من كتب العلّامة الهرري كتاب إتحاف الخيرة
 المجلسُ السادس من سنن ابن ماجه

المجلسُ السادس
من سنن ابن ماجه
كل يوم هو في شأن

إتحاف الخيرة

إتحاف_الخيرة الحمدُ للهِ حقَّ حمدِه والصلاةُ والسلامُ على خيرِ خلقِهِ وعلى ءالهِ وصحبهِ الطيبينَ الطاهرينَ. وبعدُ، فقد روينا بالإسنادِ المتصلِ إلى سننِ ابنِ ماجه(1) من حديثِ أبي الدرداءِ رضيَ اللهُ عنهُ عن النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ في قولِهِ تعالى: ﴿كل يوم هو في شأن﴾ [سورة الرحمن/ءاية: 29] قال: «مِنْ شأنهِ أنْ يغفرَ ذنبًا ويُفرِّجَ كربًا ويرفعَ قومًا ويخفِضَ ءاخرينَ»، حديثٌ حسنٌ(2).
رواهُ ابنُ ماجهْ والبيهقيُّ وابنُ حِبَّانَ في الصحيحِ والبَزَّارُ وغيرُهم(3) مرفوعًا من حديثِ أبي الدرداءِ، وله شاهدٌ مرفوعٌ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ أخرجَهُ البزارُ في مسندِهِ (4) وفي إسنادِه ضعيفٌ(5)، ومن حديثِ عبدِاللهِ بنِ مُنيبٍ مرفوعًا أخرجَهُ البزارُ وابنُ جريرٍ والطبرانيُّ وغيرُهم(6).
ورواهُ بعضُهم عن أبي الدرداءِ موقوفًا أخرجَهُ البخاريُّ في صحيحِهِ(7) تعليقًا قالَ أبو الدرداءِ ﴿كلَّ يوم هو في شأن﴾: «يغفرُ ذنبًا ويَكشفُ كربًا ويرفعُ قومًا ويضعُ ءاخرينَ»، والبيهقيُّ في الشُّعَبِ(8) قالَ: «يغفرُ ذنبًا ويَكشفُ كربًا ويُجيبُ داعيًا ويرفَعُ قومًا ويضعُ ءاخرينَ».
وقولُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلمَ في تفسيرِه لهذه الآيةِ يدفَعُ توهُّمَ كثيرٍ من الناسِ حيثُ يظنونَ أنَّ معناها أنَّ اللهَ تعالى يتطورُ في مشيئتِه أي يشاءُ الشىءَ بعد أن كانَ لا يشاؤهُ ولم يكن لهُ بهِ علمٌ وهذا ضلالٌ مبينٌ؛ لأنَّ اللهَ تباركَ وتعالى لا تطرَأُ لهُ صفةٌ حادثةٌ لم تكن في الأزلِ فكلُّ صفاتِه أزليَّةٌ لا يطرَأُ عليها تغيرٌ ولا تبدُّلٌ، فما عَلِمَ اللهُ تبارك وتعالى في الأزلِ أنَّهُ يكونُ لا بُدَّ أن يكونَ، ولا يجوزُ أن تطغى على اللهِ حادثةٌ تُؤدي إلى تغيرِ علمِه الأزليِّ، ولا تطرَأُ له صفةٌ تؤدي إلى تغيرِ مشيئتهِ الأزليةِ، فهو سبحانَهُ لا يلحقُهُ تغيرٌ في ذاتهِ ولا في صفاتهِ الثابتةِ لهُ من علمِهِ وقدرتهِ ومشيئتِه وغيرِ ذلكَ، إنما هو يُغيرُ المحدَثاتِ على حسبِ علمِهِ الأزليِّ ومشيئتِهِ الأزليةِ، يُغيرُ المحدَثاتِ من غيرِ أن تتغيرَ مشيئتُه ولا علمُهُ، فلا يتصفُ بعلمٍ حادثٍ؛ لأنَّهُ لو جازَ اتصافُهُ بالحوادثِ لانتفى عنه القِدمُ؛ لأنَّ ما كانَ محلاًّ للحوادثِ لا بُدَّ أن يكونَ حادثًا، تعالى اللهُ عن ذلكَ.
وفي القرءانِ الكريمِ ءاياتٌ قد يَتوهَّمُ منها من لم يُحَصِّلْ علمَ الاعتقادِ من أهلِ السنةِ والجماعةِ أنَّ اللهَ تعالى يَحدُثُ لهُ علمٌ لم يكنْ له بهِ علمٌ كقولِهِ تعالى: ﴿الئٰنَ خَفَّفَ اللهُ عنكم وعَلِمَ أنَّ فيكم ضَعْفًا﴾ [سورة الأنفال/ءاية:66] وليسَ هذا المرادُ من هذهِ الآيةِ، بل معناها أنَّ اللهَ تباركَ وتعالى خَفَّفَ عنهم في ذلكَ ما كان ثقيلا عليهم، وذلكَ أنَّهُ كان فرضًا عليهم أن لا يفِرَّ الشخصُ منهم من عشرةٍ من الكفارِ في القتالِ، ثم نُسِخَ ذلكَ بأن خَفَّفَ اللهُ تعالى ذلكَ إلى أنْ فَرَضَ عليهم ثبوتَ واحدٍ لاثنين منَ الكفارِ وهذا المرادُ منْ قولِه تعالى: ﴿الئٰنَ خَفَّفَ اللهُ عنكم﴾.
وأمَّا قولُهُ: ﴿وعَلِمَ أنَّ فيكُم ضَعْفًا﴾ فليسَ راجعًا لقولِه: ﴿الئٰنَ﴾ وإنما معناهُ أنَّهُ تعالى عَلِمَ بعلمِهِ السَّابقِ في الأزلِ أنَّكُم تَضْعُفون عن ذلك أي تُقاسونَ مشقةً في لزومِ مقاومةِ الواحدِ منكم العشرةَ من الكفارِ في حالِ القتالِ فلذلكَ خَفَّفَ عنهم، فأفعالُ الماضي وفعلُ المضارعِ والأمرِ إذا أُضيفَ إلى اللهِ تبارك وتعالى تجرَّدَ عن الزمانِ بالنسبةِ إلى ذاتِ اللهِ تعالى من حيثُ اتصافُ الذاتِ بهِ، فلا يُقالُ هذا فعلٌ مضارعٌ إذن اللهُ تعالى يحدُثُ لهُ صفةٌ لم تكن في الأزلِ، كقولِه تعالى: ﴿حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين﴾ [سورة محمد/ءاية:31] فلا يُرادُ بها أنَّ اللهَ تعالى سوفَ يعلمُ المجاهدينَ بعدَ أن لم يكن عالِمًا بهم بالامتحانِ والاختبارِ وهذا مستحيلٌ على اللهِ، بل المعنى لَنبلونَّكُم حتى نَمِيزَ للخلقِ من يُجاهدُ ويصبرُ من غيرِهم، فالقرءانُ الكريمُ تَرِدُ فيه أساليبُ منَ التعبيرِ بعضٌ منها يُوهمُ مَنْ لم يُهَذِّبْ نفسَهُ بمعتقدِ أهلِ السنةِ والجماعةِ الذي هو أنَّ اللهَ تباركَ وتعالى أزليُّ الذاتِ والصِّفاتِ فيَظُنُّ منها أنَّ اللهَ تطرَأُ عليه صفاتٌ حادثةٌ تعالى اللهُ عن ذلكَ، فَلْيُوَطِّدِ المؤمنُ نفسَهُ واعتقادَهُ على معتقدِ أهلِ السنةِ والجماعةِ ففيهِ الخلاصُ والنجاةُ فيجبُ الثباتُ عليه بدونِ تزحزحٍ؛ لأنَّ من تزحْزَحَ عنهُ ضلَّ وهلَكَ.
ثمَّ في قولِه صلى اللهُ عليه وسلَّم: «مِن شأنِه» دليلٌ على أنَّ الشأنَ الذي أرادَ اللهُ تعالى أنَّهُ يُحدثُهُ كلَّ يومٍ ليسَ في هذه المذكوراتِ فقط أي مغفرةِ الذُّنوبِ وتفريجِ الكربِ ورفعِ أقوامٍ من خلقِه وخفضِ ءاخرينَ بل يشملُ ما لا يُحصى كإحياءِ من لم يكن حيًّا وإماتةِ من كانَ حيًّا وإغناءِ من كانَ فقيرًا وإفقارِ من كانَ غنيًّا وإصحاحِ من كان مريضًا وإمراضِ من كان صحيحًا إلى غيرِ ذلك، فإن نبيَّنا عليه الصلاةُ والسلامُ أُوتيَ جوامعَ الكَلِمِ وخواتِمَه أي أنَّ اللهَ تعالى أعطاهُ من الفصاحةِ والبلاغةِ ما يجمعُ بهِ معانيَ كثيرةً بلفظٍ موجزٍ.
واللهُ سبحانَه وتعالى أعلمُ وأحكمُ.
------------------

1- رواهُ ابنُ ماجهْ في سننهِ (202): المقدمةُ: يابُ فيما أنكرتِ الجهميةُ.
2- مصباحُ الزجاجةِ (1/70).
3- رواهُ البيهقيُّ في شعبِ الإيمانِ (2/36)، والأسماءِ والصفاتِ (ص /77)، وابنُ حبانَ في صحيحِه انظرِ الإحسانَ بترتيبِ صحيحِ ابنِ حبانَ (2/38)، والبزارُ في مسندِه انظرْ كشفَ الأستارِ (3/73)، وابنُ أبي عاصمٍ في السنةِ (ص /130)، وأبو الشيخِ في العظمةِ (ص/89).
4- انظرْ كشفَ الأستارِ (3/74).
5- هو ابنُ البيلمانيِّ قالَ ابنُ حجرٍ في التقريبِ (ص /573): «ضعيفٌ وقد اتهمَهُ ابنُ عديٍّ وابنُ حبانَ».
6- رواهُ الطبرانيُّ في المعجمِ الأوسطِ (7/14)، والبزارُ في مسندِه انظرْ كشفَ الأستارِ (3/74)، قالَ الهيثميُّ في مجمعِ الزوائدِ (7/117): «رواهُ الطبرانيُّ في الكبيرِ والأوسطِ والبزارُ وفيهِ من لم أعرفْهم»، ورواهُ ابنُ جريرٍ في تفسيرِه (27/79)، وأبو الشيخِ في العظمةِ (ص /90).
7- صحيحُ البخاريِّ: كتابُ التفسيرِ: سورةُ الرحمنِ.
8- رواه البيهقي في شعب الإيمان (2/36).