فائدة في بيان علم الكلام المذموم وعلم الكلام الممدوح

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الحافظ البيهقي في شعب الإيمان في باب القول في إيمان المقلّد والمرتاب ما نصه: "أخبرنا أبو طاهر الفقيه، أنبأنا أبو بكر محمد ابن الحسين القطان، أنبأنا أحمد بن يوسف السلمي، حدثنا محمد بن يوسف الفريابي، حدثنا سفيان، عن جعفر بن برقان، عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه سأله رجل عن شىء من الأهواء فقال: "عليك بدين الأعرابي الغلام في الكُتّاب وَالْهُ عمن سوَاه".

قال الإمام البيهقي رحمه الله: "وهذا الذي قاله عمر بن عبد العزيز قاله غيره من السلف فإنما هو لأنهم رأوا أنه لا يحتاج إليه لتبيين صحَّة الدين في أصله، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بُعِثَ مؤيدًا بالحُجج فكانت مشاهدتُها للذين شاهَدُوها، وبلاغُها المستفِيضُ ومن بَلغَه كافيًا في إثبات التوحيد والنُّبُوَّة معًا عن غيرها، ولم يأمَنُوا أن يوسع الناس في علم الكلام، وأن يكون فيهم مَن لا يكملُ عقلهُ ويضعُفُ رأيُه فيرتبك في بعض ضَلالة الضالين وشُبَه الملْحدين، ولا يستطيع منها مَخْرجًا كالرجل الضعيف غير الماهر بالسباحة إذا وَقَع في ماءٍ غامرٍ قويّ لم يُؤمَنْ أن يَغْرق فيه، ولا يقدر على التخلُّص منه، ولم يَنْهَوا عن علم الكلام لأنَّ عينه مذموم أو غير مفيد؛ وكيف يكون العلم الذي يُتوصل به إلى معرفة الله عزَّ وجلَّ وعلم صفاته ومعرفة رسله والفرق بين النبيّ الصادق وبين المُتَنَبّىء الكاذب عليه مذمومًا أو مرغوبًا عنه؟ ولكنهم لإشفاقهم على الضُّعفاء لئلا يبلغوا ما يريدون منه فيضِلُّوا نَهَوْا عن الاشتغال به. ثم بسط الحليمي رحمه الله تعالى الكلام في التحريض على تعلُّمه إعدادًا لأعداء الله عزّ وجل.

وقال غيره في نهيهم عن ذلك: إنما هو لأن السَّلف من أهل السُّنَّة والجماعة كانوا يكتفون بمعجزات الرسل صلوات الله عليهم على الوجه الذي بيّنا، وإنما يشتغِلُ في زمانهم بعلم الكلام أهلُ الأهواء، فكانوا يَنْهَون عن الاشتغال بكلام أهل الأهواء. ثم إنَّ أهل الأهواء كانوا يَدَّعون على أهل السُّنَّة أنَّ مذاهبهم في الأصول تخالف المعقول، فقيَّض الله تعالى جماعة منهم للاشتغال بالنظر والاستدلال حتى تَبحروا فيه، وبينوا بالدلائل النيرة والحجج الباهرة أن مذاهب أهل السنَّة توافق المعقول كما هي موافقة لظاهر الكتاب والسنّة، إلا أنَّ الإيجاب يكون بالكتاب والسنّة فيما يجوز في العقل أن يكون غير واجب دون العقل. وقد كان من السلف من يشرع في علم الكلام ويَرُدُّ به على أهل الأهواء.

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أحمد بن سهل، ثنا إبراهيم بن معقل، ثنا حَرملة، ثنا ابن وهب، ثنا مالك أنه دخل يومًا على عبد الله ابن يزيد بن هرمز فذكر قصة، ثم قال: وكان ه يعني ابن هرمز ه بصيرًا بالكلام، وكان يردُّ على أهل الأهواء، وكان من أعلم الناس بما اختلفوا فيه من هذه الأهواء".ا.هـ.