قالَ المؤلِّفُ رحِمَه اللهُ: وَأَفْعَالُ العِبَادِ خَلْقُ اللهِ وَكَسْبٌ مِنَ العِبَادِ.
الشرح أنَّ أفعالَ العبادِ كُلَّها مخلوقةٌ للهِ وهيَ بالنِّسبةِ للعِبادِ كسبٌ فالأفعالُ الاختياريةُ تَقَعُ كَسْبًا للعبدِ وخَلْقًا منَ اللهِ تعالى، فهو سبحانَه يَخْلُقُهَا والعبدُ لا يَخْلُقُها وإنَّما يَكْتَسِبُها ويُقالُ يَعْمَلُها، كُلُّ هذا عبارةٌ عنْ أمرٍ واحدٍ. وهذا المذهبُ الحقُّ وهو خارجٌ عنِ الجَبْرِ وعَنْ مذهبِ المعتزلةِ الفاسدِينَ.
قالَ المؤلِّفُ رحِمَه اللهُ: وَلَمْ يُكَلّفْهُمُ اللهُ تَعَالى إلاَّ مَا يُطِيقُونَ، وَلا يُطَيَّقُونَ إلا مَا كَلَّفَهُمْ.
الشرحُ الجُملةُ الأُولى معناها ظاهرٌ، وأمَّا الجملةُ الثانيةُ فمعناها لا يُلْزَمُونَ أيْ ليسَ للعبادِ أنْ يُلْزِمُوهُمْ إلاَّ ما كَلَّفَهُمُ اللهُ بهِ، فيُطِيقونَ في الجُملةِ الأُولى بضَمِّ الياءِ وكسرِ الطاءِ وأمَّا في الثانيةِ فَيَتَعَيَّنُ قِراءَتُهَا بضمِّ الياءِ وفتحِ الطَّاءِ وتشديدِ الياءِ التي بعدَها ولا يَصِّحُّ معنى هذه الجُملةِ الثانيةِ إلاَّ على هذا الوجهِ لِظُهورِ فَسَادِ ما سواه لأنَّ المعنى على ذلكَ يَنْحَلُّ إلى أنَّ العِبَادَ لا يَستطيعونَ أنْ يَفعلُوا سوى ما كَلَّفَهُمُ اللهُ بهِ والواقعُ أنَّ العِبادَ قادِرونَ على أنْ يُخالفُوا ما كَلَّفَهُمُ اللهُ بهِ وذلكَ حَالُ أكثرِ البَشَرِ.
قالَ المؤلِّفُ رحِمَه اللهُ: وَهُوَ تَفْسِيرُ لا حَولَ وَلا قُوَّةَ إلاَّ بِاللهِ نَقُولُ: لا حِيْلَةَ لأَحَدٍ وَلا حَرَكَةَ لأَحَدٍ وَلا تَحَوُّلَ لأَحَدٍ عَنْ مَعْصِيةِ اللهِ إلاَّ بِمَعُونَةِ اللهِ.
الشرحُ قولُهُ "إلاَّ بِمَعُونَةِ اللهِ" أيْ إلاَّ بعِصمتِهِ، هنا عبَّرَ المؤلِّفُ بالمعونةِ، أمَّا في التفسيرِ الذي رواهُ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ عنِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فَلَفْظُهُ "إلاَّ بعِصمةِ اللهِ" ولَوْ عَبَّرَ بذلكَ كانَ أَحسنَ. وهذا هو حقيقةُ العُبوديةِ أنْ يكونَ العبدُ مُفتقِرًا إلى اللهِ في العِصمةِ عنِ المعاصِي والتَّوفيقِ للطَّاعاتِ. فالعبدُ مُحتاجٌ إلى اللهِ في الأَمْرَيْنِ في التَّحَفُّظِ عنِ المعاصِي والقُدْرَةِ والتَّمَكُّنِ على الطَّاعاتِ فلِذلكَ سَمَّى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الخَبَرِ الصَّحيحِ هذهِ الكلمةَ كَنْزًا منْ كُنُوزِ الجّنَّةِ فإنَّهُ قالَ لأَبِي مُوسى الأَشْعَرِيِّ "أَلا أَدُلُّكَ على كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ" قالَ وما هوَ؟ قالَ: "لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلاَّ بِاللهِ" رواهُ الإمامُ أحمدُ. واجتَمَعَتِ الأُمَّةُ على كَوْنِهَا مِنْ أُصولِ العَقائدِ وهيَ كقَولِهِ تعالى ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ (29)﴾ [سورة التكوير] والمعنى أنَّ العِبادَ لا تَكُونُ لَهُمْ مشيئةٌ إلاَّ أنْ يَشاءَ اللهُ أنْ يَشَاءُوا فَمَا شاءَ اللهُ في الأَزَلِ أنْ يَشاءَ العِبادُ تَحْصُلُ مَشيئتُهُم له وإلاَّ فَلا تَحْصُلُ مشيئتُهُم.
قالَ المؤلِّفُ رحِمَه اللهُ: وَلا قُوَّةَ لأَحَدٍ عَلَى إقَامَةِ طَاعَةِ اللهِ وَالثَّبَاتِ عَلَيهَا إلاَّ بِتَوفِيقِ اللهِ.
الشرح أنه لا يَقْوَى أَحَدٌ على عَملِ الخَيْراتِ إلاَّ بِتَوفيقِ اللهِ كَمَا أَنَّهُ لا يَعْتَصِمُ عنِ السُّوءِ منَ المعاصي إلاَّ بعصمةِ اللهِ.
قالَ المؤلِّفُ رحِمَه اللهُ: وَكُلُّ شَىءٍ يَجْرِي بِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالى وَعِلْمِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ.
الشرح أنَّ كلَّ عملٍ يَعْمَلُهُ ابنُ ءادمَ وغيرَ ذلك مِمَّا يَدخُلُ في الوجودِ مِنْ أَعيانٍ وأعراضٍ لا يَدخُلُ في الوجودِ إلا بمشيئةِ اللهِ وعِلْمِهِ وقضائِهِ وقَدَرِهِ، فَلا يَحْصُلُ شىءٌ مِنَ العَالَمِ إلاَّ بهذهِ الصِّفاتِ الأَرْبَعِ.
قالَ المؤلِّفُ رحِمَه اللهُ: غَلَبَتْ مَشِيئتُهُ المَشِيئَاتِ كُلَّهَا، وغَلَبَ قَضَاؤُهُ الحِيَلَ كُلَّها.
الشرح أنه لا يَتَنَفَّذُ شىءٌ منْ مشيئاتِ العِبادِ إلاَّ أنْ يشاءَ اللهُ نُفُوذَها، فَهُمْ يَشاءونَ لكنْ لا تَتَنَفَّذُ مشيئاتُهُم إلاَّ بمشيئةِ اللهِ فَمَا شاءَ اللهُ نُفُوذَها منها نَفَذَ ومَا لم يشأْ نُفُوذَهُ لم يَنْفُذْ. وذكرَ المؤلِّفُ أنَّ حِيَلَ العِبادِ لا تُوصِلُ إلاَّ إلى ما قَضَى اللهُ تباركَ وتعالى فَمَا لم يَقْضِ اللهُ تباركَ وتعالى أيْ ما لم يَخْلُقْهُ لا تَنْفُذُ الحِيَلُ فيهِ.
قالَ المؤلِّفُ رحِمَه اللهُ: يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ غَيرُ ظَالِمٍ أَبَدًا تَقَدَّسَ عَنْ كُلِّ سُوءٍ وَحَيْنٍ.
الشرح ويَدُلُّ على ذلكَ قولُهُ تعالى ﴿فعالٌ لِمَا يُرِيد (107)﴾. وقولُهُ "تَقَدَّسَ" أيِ اللهُ "عنْ كُلِّ سُوءٍ وحَيْنٍ" أيْ ظُلْمٍ، فاللهُ تباركَ وتعالى مُنَـزَّهٌ عنِ السُّوءِ والظُّلْمِ لأنَّ الخَالِقَ لا يُتَصَوَّرُ منهُ الاتِّصافُ بالظُّلمِ والجَوْرِ، فالظُّلمُ يُتَصَوَّرُ منَ الكاسِبِ وهوَ العبدُ أمَّا الخالقُ فلا يَتَّصِفُ بالظُّلْمِ لأنَّ الخالِقَ يَتَصرَّفُ في مِلْكِهِ الذي هو مَالِكُهُ الحَقِيقِيُّ أمَّا العبدُ فيَتصرفُ في مِلْكِ غيرِهِ، فَمَا تَصَرَّفَهُ بإِذْنِ خَالقِهِ لا يَكُونُ ذلك ظُلْمًا وما تَصَرَّفَهُ بخِلافِ إِذْنِ خَالِقِهِ أيِ الإذْنِ الشرعيِ كانَ ذلك ظُلْمًا منهُ أيْ مِنَ العبدِ.
قالَ المؤلِّفُ رحِمَه اللهُ: وَتَنَزَّهَ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَشَيْنٍ.
الشرح أَنه تَنَزَّهَ عنْ كُلِّ نَقْصٍ.
قالَ المؤلِّفُ رحِمَه اللهُ ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾.
الشرح أن الله لا يُسئل عمَّا يفعلُ أي لا اعتراض عليه وهم أي العِبَاد يُسئلونَ عَمَّا يَفْعَلُونَ فيجب التسليم له سبحانه.
قالَ المؤلِّفُ رحِمَه اللهُ: وَفي دُعَاءِ الأَحيَاءِ وَصَدَقَاتِهِمْ مَنفَعَةٌ لِلأَمْوَاتِ.
الشرح أنَّ الدُّعَاءَ يَنفَعُ أمواتَ المسلِمِينَ بالإجماعِ والصَّدَقَةُ كذلكَ تَنفعُ بالإجماعِ وكذلكَ قِراءَةُ القُرءانِ على القبرِ تَنفعُ الميِّتَ. وقدِ استُدِلَّ على قِراءةِ القُرءانِ على القبرِ بحديثِ العَسِيبِ الرَّطْبِ الذي شَقَّهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ اثنَينِ ثُمَّ غَرَسَ على قبرٍ نِصفًا وعلى قبرٍ نِصفًا وقالَ "لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عنهُما ما لَمْ يَيْبَسا" رواهُ الشَّيخانِ. ويُستفادُ مِنْ هذا غَرْسُ الأشجارِ وقراءةُ القُرءانِ على القبورِ، وإذا خُفِّفَ عنهُم بالأشجارِ فكيفَ بقراءةِ الرَّجُلِ المؤمنِ القرءانَ. وقالَ النَّوَوِيُّ: "استحبَّ العلماءُ قراءةَ القُرءانِ عندَ القبرِ، واستَأْنَسُوا لذلكَ بحديثِ الجَرِيدَتَينِ وقالُوا إذا وَصَلَ النفعُ إلى الميِّتِ بتسبيحِهِما حالَ رُطوبَتِهِما فانتفاعُ الميِّتِ بقِراءةِ القُرءانِ عندَ قَبْرِهِ أَوْلَى" اهـ، فإنَّ قراءةَ القُرءانِ مِنْ إنسانٍ أعظمُ وأنفعُ منَ التَّسبيحِ منْ عودٍ، وقَدْ نَفعَ القُرءانُ بعضَ مَنْ حصلَ له ضررٌ في حالِ الحياةِ فالميِّتُ كذلكَ.
قالَ المؤلِّفُ رحِمَه اللهُ: وَاللهُ تَعَالى يَسْتَجِيبُ الدَّعَوَاتِ وَيَقْضِي الحَاجَاتِ.
الشرح أن اللهُ تعالى يَستجيبُ الدَّعَواتِ ويَقضِي الحاجاتِ أي لمن شاء أن يستجيبَ له فَضْلاً منه وكَرَمًا لا وُجُوبًا وليس المعنى أن كل من يدعو يستجابُ له أي يتحقق مطلوبه، فلَوْ لم يَستجبْ لم يَكُنْ ذلك ظُلْمًا. وأما قوله تعالى ﴿ ادْعُوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ (60)﴾ [سورة غافر] فمعناه اعبدوني وأطيعوني أُثِبْكم.
قالَ المؤلِّفُ رحِمَه اللهُ: وَيَملِكُ كُلَّ شَىءٍ وَلا يَملِكُهُ شَىءٌ ، وَلا غِنَى عَنِ الله تَعَالى طَرفَةَ عَيْنٍ ، وَمَنْ [زَعَمَ أَنَّهُ] اسْتَغنَى عَنِ اللهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَقَد كَفَرَ وَصَارَ مِنْ أَهْلِ الحَيْنِ.
الشرح أنَّ اللهَ مالِكُ كلِّ شىءٍ وأنَّ كُلَّ شىءٍ يَحتاجُ إلى اللهِ تعالى لأنَّهُ هو الذي أَوجَدَهُ، ومَنِ اعتقدَ أنه يَستغني عنِ اللهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ فهوَ كافِرٌ وصارَ منْ أهلِ "الحَيْنِ" وهوَ الهَلاكُ.