﴿فارْجِعِ البَصرَ﴾ أي كرر النظر إلى السماء وتأملها ﴿هل ترى﴾ فيها يا ابن ءادم ﴿من فطورٍ﴾ أي من شقوق وصدوع أو عيب أو خلل، والفطور: الشقوق. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وهشام "هل ترى" بإدغام اللام في التاء.




﴿ثُمَّ ارجِعِ البصرَ كرَّتَيْنِ﴾ مرة بعد مرة، وإنما أمر بالنظر مرتين لأن الإنسان إذا نظر في الشيء مرة قد لا يرى عيبه ما لم ينظر إليه مرة أخرى، فأخبر تعالى أنه وإن نظر في السماء مرتين لا يرى فيها عيبًا ولا خللاً، وجواب الأمر ﴿يَنْقلِبْ﴾ أي ويرجع ﴿إليكَ البصرُ خاسِئًا﴾ أي صاغرًا ذليلاً متباعدًا عن أن يرى عيبًا أو خللاً، وأبدل أبو جعفر ﴿خاسِئًا﴾ بياء مفتوحة، ﴿وهوَ حسيرٌ﴾ أي كليل منقطع قد بلغ الغاية في الإعياء لم ير خللاً ولا تفاوتًا.




﴿ولقدْ زيَّنَّا السماءَ الدُنيا﴾ وهي السماء القريبة من الأرض والتي نشاهدها ويراها الناس ﴿بِمصابيحَ﴾ أي بنجوم لها نور ﴿وجعلناها﴾ أي جعلنا منها ﴿رُجُومًا للشياطينِ﴾ أي يُرجم الشياطين المسترقون للسمع بشُهب تنفصل عن هذه النجوم ﴿وأعتدنا لهُم﴾ أي هيأنا للشياطين في الآخرة ﴿عذابَ السَّعير﴾ أي النار الموقدة بعد الإحراق بالشهب في الدنيا.




﴿وللذينَ كفروا بربِّهم﴾ وأعتدنا للذين كفروا بالله من إنس وجن ﴿عذابَ جهنَّمَ﴾ وهي نار عظيمة جدًا، وقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي أنها أوقِدَ عليها ألف سنة حتى احمرت وألف سنة حتى ابيضّت وألف سنة حتى اسودّت فهي سوداء مظلمة ﴿وبئسَ﴾ وهي كلمة ذم ﴿المصير﴾ أي المرجع أي بئس المآل والمنقلَب الذي ينتظرهم وهو عذاب جهنم، أجارنا الله منها.




﴿إذا أُلقُوا فيها﴾ يعني إذا ألقي الكفار في جهنم وطُرحوا فيها كما يطرح الحطب في النار العظيمة ﴿سَمِعوا لها﴾ يعني لجهنم ﴿شهيقًا﴾ والشهيق: الصوت الذي يخرج من الجوف بشدة، والمراد أنهم سمعوا صوتًا منكرًا كصوت الحمار، تصوّت مثل ذلك لشدة توقدها وغليانها ﴿وهيَ تفورُ﴾ أي تغلي بهم كغلي المِرْجَلِ.




﴿تكادُ﴾ جهنم ﴿تميَّزُ﴾ يعني تتقطع وتتفرق، وقرأ البزي "تميز" بتشديد التاء وصلاً، والباقون بالتخفيف ﴿مِنَ الغَيظِ﴾ على الكفار، فجعلت كالمغتاظة عليهم استعارة لشدة غليانها بهم ﴿كُلَّما أُلقِيَ فيها فوجٌ﴾ أي فريق وجماعة من الكفار ﴿سألهُم خَزنتُها﴾ وهم مالك وأعوانه، وسؤالهم على جهة التوبيخ والتقريع وهو مما يزيدهم عذابًا إلى عذابهم ﴿ألمْ يأتِكُم نذيرٌ﴾ أي رسول في الدنيا ينذركم هذا العذاب الذي أنتم فيه.




﴿قالوا بلى قدْ جاءنا نذيرٌ﴾ أنذرنا وخوَّفنا، كما في قوله تعالى: ﴿وقالَ لهُم خَزَنتُها ألَم يأتِكُم رُسُلٌ منكُم يَتلونَ عَلَيكُمْ ءاياتِ ربِّكم ويُنذِرُونَكُم لقاءَ يومكم هذا قالوا بلى ولكنْ حقَّتْ كلمةُ العذابِ على الكافرين﴾ [سورة الزمر]، فاعترف الكفار بأن الله عز وجل أرسل إليهم رسلاً ينذرونهم لقاء يومهم هذا واعترفوا أيضًا بأنهم كذبوهم كما قال الله تعالى إخبارًا عنهم: ﴿فكذَّبنا وقُلنا﴾ أي قالوا للرسول المرسل إليهم ﴿ما نزَّلَ اللهُ﴾ عليك ﴿مِن شيءٍ﴾ مما تقول من وعد ووعيد وغير ذلك ﴿إنْ أنتُم إلا في ضلالٍ كبيرٍ﴾ وفيه وجهان، قال أبو حيان في تفسيره "البحر المحيط" (البحر المحيط [8/300]). ما نصه: "الظاهر أن قوله: ﴿إنْ انتُم إلا في ضلالٍ كبيرٍ﴾ من قول الكفار للرسل الذين جاءوا نُذرًا إليهم، أنكروا أوَّلاً أن الله نزّل شيئًا واستجهلوا ثانيًا من أخبر بأنه تعالى أرسل إليهم الرسل وأن قائل ذلك في حيرة عظيمة، ويجوز أن يكون من قول الخزنة للكفار إخبارًا لهم وتقريعًا بما كانوا عليه في الدنيا، وأرادوا بالضلال الهلاك الذي هم فيه، أو سَمّوا عقاب الضلال ضلالاً لما كان ناشئًا عن الضلال" ا.هـ.




﴿وقالوا﴾ أي وقال الكفار أيضًا وهم في النار لخزنة جهنم ﴿لوْ كُنَّا﴾ في الدنيا ﴿نسمعُ﴾ من النذر أي الرسل ما جاءوا به من الحق سماع طالب للحق ﴿أو نعقِلُ﴾ عقل متأمل ومفكّر بما جاء به الرسل ﴿ما كُنَّا في أصحابِ السَّعير﴾ يعني ما كنا من أهل النار ولن نستوجب الخلود فيها.




﴿فاعْتَرفوا بذنبهم﴾ أي بكفرهم في تكذيبهم الرسل وهذا الاعتراف لا ينفعهم ولا يخلصهم من عذاب الله ﴿فسُحقًا﴾ أي فبُعدًا، ﴿لأصحابِ السَّعيرِ﴾ وهم أهل النار من رحمة الله، وهو دعاء عليهم. وقرأ أبو جعفر والكسائي بضم الحاء: "فسُحُقًا".




واعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد الكفار أتبعه بوعد المؤمنين فقال: ﴿إنَّ الذينَ يَخْشَوْنَ ربَّهُم﴾ أي يخافونه ﴿بالغيبِ﴾ أي الذي أخبروا به من أمر المعاد وأحواله، أو يخافونه وهم في غيبتهم عن أعين الناس في خلواتهم فآمنوا به وأطاعوه سرًا كما أطاعوه علانية ﴿لهُم مغفرةٌ﴾ أي عفو من الله عن ذنوبهم ﴿وأجرٌ كبيرٌ﴾ وهو الجنة.




﴿وأسِرُّوا﴾ أي اخفوا أيها الناس ﴿قولَكُم أوِ اجهَروا بهِ﴾ أي أعلنوه وأظهروه، واللفظ لفظ الأمر والمراد به الخبر يعني إن أخفيتم كلامكم أو جهرتم به فـ﴿إنَّهُ﴾ تعالى ﴿عليمٌ بِذاتِ الصُّدورِ﴾ يعني بما في القلوب من الخير والشر فكيف بما نطقتم به، والآية فيها بيان استواء الأمرين أي الإسرار والجهر في علم الله تعالى.
قال ابن الجوزي: "قال ابن عباس: نزلت في المشركين كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبره جبريل بما قالوا، فيقول بعضهم: أسروا قولكم حتى لا يسمع إله محمد" ا.هـ.




﴿ألا يعلمُ﴾ الخالق جلّ ثناؤه ﴿مَنْ خلقَ﴾ وهو الذي أحاط بخفيات الأمور وجلياتها وعلم ما ظهر من خلقه وما بطن، أو ألا يعلم الخالق سركم وجهركم وهو استفهام معناه الإنكار أي كيف لا يعلم مَن خلق الأشياء وأوجدها من العدم الصرف ﴿وهُوَ اللطيفُ﴾ المحسن إلى عباده في خفاء وسترٍ من حيث لا يحتسبون ﴿الخبيرُ﴾ أي المطّلع على حقيقة الأشياء فلا تخفى على الله خافية.




﴿هوَ الذي جعلَ لكُمُ الأرضَ ذلولاً﴾ أي الله هو الذي جعل لكم أيها الناس الأرض سهلة تستقرون عليها ويمكن المشي فيها والحفر للآبار وشق العيون والأنهار فيها وبناء الأبنية وزرع الحبوب وغرس الأشجار فيها ونحو ذلك ولو كانت صخرة صلبة لما تيسر شيء منها ﴿فامْشوا في مَناكِبِها﴾ أي طرقاتها، وقيل جبالها، وقيل جوانبها، قال البخاري: "مناكبها: جوانبها"، والمعنى: هو الذي سهل لكم السلوك في جبالها وهو أبلغ في التذليل ﴿وكُلوا من رِزقِهِ﴾ مما أحله الله لكم ﴿وإليهِ النُّشورُ﴾ أي المرجع يوم القيامة، فتُبعثون من قبوركم للحساب والجزاء. ثم خوّف كفار مكة فقال:




﴿ءأمِنْتُم﴾ أي أتأمنون، وقرأ قنبل عن ابن كثير: "وإليه النشور وأمنتم"، وقرأ قالون عن نافع، وأبو عمرو وأبو جعفر: "النشور ءامنتم" بهمزة ممدودة وتسهيل الثانية، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: ﴿ءَأَمِنتُم﴾ بتحقيق الهمزتين.
﴿مَّن في السَّماءِ﴾ أي المَلَك الموكَّل بالعذاب وهو جبريل ﴿أن يَخْسِفَ بكُمُ الأرضَ﴾ وهو ذهابها سُفلاً كما خُسفت بقارون، وكما خسف جبريل بمدن قوم لوط ﴿فإذا هيَ تَمُورُ﴾ تتحرك بأهلها، والمعنى أن الله تعالى يحرك الأرض بقدرته عند الخسف بهم حتى يقلبهم إلى أسفل وتعلو الأرض عليهم وتمور فوقهم أي تذهب وتجيء.
فائدة مهمة: ذكر أهل التفسير عند بيان معنى هذه الآية أن الله تعالى لا يوصف بالمكان ولا يتحيز في جهة لأن ذلك من صفات الأجسام والله ليس جسمًا كبيرًا ولا جسمًا صغيرًا فلا يسكن السماء ولا يسكن العرش ولا يجلس عليه، فربنا تبارك وتعالى موجود بلا جهة ولا مكان، وقد قال الحافظ العراقي في أماليه في تفسير حديث: "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء": "واستُدلَّ بهذه الرواية: "أهل السماء" على أن المراد بقوله "من في السماء": الملائكة" ا.هـ.




﴿أمْ أمِنتُم مَّن في السَّماءِ أن يُرسِلَ عليكُم حاصِبًا﴾أي ريحًا ذات حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل ﴿فَسَتعلمونَ﴾ أيها الكفرة ﴿كيفَ نذيرِ﴾ أي كيف عاقبة نذيري لكم إذ كذبتم به ورددتموه على رسولي، والمعنى: وإذا عاينتم العذاب فستعلمون أن إنذاري بالعذاب حق حين لا ينفعكم العلم.




﴿ولقَدْ كَذَّبَ﴾ أي المشركون ﴿الذينَ مِن قبلِهِم﴾ أي من قبل كفار مكة وهم الأمم الخالية كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مَدْيَن وقوم فرعون، فإنهم كذبوا ما جاءت به الرسل ﴿فكيفَ كانَ نكيرِ﴾ أي إنكاري عليهم أليس وجدوا العذاب حقًا؟ بلى.




ولمّا حذرهم ما يمكن إحلاله بهم من الخسف وإرسال الحاصب نبّههم على الاعتبار بالطير وما أحكم من خلقها فقال عز وجل: ﴿أوَلَمْ يرَوا﴾ المشركون ﴿إلى الطيرِ﴾ جمع طائر تطير ﴿فوقهم﴾ في الهواء ﴿صافَّاتٍ﴾ أي باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها ﴿ويَقْبِضنَ﴾ أي يضممن الأجنحة إلى جوانبهن، قال البخاري: "يضربن بأجنحتهن، وقال مجاهد: صافاتٍ بَسْطُ أجنحتهن" ﴿ما يُمسِكُهُنَّ﴾ عن الوقوع مع ثقلها وضخامة أجسامها ﴿إلا الرحمنُ﴾ سبحانه وتعالى، والمعنى: لم يكن بقاؤها في جو الهواء إلا بقدرة الله وحفظه ﴿إنَّهُ﴾ تعالى ﴿بِكُلِّ شيءٍ بصيرٌ﴾ أي عالم بالأشياء ولا تخفى عليه خافية.




﴿أمَّنْ﴾ أي من ﴿هذا الذي هُوَ جُنْدٌ﴾ أي أعوان ﴿لكُم﴾ أيها الكافرون ﴿يَنْصُرُكُم﴾ يمنع ويدفع عنكم العذاب إذا نزل بكم، والمعنى لا ناصر لكم، وقرأ البصري: "يَنْصُرْكُم" بسكون الراء بخلف عن الدوري، ﴿مِّن دونِ الرَّحمنِ﴾ أي سوى الرحمن، فقوله تعالى: ﴿أمَّن هذا الذي﴾ هو استفهام إنكار أي لا جند لكم يدفع عنكم عذاب الله.
﴿إنِ الكافرونَ﴾ أي ما الكافرون بالله ﴿إلا في غُرُورٍ﴾ من الشياطين تغرُّهم بأن لا عذاب ولا حساب، أو المعنى: ما الكافرون بالله إلا في غرور من ظنهم أنّ ما يعبدونه من دون الله يقربهم إلى الله زُلفى وأنها تنفع أو تضر.




﴿أمَّنْ﴾أي من ﴿هذا الذي يرزُقُكم﴾ أي يطعمكم ويسقيكم ويأتي بأقواتكم وينزل عليهم المطر ﴿إنْ أمسَكَ رزقهُ﴾ أي قطع عنكم رزقه، والمعنى: لا أحد يرزقكم إن حبس الله عنكم أسباب الرزق كالمطر والنبات وغيرهما ﴿بل لجُّوا﴾ أي تمادوا وأصروا مع وضوح الحق ﴿في عُتُوٍّ﴾ أي تكبر وعناد ﴿ونُفُورٍ﴾ أي تباعد عن الحق وإعراض عنه.




ثم ضرب الله مثلاً للمؤمن والكافر فقال: ﴿أفَمَن يمشي مُكِبًّا على وجهِهِ﴾ أي منكسًا رأسه لا ينظر أمامه ولا يمينه ولا شماله فهو لا يأمن من العثار والانكباب على وجهه ولا يدري أين يذهب، وهذا هو الكافر أكب على الكفر والمعاصي في الدنيا فحشره الله على وجهه يوم القيامة، أهذا ﴿أهدى﴾ أي أشد وأرشد استقامة على الطريق وأهدى له ﴿أمَّن﴾ أي أم من ﴿يمشي سَوِيًّا﴾ معتدلاً ناظرًا ما بين يديه وعن يمينه وعن شماله يبصر الطريق ﴿على صِراطٍ﴾ أي طريق ﴿مُستقيمٍ﴾ أي مستو لا اعوجاج فيه. وقد شبّه الله تعالى المؤمن في تمسكه بالدين الحق ومشيه على منهاجه بمن يمشي في الطريق المعتدل الذي ليس فيه ما يتعثر به، وشبّه الكافر في ركوبه ومشيه على الدين الباطل بمن يمشي في الطريق الذي فيه حفر وارتفاع وانخفاض فيتعثر ويسقط على وجهه كلّما تخلص من عثرة وقع في أخرى، وقرأ قنبل: "صراط" بالسين.




﴿قُلْ﴾ يا محمد للمشركين ﴿هُوَ الذي أنْشَأَكُم﴾ أي الله الذي خلقكم ﴿وجعلَ لكُم السَّمْعَ﴾ تسمعون به ﴿والأبصارَ﴾ تُبصرون بها ﴿والأفئدةَ﴾ أي القلوب تعقلون بها ﴿قليلاً ما تشكرون﴾ أي قليلاً ما تشكرون الله على هذه النعم التي أنعمها عليكم، وشكر نعمة الله هو أن يصرف تلك النعمة إلى وجه رضاه وأنتم لمّا صرفتم السمع والبصر والعقل لا إلى طلب مرضاة الله فأنتم ما شكرتم نعمته البتة.




﴿قُلْ﴾ يا محمد: الله ﴿هُوَ الذي ذَرَأكُم﴾ أي بثكم وفرّقكم ﴿في الأرضِ وإليهِ تُحشَرون﴾ أي تبعثون يوم القيامة فتُجمعون من قبوركم للحساب والجزاء، والمعنى أن القادر على خلقكم من العدم قادر على إعادتكم وفي ذلك ردّ على منكري البعث والحشر.




﴿ويقولونَ﴾ أي المشركون المنكرون للبعث ﴿متى هذا الوعدُ﴾ أي متى يوم القيامة ومتى هذا العذاب الذي تعدوننا به ﴿إنْ كُنتُم صادقينَ﴾ في وعدكم إيانا ما تعدوننا، وهذا استهزاء منهم، فاجابهم الله عن ذلك بقوله:




﴿قُلْ﴾ أي يا محمد ﴿إنَّما العلمُ﴾ بوقت قيام الساعة ﴿عندَ اللهِ﴾ لا يعلم ذلك غيره ﴿وإنَّما أناْ نذيرٌ﴾ لكم أنذركم عذاب الله على كفركم به ﴿مُبينٌ﴾ أي أبين لكم الشرائع.




﴿فلمَّا رَأَوْهُ﴾ أي فلما رأى هؤلاء المشركون العذاب الموعود به في الآخرة ﴿زُلفةً﴾ أي قريبُا منهم ﴿سِيئَتْ وجوهُ الذينَ كفروا﴾ ظهر فيها السوء والكآبة وغشيها السواد كمن يُساق إلى القتل ﴿وقيلَ﴾ أي تقول لهم الزبانية ومن يوبخهم ﴿هذا﴾ العذاب ﴿الذي كُنتم بهِ تدعون﴾ أي تفتعلون من الدعاء أي تمنَّون وتسألون تعجيله وتقولون ائتنا بما تعدنا، أو هو من الدعوى أي كنتم بسببه تدّعون أنكم لا تبعثون إذا متم.
فائدة: قرأ يعقوب: "به تدعون" بتخفيف الدال وسكونها، والباقون بتشديد الدال وفتحها، والأول على معنى تطلبون وتستعجلون، والثاني من الدعوى أي تدعون الأباطيل والأكاذيب وأنكم إذا متم لا تُبعثون، قال البخاري: "تدَّعون وتَدْعون واحدٌ مثلُ تذَّكَّرون وتَذْكُرون".




﴿قُل﴾ أي قل يا محمد للمشركين من قومك الذين كانوا يتمنون موتك ﴿أرَءَيتُم إنْ أهْلَكَنيَ اللهُ﴾ أي أماتني كما تريدون، قرأ حمزة: "أهلكني" بإسكان الياء فتحذف لفظًا في الوصل وترقق لام الجلالة لكسر النون، والباقون بفتحها فتفخم لام الجلالة للفتح.
﴿ومَن مَّعيَ﴾ من المؤمنين، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر، وحفص عن عاصم: "معيَ" بفتح الياء، وقرأ أبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي: "معي" بالإسكان، ﴿أوْ رَحِمَنا﴾ فأبقانا وأخّر في ءاجالنا فلم يعذبنا بعذابه ﴿فمَن يُجيرُ الكافرينَ مِن عذابٍ أليمٍ﴾ أي من يحميكم ويمنع عنكم العذاب الموجع المؤلم الذي سببه كفركم، والمعنى: لا، ليس ينجي الكفار من عذاب الله موتُنا وحياتُنا فلا حاجة بكم إلى أن تستعجلوا قيامَ الساعة ونزول العذاب فإن ذلك غيرُ نافعكم بل ذلك بلاء عليكم عظيم.




﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿هُوَ الرَّحمنُ﴾ أي الذي نعبده ونوحده وأدعوكم إلى عبادته ﴿ءامَنَّا بهِ﴾ أي صدقنا به ولم نشرك به شيئًا ﴿وعليهِ توكَّلنا﴾ أي وعليه اعتمدنا في أمورنا وأن الضار والنافع على الحقيقة هو الله.
﴿فَسَتَعْلَمونَ﴾ أيها المشركون بالله إذا نزل بكم العذاب وعاينتموه، وقرأ الكسائي بالياء من تحتُ، والباقون بالتاء من فوق.
﴿مَن هُوَ في ضلالٍ﴾ أي من هو بعيد عن الحق وعلى غير طريق مستقيم نحن أم أنتم ﴿مُبينٍ﴾ أي بيّن.




﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين ﴿أرَءَيْتُم﴾ أيها القوم أي أخبروني يا معشر قريش ﴿إنْ أصبحَ ماؤُكُمْ غَوْرًا﴾ أي غائرًا ذاهبًا في الأرض إلى أسفل لا تناله الأيدي ولا الدّلاء وهو جمع دلو ﴿فمَنْ﴾ أي الذي ﴿يأتيكُم بماءٍ مَّعين﴾ أي بماء طاهر تراه العيون، أو جارٍ يصل إليه من أراده، أي لا يأتيكم به إلا الله فكيف تنكرون أن يبعثكم.
ويروى أن هذه الآية تُليت عند ملحد فقال: يأتي به الفئوس والمعاول، فذهب ماء عينه في تلك الليلة وعمي، نعوذ بالله من الجرأة على الله وعلى ءاياته، ونسأل الله أن يحفظ علينا إيماننا ويحسن ختامنا ويدخلنا الجنة مع الأبرار ءامين.