الإِيـمَانُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِهِ وَسُؤَالِهِ

بسم الله الرحمن الرحيم

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [سُورَةَ غَافِر/46].
الشَّرْحُ يُخْبِرُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَيْ أَتْبَاعَهُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ عَلَى الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ فِي الْبَرْزَخِ أَيْ فِي مُدَّةِ الْقَبْرِ، وَالْبَرْزَخُ مَا بَيْنَ الْمَوْتِ إِلَى الْبَعْثِ يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ عَرْضًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلُوهَا حَتَّى يَمْتَلِئُوا رُعْبًا أَوَّلَ النَّهَارِ مَرَّةً وَءَاخِرَ النَّهَارِ مَرَّةً وَوَقْتُ الْغَدَاةِ مِنَ الصُّبْحِ إِلَى الضُّحَى، وَأَمَّا الْعَشِيُّ فَهُوَ وَقْتُ الْعَصْرِ ءَاخِرَ النَّهَارِ ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ﴾ أَيْ يُقَالُ لِلْمَلائِكَةِ ﴿أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ ءَالُ فِرْعَوْنَ هُمُ الَّذِينَ عَبَدُوهُ وَاتَّبَعُوهُ فِي أَحْكَامِهِ الْجَائِرَةِ، لَيْسَ مَعْنَاهُ أَقَارِبَهُ.
وَمِنْ جُمْلَةِ عَذَابِ الْقَبْرِ ضَغْطَةُ الْقَبْرِ حَتَّى تَخْتَلِفَ الأَضْلاعُ وَهَذَا لِلْكُفَّارِ وَبَعْضِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَنْ لا يَتَجَنَّبُ الْبَوْلَ وَلَيْسَتِ الضَّغْطَةُ لِكُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ كَمَا قَالَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ التَّقِيُّ فَهُوَ فِي نَعِيمٍ أَيْنَمَا دُفِنَ وَلَوْ دُفِنَ وَسَطَ الْكُفَّارِ وَقَدْ يُسَخِّرُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْمَلائِكَةِ مَنْ يَنْقُلُهُ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُدْفَنَ فِيهِ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ [سُورَةَ طَه/124].
الشَّرْحُ أَنَّ الْكُفَّارَ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنِ الإِيـمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى إِذَا مَاتُوا يَتَعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِـ ﴿مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ أَيِ الْمَعِيشَةَ الضَّيِّقَةَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِـ ﴿مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ مَعِيشَةً قَبْل الْمَوْتِ إِنَّمَا الْمُرَادُ حَالُهُمْ فِي الْبَرْزَخِ.
فَفِي هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ إِثْبَاتُ عَذَابِ الْقَبْرِ الأُولَى صَرِيحَةٌ وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَقَدْ عُرِفَ كَوْنُ الْمُرَادِ بِهَا عَذَابَ الْقَبْرِ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ إِلَى النَّبِيِّ هُوَ فَسَّرَ هَذِهِ الآيَةَ ﴿مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ بِعَذَابِ الْقَبْرِ. رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ [فِي صَحِيحِهِ] وَغَيْرُهُ [الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَصَحَّحَهُ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِـيُّ]. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ فِي الْقَبْرِ بَعْدَ عَوْدِ الرُّوحِ إِلَيْهِ يَكُونُ لَهُ إِحْسَاسٌ بِالْعَذَابِ إِنْ كَانَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ لِلْكُفْرِ أَوْ لِلْمَعَاصِي.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَهَاتَانِ الآيَاتَانِ وَارِدَتَانِ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ لِلْكُفَّارِ، وَأَمَّا عُصَاةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الَّذِينَ مَاتُوا قَبْلَ التَّوْبَةِ فَهُمْ صِنْفَانِ صِنْفٌ يُعْفِيهِمُ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَصِنْفٌ يُعَذِّبُهُمْ ثُمَّ يَنْقَطِعُ عَنْهُمْ وَيُؤَخِّرُ لَهُمْ بَقِيَّةَ عَذَابِهِمْ إِلَى الآخِرَةِ.
الشَّرْحُ لِيُعْلَمْ أَنَّهُ لا يُقَالُ إِنَّ الْمَيِّتَ إِذَا كَانَ يُرَى فِي الْقَبْرِ فِي هَيْئَةِ النَّائِمِ وَلا يُرَى عَلَيْهِ شَىْءٌ مِنَ الِاضْطِرَابَاتِ وَلا يَصْرُخُ فَإِذًا هُوَ لَيْسَ فِي عَذَابٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ رُوحُهُ بِلا جِسْمِهِ مُعَذَّبَةً فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: »عَدَمُ الْوِجْدَانِ لا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْوُجُودِ« مَعْنَاهُ عَدَمُ الِاطِّلاعِ عَلَى الشَّىْءِ لا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ وُجُودِ ذَلِكَ الشَّىْءِ، فَإِذَا نَحْنُ لَمْ نَرَ الشَّىْءَ بِأَعْيُنِنَا فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا الشَّىْءَ لَيْسَ مَوْجُودًا فَكَثِيرٌ مِنَ الأُمُورِ أَخْفَاهَا اللَّهُ عَنَّا وَبَعْضُهَا يَكْشِفُهَا اللَّهُ لِبَعْضِ عِبَادِهِ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ: إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرِ إِثْمٍ، قَالَ: بَلَى، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ، ثُمَّ دَعَا بِعَسِيبٍ رَطْبٍ فَشَقَّهُ اثْنَيْنِ فَغَرَسَ عَلَى هَذَا وَاحِدًا وَعَلَى هَذَا وَاحِدًا، ثُمَّ قَالَ: »لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا«.
الشَّرْحُ هَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ بَعْدَ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى إِثْبَاتِ عَذَابِ الْقَبْرِ، الرَّسُولُ مَرَّ عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ: »إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرِ إِثْمٍ« ثُمَّ قَالَ: »بَلَى« أَيْ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ بِحَسَبِ مَا يَرَى النَّاسُ لَيْسَ ذَنْبُهُمَا شَيْئًا كَبِيرًا لَكِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ ذَنْبٌ كَبِيرٌ لِذَلِكَ قَالَ: »بَلَى أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ« وَهِيَ نَقْلُ الْكَلامِ بَيْنَ اثْنَيْنِ لِلإِفْسَادِ بَيْنَهُمَا يَقُولُ لِهَذَا فُلانٌ قَالَ عَنْكَ كَذَا وَيَقُولُ لِلآخَرِ فُلانٌ قَالَ عَنْكَ كَذَا لِيُوقِعَ بَيْنَهُمَا الشَّحْنَاءَ، »وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ« أَيْ كَانَ يَتَلَوَّثُ بِالْبَوْلِ وَهَذَا مِنَ الْكَبَائِرِ فَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: »اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْلِ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ« رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ [فِي سُنَنِهِ] مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، مَعْنَاهُ تَحَفَّظوا مِنَ الْبَوْلِ لِئَلَّا يُلَوِّثَكُمْ مَعْنَاهُ لا تُلَوِّثُوا ثِيَابَكُمْ وَجِلْدَكُمْ بِهِ لِأَنَّ أَكْثَرَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ.
هَذَانِ الأَمْرَانِ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ النَّاسُ لَيْسَ ذَنْبًا كَبِيرًا لَكِنَّهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ عِنْدَ اللَّهِ ذَنْبٌ كَبِيرٌ فَالرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ رَءَاهُمَا بِحَالَةٍ شَدِيدَةٍ وَأَنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْعَذَابِ أَنْ تَمَسَّ النَّارُ جَسَدَهُ، اللَّهُ جَعَلَ عَذَابًا كَثِيرًا غَيْرَ النَّارِ فِي الْقَبْرِ. الرَّسُولُ رَأَى ذَلِكَ وَبَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ يَرَوْنَ عَذَابَ الْقَبْرِ وَيَرَوْنَ النَّعِيمَ اللَّهُ يُكَاشِفُهُمْ، الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ السَّلامِ كَانَ يَمُرُّ بِقَبْرِ عَالِمٍ تَقِيٍّ صَالِحٍ يَقِفُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ إِنَّهُ فِي نَعِيمٍ عَظِيمٍ، يَرَاهُ يُكَاشِفُهُ اللَّهُ، يَرَى مَوْضِعَ قَبْرِهِ أَنَّهُ مُنَوَّرٌ وَأَنَّهُ مُوَسَّعٌ وَأَنَّهُ مَمْلُوءٌ خَضِرَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَأَمَّا الدَّلائِلُ أَنَّ الْمَقْبُورَ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى يَكُونُ فِي نَعِيمٍ فَالشَّوَاهِدُ وَالأَدِلَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.