من إملاءات المحدّث الهرري كتاب سلسلة الذهب - الجزء الأول
 فوائدُ عن البدعةِ وعلمِ الكلامِ

فوائدُ عن البدعةِ وعلمِ الكلامِ

سلسلة الذهب - الجزء الأول

سلسلة_الذهب الحمدُ للهِ ربِ العالمينَ والصلاةُ والسلامُ الأتمانِ الأكملانِ على المصطفى الماحي المظلَّلِ بالغمامِ سيدِنا محمدٍ طهَ الأمينِ وعلى صحابتِه الشُمِّ الكرامِ الهداةِ المهتدينَ ومن تَبِعَهُم وسارَ على دربِهِم إلى يومِ الدينِ.
أما بعد، فإن أحسنَ الحديثِ كتابُ اللهِ تعالى وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ، وشرَّ الأمورِ محدثاتهُا وكلُّ محدَثةٍ بدعةٌ وكلُّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلُ ضلالةٍ في النارِ.
المحدَثاتُ التي هي ضلالةٌ هي ما كانَ مخالفًا للكتابِ والسنةِ (أي القرءانِ والحديثِ) والإجماعِ. ما أحدثَهُ الناسُ في الدّينِ قسْمانِ: قسمٌ موافقٌ للقرءانِ والسنةِ وقسمٌ مخالفٌ، فما كانَ موافقًا للقرءانِ والحديثِ فهو مقبولٌ ليسَ مذمومًا بلْ قدْ يكونُ واجبًا وذلك مثلُ علمِ النحوِ، علمُ النحوِ لمْ يكنْ أيامَ الصحابةِ، لمْ يكنْ مشروحًا موسَّعًا. الصحابةُ ما كانوا يحتاجون للنحوِ لأنَّ لغتَهم موافقةٌ للنحوِ بدونِ دراسةِ النحوِ، الذين كانوا أمّيينَ منَ الصحابةِ كانَ نطقُهم بلغتِهم موافقًا للنحو، من دونِ أن يتعلموا النحوَ، من طبيعتِهم كانَ كلامُهم موافقًا للنحوِ، ثم لما اختلطَ العربُ والعجمُ تغيرتِ اللغةُ فصارَ اللحنُ شائعًا في أفواهِ المسلمينَ العربِ وغيرِهِم، وتعلمُ النحوِ فرضٌ على الكفايةِ، وأمَّا من يقرأُ الحديثَ النبويَّ فمعرفتُه بالنحوِ فرضُ عينٍ، لأنَّه إذا لم يعرفِ النحوَ وأرادَ أنْ يقرأَ حديثًا من أحاديثِ الرسولِ عليهِ السَّلامُ من كتابٍ قد يقرأُه على ما يفسِدُ معنى الحديثِ، على ما يُغيّر معنى الحديثِ، فيكونُ كذبَ على الرسولِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم، الذي لم يتعلمِ النحوَ لا يجوزُ له أن يقرأَ الحديثَ النبويَّ إلا أن يجدَ كتابًا مضبوطًا حروفُه وشكلُه، الضمةُ والفتحةُ والكسرةُ والسكونُ، والذي ضبطَه يكونُ عالما ثقةً، فإنْ حصلَ على هذا الكتابِ من كتبِ الحديثِ يجوزُ قراءتُه فيقولُ قالَ رسول الله كذا وكذا. لأنَّ في اللغةِ العربيةِ الكلمةُ الواحدةُ تكونُ مضمومةً ومفتوحةً ومجرورةً على حسبِ المعاني، هذا لا يوجدُ في غيرِ اللغةِ العربيةِ، مثالُ ذلكَ " ما أحسن زيد "، إن قُرئَتْ هذه الجملةُ بفتحِ النونِ والدالِ أي "ما أحسنَ زيدًا" يكون معناهُ تعجبًا من حُسن زيدٍ. وإن قرئت بضم النونِ وكسرِ الدالِ أي " ما أحسنُ زيدٍ " يكون المعنى ما هو الجزءُ الذي من زيدٍ أحسنُ، يكون سؤالا عن أحسنِ جزءٍ في زيدٍ. وإن قرئَ "أحسنَ " بالفتحةِ و" زيدٌ" بالرفعِ أي بالضمةِ يكونُ المعنى نفيَ الإحسانِ من زيدٍ، ويكونُ اللفظُ "ما أحسنَ زيدٌ" معناه ما عمل زيدٌ عملا حسَنًا. هذه الجملةُ "ما أحسن زيد" تحتملُ ثلاثةَ أوجهٍ منَ المعاني. أما إذا سكنتِ النونُ والدالُ لا يفهمُ منه واحدٌ من هذه المعاني الثلاثةِ.
فإذا قيلَ "ما أحسنْ زيدْ" بتسكينِ النونِ وتسكينِ الدالِ المعنى مبهَمٌ لا يُعرفُ على أي معنى يكون.
كذلِكَ من الواجِبِ الكفائيّ أي مما هو فرضٌ على الكفايةِ وجودُ أناسٍ في المسلمينَ يقرّرونَ عقيدةَ أهلِ السنةِ بالدليلِ العقليِّ والدليلِ النقليِّ، مسائلُ التوحيدِ فرضٌ على المسلمين أن يكونَ فيهم من يُحسنُ تقريرَ عقيدةِ أهلِ السنةِ بالدليلِ القرءانيّ والحديثيّ لأنَّ منْ لمْ يتعلمْ هذا قد يُشكّكُه ملحِد من الملحدينَ في الدّين فيفسِد عقيدتَه.
ولهذا كثُر في هذا الزمنِ المنحرفونَ عن العقيدة وبعضُ الناس يذهبون مع المشبهةِ المجسمةِ نُفاةِ التوسلِ، وبعض الناسِ يذهبون مع جماعةِ سيد قطب، ومنهم من يتبعُ حزبَ التحريرِ. فواجبٌ أن يوجدَ في المسلمين كلَّ زمنٍ من يستطيعُ الردَّ على المخالفينَ للعقيدةِ لحفظِ الدينِ على المسلمين، لحفظِ دينِهم. هذا العِلمُ يقالُ لهُ علمُ الكلامِ، فعلمُ الكلامِ الذي يشتغلُ به أهلُ السنةِ فرض ٌكفائيٌّ، والمنحرفونَ منَ المنتسبينَ إلى الإسلامِ لهم أيضًا ما يُقَوُّون به عقيدتَهم يستدلونَ بأشياءَ ليستْ هي دليلا، لكن على الجاهل تشبِهُ دليلا.
علمُ الكلام الذي لأهلِ السنةِ ممدوحٌ كانَ الإمامُ الشافعيُ يتقنُه، هو أتقنَ علمَ الدينِ، علمَ القرءانِ والحديثِ والأثرِ، وكانَ يتقنُ هذا، ولكنْ كان يذمُّ علمَ الكلامِ الذي لغيرِ أهلِ السنةِ لأنهم كانوا يَفتِنونَ بعضَ المسلمينَ قديمًا، لكنْ في هذا الزمنِ كثرَ وزادَ. فإذا قال قائلٌ :علمُ الكلامِ مذمومٌ السلفُ ذمّوهُ، يقال له: "السلفُ ما ذمُّوا علمَ الكلامِ الذي لأهل السنةِ، إنما ذمّوا علمَ الكلامِ الذي يشتغلُ به المخالفونَ لمذهبِ أهلِ السنةِ في العقيدةِ". المجسّمةُ يذمونَ علمَ الكلامِ الذي لأهلِ السنةِ وهذا كلامٌ في غيرِ محلّهِ.
أبو حنيفةَ رضي اللهُ عنهُ وهو كانَ من السلفِ اجتمعَ بعددٍ من الصحابةِ، وتعلمَ العلمَ ممنْ هو أكبرُ منهُ ممن تعلموا منَ الصحابةِ، لَـمَّـا ظهرَ في زمانِه أناسٌ في العراقِ مخالفونَ لعقيدةِ أهلِ السنةِ عملَ خمسَ رسائلَ منها كتابٌ في العقيدةِ سمّاهُ الفقهَ الأكبرَ، معناهُ العلمُ الذي هو أفضلُ، لأنهُ تقريرُ عقيدةِ أهلِ السنةِ، العقيدةُ أهمُّ من الفقهِ في الأحكامِ، أبو حنيفةَ ولدَ سنة ثمانينَ هجريةً ثمَّ توفي سنةَ مائةٍ وخمسينَ، وهو أقدمُ الأئمةِ الأربعةِ من حيثُ السنُّ، لأنَّ مالكًا والشافعيَّ وأحمدَ بنَ حنبلٍ لم يلقَوا الصحابةَ. مالِكٌ رضيَ اللهُ عنهُ بينهُ وبينَ الصحابةِ شخصٌ واحدٌ في بعضِ الأحاديثِ، والشافعيُّ بينَه وبينَ الصحابةِ في بعضِ الأحاديثِ اثنانِ، وأمَّا أحمدُ بنُ حنبلٍ يكونُ بينه وبين الصحابةِ لـمّـا يروي الحديثَ ثلاثةٌ.
ثم لـمَّـا كانَ بعضُ الملحدينَ ممن يدَّعون الإسلامَ وممن لا يدَّعون الإسلامَ لا يقتنعون بالدليلِ النقلي أي القرءانِ أو الحديثِ لأنهم يفسرونه على غير وجهِه يلجأُ العالِمُ السُّنيُ إلى دليلٍ عقليٍّ فينكسرُ هذا المنحرفُ بالدليل العقلي.
وهنا فائدة مهمةٌ: يروي بعضُ الناسِ عن أبي حنيفةَ كلامًا ليس من كلامِه مما يضرُّ العقيدةَ، يقول بعضُ الناسِ: إنَّ أبا حنيفةَ جادَلَ بعضَ الملحدين فقال في تقريرٍ "أنَّ اللهَ موجودٌ بلا مكانٍ" إنَّ هذه المسألةَ -أي أنَّ اللهَ موجودٌ بلا مكانٍ- كالحليبِ فإن الحليبَ فيهِ السَّمنُ لكنْ لا يُعرفُ مكانُ السمنِ في الحليبِ، هذا الكلامُ فاسدٌ ضدُ العقيدةِ، لأنَّ هذا إثباتُ المكانِ للهِ تعالى، كأنه يقولُ اللهُ في كلّ مكانٍ وهو ضد عقيدةِ أهلِ الحقّ أنَّ اللهَ موجودٌ بلا مكانٍ.
فمنْ جعلَ اللهَ تعالى على هذهِ الصفةِ يكونُ جعلَ اللهَ متحيزًا في مكانٍ، والحقُّ الذي هو مذهب أبي حنيفة وغيرِه من أهل السنة أن الله ليس متحيزًا في مكان من الأماكن، ولا في جميع الأماكن، ولا متحيزًا في جهةٍ من الجهاتِ الست، وليس متحيزًا في الجهات الست كلها، هذه عقيدةُ أبي حنيفةَ وعقيدةُ أهلِ السنةِ كلّهِم، وكذلِك عقيدةُ أهل السنة أنَّ الله تبارك وتعالى ليس متصلا بالعالـَـم بالمسافةِ ولا منفصِلا عن العالمِ بالمسافةِ، لأنَّ المتصلَ بالشىءِ والمنفصلَ عنه لا بدَّ أنْ يكونَ مثلَه بالمساحةِ أو أكبَرَ منه أو أصغرَ منه، وكلُّ ما كانَ كذلك فهو جسمٌ والجسمُ حادثٌ لا بدَّ.
لأنَّ الشىءَ الذي يكونُ له مقدارٌ يحتاجُ إلى من خصّه بذلك المقدارِ، والله تبارك وتعالى لو كان بحجم العالمِ أو أصغرَ منه أو أكبرَ منه لكان محتاجًا لمن خصَه بذلك الحجمِ والمحتاجُ إلى غيرِه لا يكونُ إلها.
ومما يبينُ ذلك أن الشمسَ جسمٌ له حدٌ ومقدارٌ وشكل ٌوحركةٌ وسكونٌ وهي محتاجةٌ لمنْ جعلَها بهذا الحجمِ والمقدارِ والشكل ِوسائرِ صفاتِها المخلوقةِ، فهي إذا مخلوقةٌ، وخالقُها هو الله تبارك وتعالى الذي لا يوصفُ بأوصافِ المخلوقينَ.
وءاخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربّ العالمينَ.

 

 

سلسة الذهب
harariyy.org

قائمة سلسة الذهب