إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا ما ما أملاه العلامة المحدث الشيخ عبد الله الهرري غفر الله له ولوالديه

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا مُـحَمَّد وعلى ءاله وصحبه الطيبين أما بعد:
فقد رُوّينَا في مستدركِ الحاكمِ وسُننِ البيهقيّ وغيرِهِمَا من حديثِ شدادِ بنِ أوسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ أن نبيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم قال: "إنَّ من أفضلِ أيّامكُم يومَ الجمعةِ فيهِ خُلقَ ءادمُ وفيهِ قُبِضَ وفيهِ النفخةُ وفيهِ الصعقةُ فإذا كانَ يومُ الجمعةِ فأكثرُوا على من الصلاةِ فيهِ فإنَّ صلاتَكُم معروضةٌ عليَّ". قيل: "وكيف تُعرض صلاتنا عليك يارسول الله وقد أرمت؟" قال: "إنَّ اللهَ حَرَّمَ على الأرضِ أن تأكُلَ أجسادَ الأنبياءِ" هذا الحديثُ يتضمنُ فضلَ يومِ الجمعةِ، هنا لفظُ الحديثِ "إنَّ من أفضلِ أيّامكُم يومَ الجمعةِ" وإنما قالَ: "من أفضلِ أيّامكُم" ولم يقلْ إن أفضلَ أيامِكُم لأنَّ هناكَ أيامًا لَهَا مزايَا وفضائلُ كيومِ الحجِ الأكبرِ وهو يومُ العيدِ بالنسبةِ للمحرمِ في الحجِ، يومُ العيدِ هو يومُ الحجِ، يومُ العيدِ هو يومُ الحجِ الأكبرِ، عرفةُ قبلَ يومِ العيدِ.
وسُـمّيَ يومُ العيدِ للحاجِ يومَ الحجِ الأكبرِ لأنَّ معظمَ أعمالِ الحجِ تكونُ فيهِ كالطوافِ والحلقِ أو التقصيرِ ورميِ جمرةِ العقبةِ.
ولا يتنافَى هذا مع حديثِ "الحجُ عرفةُ" أنَّ أشدَّ أعمالِ الحجِ احتياطًا هو وقوفُ عرفةَ لضيقِ وقتِهِ؛ لأنَّ الوقوفَ بعرفةَ وقتُهُ أقلُ من يومٍ كاملٍ؛ لأنَّ وقتَهُ من زوالِ يومِ عرفةَ أي التاسعِ من ذي الحجةِ إلى الفجرِ، ما بينَ الزوالِ والفجرِ هذا وقتُ عرفةَ، فمَنْ لَـمْ يتمكنْ من الوقوفِ بعرفةَ في هذهِ المدةِ التِي هي أقلُ من يومٍ كاملٍ فاتَهُ الحجُ فلذلكَ قال الرسولُ "الحجُ عرفةُ" معناهُ من أدركَ عرفةَ أي وَقَفَ بعرفةَ فقد أدركَ الحجَّ أي ما سوى ذلكَ سَهْلٌ عليهِ، لأنَّ أركانَ الحجِ سوى الوقوفِ وقتُهَا واسعٌ، الطوافُ بالبيتِ الذي هو ركنٌ من أركانِ الحجِ لا يـُجبَرُ بدمٍ أي بذبحٍ إن فاتَ لأنَّ وقتَهُ واسعٌ، لكنْ أفضلُ أيامِهِ يومُ العيدِ، فمَنْ لَـمْ يَطُفْ طوافَ الفرضِ في خلالِ أيامِ التشريقِ طافَ أي يومَ شاءَ بعدَ ذلكَ لو بعدَ شهرٍ أو شهرينِ أو ثلاثةٍ أو أكثرَ.
والسعيُّ مثلُهُ ليسَ وقتُهُ ضيقًا بل واسعٌ إن شاءَ يسعَى عقبَ طوافِ القدومِ أولَ ما يدخلُ مكةَ وإن شاءَ يسعَى عقبَ طوافِ الفرضِ، والحلقُ أو التقصيرُ يجوزُ فعلهُمَا كالطوافِ بعد شهرٍ أو شهرينِ أو ثلاثةٍ أو أكثرَ.
فلَمَّا كانَ العملُ الذي وقتُهُ ضيقٌ هو الوقوفُ بعرفةَ فقط قالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: "الحجُّ عرفةُ " ليسَ معناهُ أنَّ مَنْ وَقَفَ بعرفةَ ثبتَ لهُ الحجُّ من غيرِ توقفٍ على أعمالٍ أخرَى بل لا بدَ من الإحرامِ الذي هو النيةُ، أي نيةُ الدخولِ في النُسكِ ومن طوافِ الفرضِ والسعيِ والحلقِ أو التقصيرِ.
قولُهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ : "إنَّ من أفضلِ أيّامكُم يومَ الجمعةِ" هو لبيانِ أنَّ هناكَ أيامٌ فاضلةٌ غيرُ يومِ الجمعةِ وإنْ كانَ يومُ الجمعةِ يختصُ بِـمزايَا ليستْ لتلكَ الأيامِ الفاضلةِ سواهُ، أي من بينِ الأيامِ الفاضلةِ سواهُ. ومن الأيامِ الفاضلةِ عشرُ ذي الحجةِ أي من أولِ شهرِ ذي الحجةِ إلى العاشرِ من يوم العيدِ، كلُّ هذهِ الأيامِ لَـهَا فضلٌ عندَ اللهِ تعالى فإنَّ عملَ البِرِ والإحسانِ في هذهِ الأيامِ يزكُو ويزيدُ على ما سواهُ، لذلك قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "ما من أيام العمل فيهَا أحبُّ إلى اللهِ من عشرِ ذي الحجةِ" فيُفهمُ أنَّ الأعمالَ الصالحةَ في هذهِ الأيامِ تزكُو عندَ اللهِ تعالى أكثرَ مِـمَّا إذا عُمِلتْ في غيرِهَا، نعودُ إلى شرحِ حديثِ: "إنَّ من أفضلِ أيّامكُم يومَ الجمعةِ فيهِ خُلقَ ءادمُ وفيهِ قُبِضَ وفيهِ النفخةُ وفيهِ الصعقةُ". هذهِ الأمورُ الأربعةُ أمورٌ عظامٌ.
أمَّا ءادمُ فلأنهُ أولُ النوعِ البشريّ الذي فضلّهُ اللهُ على سائرِ أنواعِ المخلوقاتِ فهو أفضلُ من النوعِ الملكِي ومن النوعِ الجنِـي، بِـما أنَّ أنبياءَ اللهِ من البشرِ، من أفرادِ هذا النوعِ الكريمِ على اللهِ تعالى خُلِقَ في هذا اليومِ أي في يومِ الجمعةِ. وتمامُ خلقِ ءادمَ عليه السلامُ كانَ في الجنةِ، فقد روى الحاكِمُ في مستدركه " إنَّ ءادمَ لَـمْ يمكثْ في الجنةِ إلا ساعةً من العصرِ إلى الغروبِ" لكنْ تلكَ الساعةُ وَرَدَ أثرٌ بأنهَا مقدارُ مائةٍ وثلاثينَ عامًا لأنَّ تلكَ الأيامَ الستةَ التي خَلَقَ اللهُ فيها الأرضَ والسمواتِ وخَلَقَ ءادمَ في ءاخرِ الخلقِ، كلُّ يومٍ منهَا قدرُ ألفِ سنةٍ بتقديرِ أيامِنَا هذهِ فكانَ مدةُ مُكثِ ءادمَ في الجنةِ بعد نفخِ الروحِ فيه إلى أنْ نزلَ إلى الأرضِ مائةً وثلاثينَ عامًا.
وهذا معنى قولِهِ عليه الصلاةُ والسلامُ: "فيهِ خُلِقَ ءادم" وإنَّـما أُخّـِرَ خَلقُهُ إلى ءاخرِ ذلكَ اليومِ الذي هو ءاخرُ الأيامِ الستِ التي خُلِقَتْ فيهَا السمواتُ والأرضُ لأنَّ ءادمَ صفوةُ الخلقِ، أي أفضلُ مِـمَّا خُلِقَ قبلَهُ، أفضلُ من الملائكةِ وأفضلُ من غيرِهِم فكانَ مناسبًا أن يكونَ ءاخرَ الخلقِ في تلكَ الأيامِ الستةِ.
كمَا أن مُـحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم الذي هو سيدُ الخلقِ سيدُ العالَمِينَ على الإطلاقِ وإمامُ الأنبياءِ وأشرفُ المرسلينَ خُلِقَ ءاخرَ الأنبياءِ لَـمْ يبعثْ إلا بعدَ أنْ بُعِثَ جميعُ الأنبياءِ، وفي ذلكَ مناسبةٌ مع صفةِ شرابِ أهلِ الجنةِ الذي وصَفَهُ اللهُ بقولِهِ: ﴿خِتامهُ مِسْكٌ﴾ (سورة المطففين/ ءاية 26)، فليسَ الفضلُ عندَ اللهِ تبارك وتعالى بطولِ عُمُرِ العبدِ من عبادِ اللهِ الصالِـحِينَ، إنَّـمَا الفضلُ بتفضيلِ اللهِ، فسيدُنَا ءادمُ عليهِ السلامُ عاشَ ألفَ سنةٍ ونوحٌ عليهِ السلامُ عاشَ أكثرَ من ذلكَ ومع ذلكَ فليسَا أفضلَ الأنبياءِ، ولو كانَ الفضلُ بطولِ العمرِ لكانَ أفضلَ الأنبياءِ هو الخضرُ على القولِ بِـحياتِهِ، أي أنهُ لَـمْ يَـمُتْ بعدُ وهو قولُ أكثرِ العلماءِ وهو نبيٌّ على القولِ الصحيحِ، هو أطولُ عُمُرًا من هذينِ النبيينَ ومن سائرِ البشرِ ومع ذلكَ فليسَ هو أفضلُ الأنبياءِ إنما أفضلُ الأنبياءِ هم خمسةٌ.
روى الحاكمُ في المستدركِ عن أبي هريرةَ رضي اللهُ عنهُ أنهُ قالَ "خِيَارُ الأنبياءِ خمسةٌ مُـحَمَّدٌ وإبراهيمُ وموسَى ونوحٌ وخيارُ الخمسةِ مُـحَمَّدٌ" كان سيدُنَا مُـحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أقلَّ الأنبياءِ عمرًا، عاشَ بعد نزولِ النبوةِ عليهِ ثلاثةٌ وعشرينَ عامًا، مع ذلكَ اللهُ فضلّهُ على غيرهِ من الأنبياءِ الذينَ فيهِم ءادمُ الذي كانَ عمرُهُ ألفَ سنةٍ ونوحٌ الذي كان عمرُهُ ألفًا وزيادةً قيلَ إلى سبعمائةٍ وخمسينَ فوقَ الألفِ وقيل أقلَّ من ذلكَ، فالفضلُ ليس إلا بتفضيلِ اللهِ تعالى، فهو تباركَ وتعالى له أنْ يفضِلَ من يشاءُ من خلقِهِ، لا يقالُ من كانَ أطولَ عمرًا وأطولَ عبادةً هو أفضلُهُم، لو كانَ الأمرُ كذلكَ لَـمْ يكنْ سيدُّنَا مُـحَمَّدٌ أفضلَهُم وسيدَهُم وأشرفَهُم وأكرمَهُم على اللهِ تعالى.
ولكونِ أمةِ مُـحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ءاخرَ الأممِ كمَا أن نبيَّهُم ءاخرُ الأنبياءِ فإنهم لَـمْ يُذكَرُوا في الأممِ الماضينَ إلا بالمدحِ ما ذُكروا بالذّمِ.
وقد ذَكَرَ اللهُ تعالى كثيرًا من الأممِ من المساوئ ما قصَّ اللهُ تعالى علينَا في القرءانِ عمَّا فعلَ قومُ هودٍ وماذا فعلَ قومُ صالِحٍ وماذا فعل قومُ إبراهيمَ وماذا فعلَ قومُ موسَى وماذا فعلَ بنُو إسرائيلَ بعيسَى، اللهُ تعالى فضحَهُم، ذكرَ لنَا مساوِءهُم، أما أمة فلم تُفضحْ في أمةٍ من الأممِ الماضينَ بل ذُكروا بالمدحِ والثناءِ.
وأمَّا ءادمُ عليهِ السلامُ قُبِضَ يومُ الجمعةِ فهو أمرٌ متفقٌ عليهِ ليسَ في ذلكَ خلافٌ لورودِ هذا النصِ الحديثي الصحيحِ.
وأمَّا أنَّ النفخةَ فيهِ فالمرادُ بَـها النفخُ في الصورِ أي البوقِ الذي وُكّلَ إسرافيلُ بالنفخِ فيهِ.
وأما قولُهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ "وفيهِ الصعقة" فهي الموتُ بالنسبةِ لقسمٍ من العبادِ والغشيةِ بالنسبةِ لبعضٍ لأنهُ يحدثُ من النفخةِ أمرانِ:
قسمٌ من الخلقِ وهم الذينَ تُدركُهُم النفخةُ وهم أحياءٌ على وجهِ الأرضِ فيموتُونَ في هذهِ النفخةِ وذلكَ شاملٌ للإنسِ والجنّ الذينَ يكونُونَ ذلكَ الوقتَ أحياءً، وأمَّا الصعقةُ التِي هي غشيةٌ ليسَتْ موتًا فهِيَ لِمَنْ كانَ قد ماتَ قبلَ ذلكَ من الأنبياءِ وغيرِهِم فإنَّهُم يُصعقُونَ أي يُغشَى عليهِم لا يعادُ عليهِم الموتُ مرةً ثانيةً لأَنَّـهُم قد ماتُوا إلا أنهُ وردَ في حَقِ موسَى احتمالانِ من الرسولِ أحدُهُما أنهُ ذَكَرَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: أن موسَى يجوزُ عليهِ أن يغشَى عليهِ كمَا أُغشِيَ على غيرِهِ عندَ النفخةِ من الذينَ ماتُوا قبلَ ذلكَ وهُم جميعُ الأنبياءِ، والاحتمالُ الثانِي أنهُ لا يُغشَى عليهِ بل يكونُ جُوِزَي أي جازاهُ اللهُ تعالى بإنقاذِهِ واستثنائِهِ من الغَشيةِ عندَ النفخةِ لأنَّهُ صُعِقَ بالطورِ لَما رَأَي الجبلَ اندكَّ أي صارَ مستويًا بالأرضِ بتَجَلّي الله لهُ. صَعِقَ موسَى أي غُشي عليه. ومعنَى تَـجَلَّى اللهُ للجبلِ أنَّ اللهَ خَلَقَ في الجبلِ إدراكًا وحياةً ورؤيةً للهِ فرَأَى ربَهُ، اللهُ تعالى خَلَقَ فيهِ الرؤيةَ لكنَّهُ اندَكَّ من شدةِ خشيتِهِ مِنَ اللهِ تعالى، وهذهِ الجماداتُ اللهُ تبارك وتعالى يَـخلُقُ في بعضِهَا في بعضِ الأوقاتِ إدراكًا وحياةً ثم تعودُ إلى حالتِهَا ومن الدليلِ على ذلكَ قولُهُ تعالى: ﴿وإنّ منهَا لَـمَا يَهبِطُ من خشيةِ اللهِ﴾ (سورة البقرة/ءاية 74).
وقد صَحَّ عن النبيّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أنَّ الثلاثةَ من الذينَ كانُوا مِـمَّن قبلنَا أي قبلَ هذهِ الأمةِ من المؤمنينَ أَوَوْا إلى الغارِ أي لَـجأُوا إليهِ فلَمَّا دخلُوهُ نزلَتْ صخرةٌ من أعلَى الجبلِ فسدَتْ عليهِم فمَ الغارِ، والرسولُ قالَ إنَّ هذا الحجرَ من الحَجرِ الذي يَهبِطُ من خشيةِ اللهِ، وهؤلاءِ مؤمنُونَ، لكنْ اللهُ تعالى ابتلاهُم لأنهُ يبتَلِي المؤمنينَ في هذهِ الدنيَا بأشياءَ من البلاءِ وهؤلاءِ ارتعبُوا ارتعابًا شديدًا لَمَا أصابَـهُم هذا البلاءُ وهو انسدادُ فمِ الغارِ الذي دخلُوهُ عليهِم بحيثُ لا يقدرُونَ الخروجَ منهُ، فقالَ بعضُهُم لبعضٍ: ليسألْ كُلٌّ منَا ربَّهُ الفرجَ بعملٍ صالِحٍ قدمَهُ، فكلُ واحدٍ من الثلاثةِ ذَكَرَ عَمَلا صَالِـحًا قدمَهُ قبلَ ذلكَ ففَرّجَ اللهُ عنهُم بأنْ انزاحَتْ الصخرةُ فخرجُوا سالمينَ. ولولا أنَّ اللهَ فَرَجَ عليهِم لتَلِفُوا وهَلَكُوا. واللهُ سبحانَهُ وتعالى أعلمُ.
اللهم ربنا ءاتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم أغفر لنا وارحمنا وعافنا واعف عنا، اللهم اجعلنا من المحسنين الذكارين الأوابين الشكارين لك، واغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان والحمد لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن وصل اللهم على سيدنا مُـحَمَّد وعلى ءاله وسلم، سبحان ربك رب العزة عما يصيفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.