درس أعطاه شيـخنا الأصولِىُّ الـمـحدّثُ الشيـخُ عبد الله ابن مـحمَّد الـهررِىُّ رحمه الله تعالى فِى سويسرة فِى الحادي والعشرين من شهر جمادى الأولى سنة ثمان وأربعمائة وألف من الـهجرة الـموافق للـحادِى عشر من شهر كانون الثانـى سنة ثمان وثمانين وتسعمائة وألف ر وهو فِى اجتـماع الصحابة على عقيدة واحدة وبيان هذه العقيدة.
قال رحمه الله رحمةً واسعةً:
الـحمد لله وصلى الله على سيَّدنا مـحمَّد وسلـم.
أمّا بعدُ فقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "أُوصِيكُمْ بِأَصْحابِى ثُمّ الذينَ يَلُونَهُم ثُمَّ الذينَ يَلُونَهُم" اهـ1
أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلـم كانوا متفقين فِى أصول العقيدة لـم يكن بينهم خلافٌ، كانوا متفقين على أنَّ الله تبارك وتعالى متصف بالـقدرة وبالعلـم وبالإرادة أى الـمشيئة وأنه ما شاءَ كانَ أىْ حَصَلَ وَوُجِدَ مِن الأعيان والأعمال أى الـحركات والسكنات وأنَّ ما لـم يشأ لـم يكن أىْ لا يَدْخُلُ فِى الوجود، ما لـم يشأ الله فِى الأزل لا يدخل فِى الوجود ولا فرق فِى ذلك بين الأعيان أى الأجرام والأجسام والأعمال أى الـحركات والسكنات التِى تحصل من بَنِى ءادم وغيرهم من الـحيوانات فلا يتحرك متحركٌ ولا يسكن ساكنٌ ولا يـحصل مِن إنسان عملٌ قَلْبِىٌّ إلَّا بـمشيئة الله الأزلية فما شاء الله فِى الأزل أن يـحصل من العباد حصل وما لـم يشأ الله أن يـحصل لا يـحصل ولو اجتـمع الـخلقُ كلُّهم على أن يُحْدِثُوا شيئًا لـم يشأ الله فِى الأزل لا يَقْدِرُونَ ولو اجتـمعوا على أن يمنعوا تَحَقُّقَ ما شاء الله فِى الأزل أن يـحصل فلا يستطيعون أن يمنعوا وقوعه وحصوله. على هذا كان أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلـم كلُّهم.
وكانوا على اعتقادٍ لا يـختلفون فيه أن الله تبارك وتعالى متكلـمٌ بكلام لا يشبه كلامَ الـمخلوقين لا يشبه كلامَ العالـمين وعلى أنه تبارك وتعالى سميعٌ لا كسمع الـمخلوقين وعلى أنه بصيرٌ لا كبصر الـمخلوقين وعلى أنه تبارك وتعالى خالـقُ كُلّ شىء أىْ من الأعيان وحركات الـمخلوقين وسكناتهم، كلُّ ذلك بخلق الله يـحصلُ أى بإحداثه من العدم ولولا أنَّ الله تبارك وتعالى أحدث أعيان الأشياء مِن ذَوِى الأرواح ومِن الـجمادات لـما حصل شىءٌ لـما دخل فِى الوجود شىءٌ لَبَقِىَ العالـمُ كلُّه فِى العدم كما كان فِى الأزل معدومًا فلو لـم يشأ الله دخولَهُ فِى الوجود لَبَقِىَ فِى طَىّ العدم.
ومتفقون أيضًا على أن الله تبارك وتعالى يُرَى فِى الآخرة بالأبصار من غير كيفٍ ومن غير أن يكون في جهةٍ كما يُرَى الـمخلوق. الـمخلوقُ يُرَى إما فِى جهةِ الأمامِ أو جهةِ الـخلف. اللهُ تعالى يُرَى مِن غيرِ أن يكونَ فِى جِهةِ فوقٍ مِن الـمخلوقِين الرَّائينَ من غير أن يكون فِى جهة السُّفْل أى التحت منهم ومِن غير أن يُرى فِى جهة يمينهم ومن غير أن يكون فِى جهة يسارهم أى يرونه بأبصارهم بقدرة يـجعلها الله فيها. الـمؤمنون يرونه وأما الكفار فهم مـحجوبون عن رؤيته فِى الآخرة كما أنهم مـحجوبون اليوم فِى الدنيا.
أصحابُ رسولِ الله لـم يـختلفوا فِى هذا وهم مُتَّفِقُونَ على أنه تبارك وتعالى قادرٌ على كلّ شَىْءٍ لا يُعْجِزُهُ شَىْءٌ ومُتَّفِقُونَ على أنَّ عِلْمَهُ شامِلٌ لكلّ شَىْءٍ يَعْلَمُ ما كان ويَعْلَمُ ما يكونُ جملةً وتفصيلًا حتى الـحركات والسكنات والأنفاس التِى تحصل فِى الآخرة للعباد ما يـحصل للـمؤمنين وما يـحصل للكافرين، فِى دار النعيم بالنسبة للـمؤمنين وفِى دار العذاب الـمؤبَّدِ بالنسبة للكافرين. كل ما يـحصل لأهل هذه الدار ولأهل هذه الدار فهو عالـم به فِى الأزل جملةً وتفصيلًا لا يَحْدُثُ له عِلْمٌ جديدٌ، متفقون على هذا.
فأصحابُ رسول الله متفقون فِى كل ذلك لـم يـختلفوا، ثم جمهورُ الأمةِ الـمـحمديةِ فِى الاعتقاد معهم لا يـخرجون عن هذا إنـما خرج عن ذلك شراذِم وهم بالنسبة للجمهور الـموافقِين للصحابة والتابعين لهم بإحسان شَىْءٌ قليلٌ جدًا.
ثم إنَّ الصحابةَ أيضًا متفقون فِى جواز التوسل بالنبِىّ صلى الله عليه وسلـم فِى حياته وبعد مماته لـم يـختلفوا فِى ذلك إنـما هذا الـخلافُ نَشَأَ فِى الـقرن السابع الـهجرى فِى أواخر الـقرن السابع الـهجرِىّ مِن رجلٍ يقال له أحمد ابن تيمية أبو العباس الـحرّانِىّ فاتَّبعه شُذّاذ مِن الناس وكان فِى العصر الذِى ظهر فيه هذا الرجل مُسْتَذَلًّا إنـما اتَّبعه ألوفُ الـحَمْقَى وسَمَّوْهُ شيـخَ الإسلام وليس هو بأهل لهذا اللقب. ثم هذا الرجل فتح لأتباعه أبوابًا من التـمويهات. من جملة تـمويهه فِى تحريم التوسل أنه قال: لو كان التوسّل بالنبِىّ بعد موته جائزًا ما كان عمرُ بنُ الـخطاب يتوسل بالعباس عَمّ رسول الله وقد توسّل به فقال: "اللهم إنّا كُنّا نتوسّل بنبيك فتسقينا واليوم نتوسّل إليك بعمّ نبيك العباس"2 اهـ أى نطلب منك الـمطرَ متوسّلين بالعباس كما كنّا نتوسل بالنبِىّ صلى الله عليه وسلـم، قال لهم ابن تيمية لو كان التَّوسُّل بالرسول بعد وفاته جائزًا ما ترك عمر التَّوسُّل بالنبِىّ إلى التَّوسُّل بعمّه العبَّاس وهذا تـمويهٌ ليس عمر توسّل بالعباس لأن الرسول كان قد مات وإنـما توسّل بالعباس مراعاةً لِحَقّ قرابته من رسول الله لأنه كان عَمَّهُ كان أقربَ الناس إلى النبِىّ صلى الله عليه وسلـم من الرجال نسبًا أما علىٌّ رضى الله عنه فلـم يكن أقربَ الناس إليه من حيث النّسب لأنَّ عمَّ الشخص أقربُ من ابن عم الشخص. العبَّاسُ عمّه وأما علىٌّ فابن عمّه.
ولنا دليلٌ على أن عمر ما توسّل بالعباس لأن الرسول كان قد مات وإنـما توسّل به مراعاة لحق قرابته للنبِىّ وذلك أن عمر رضى الله عنه قال: "أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلـم كان يَرى للعباس ما يَرى الولد لوالده فاقتدوا به فِى عمّه العباس واتخذوه وسيلةً إلى الله" 3 اهـ.
هذا الأثرُ أىْ قولُ عمر: "أيها الناس إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلـم كان يرى للعباس ما يرى الولد لوالده فاقتدوا به فِى عمه العباس واتخذوه وسيلة إلى الله" اهـ هذا الأثر رواه الـحاكم وأما توسّل عمر بالعباس فقد رواه البخارىُّ.
ثم إنّ العباس رَضِىَ الله عنه نفسُهُ قال عندما استسقى لهم أى طلب الـمطر لهم من الله تعالى: "اللهم إنَّ الـقومَ توجَّهوا بِى إليك لـمكانِى مِن نبيّك" اهـ أى لأنّى عمُّ نبيّك أىْ أرادوا أن يراعوا حقَّ قَرَابَتِى ويُكرمونِى أىْ أرادوا أن يَرْقبوا مـحمَّدًا فِى لأنّى عَمُّهُ صلى الله عليه وسلـم.
هذا حقيقةُ توسّلِ عمر بالعباس ليس ما يقوله هؤلاء الـمشوشون. هذا مِن جملة ما يُشوّشون به على الناس وكثيرًا ما يلهجون بهذا فِى مجالسهم ليزخرفوا قولهم الباطل بتحريم التوسل بالرسول بعد وفاته. افْتَرَوْا على عمر وافْتَرَوْا على العباس والـحقيقةُ كما ذكرنا.
انتهى والله سبـحانه وتعالى أعلـم.
------------------