المجلس التاسع
من سنن البيهقي
كل مولود يولد على الفطرة

إتحاف الخيرة

إتحاف_الخيرة الحمد لله والصلاة والسلام على سيد الأنام وعلى ءاله وأصحابه الأخيار وبعد فقد رُوّينا بالإسناد المتصل إلى سنن البيهقي رحمه الله تعالى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال(1): «كل مولود يولد على الفطرة» الحديث.
والحديث رواه أيضاً البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وأحمد ومالك والحُميدي وأبو نعيم وغيرهم كلهم من حديث أبي هريرة(2).
ومعنى قوله: «يولد على الفطرة» وفي لفظ(3) «يولد على الملة» على مقتضى العهد الذي أُخذ عليه يوم أخرج الله تعالى أرواح بني ءادم من ظهر ءادم عليه السلام فاستنطقهم فقال ألست بربكم قالوا بلى لا إله لنا غيرك، وإنما أبواه يميلان به إلى أحد الجانبين، لذا فإن تربية الأولاد من أهم الأمور وأوكدها فالولد أمانة عند والديه وقلبه قابل لكل ما نقش ونائل إلى كل ما يُمال به إليه فإن عُوّد الخير وعُلّمَهُ نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة وشاركه في ثوابه أبواه، وإن عُوّد الشر وأُهمل إهمال البهائم شَقِيَ وهلك.
وصيانة الأولاد تكون بتأديبهم وتهذيبهم وتعليمهم ما لا بد منه من العلم الشرعي ومحاسن الأخلاق وبحفظهم من قرناء السوء قال الله تعالى ﴿يا أيها الذين ءامنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة﴾ [سورة التحريم] وقد فسَّرها علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقوله: «علموا أنفسَكم وأهليكم الخير»(4).
وهذا الخير هو علم الشريعة علم العقيدة بالأولوية لأن العقيدة كالأساس للبناء وأن البناء بلا أساس لا يكون متينًا فأعمال الخير كلها لا تثبت إلا بالإيمان ومعرفة الله تعالى ورسوله الذي هو الأصل الذي لا بديل له.
ومما ينبغي أن لا يُعَوّد الصبي التنعم ولا يُحبب إليه الزينة وأسباب الرفاهية فيضيع عمره في طلبها إذا كبر، وينبغي مراقبتهم من أول أمرهم فلا يستعمل في حضانة الولد وإرضاعه إلا امرأة صالحة متدينة تأكل الحلال فإن اللبن الحاصل من الحرام لا بركة فيه، ثم يُراقَب طبعه فإن كان يَحتَشِم ويستحي من شىء دون شىء ويتركُ بعضَ الأفعال فهذه بشارة تدل على اعتدال الأخلاق وصفاء القلب.
وينبغي أن يُؤَدَّب بالأخلاق الحميدة فلا يأخذ الطعام إلا بيمينه وأن يقول عليه «بسم الله» عند تناوله، وأن يأكل مما يليه، وأن لا يبادرَ إلى الطعام قبل غيره، ويُقبحَ عنده كثرة الأكل، ويُحببَ إليه قلة المبالاة بالطعام والقناعةُ بالقليل منه ولبسُ الثياب البيض، ويُحفظ عن الصبية الذين عُوّدوا التنعمَ والرفاهية ولبسَ الثياب الفاخرة.
وليُعلم أن الصبي الذي يُهْمَل في ابتداء نشوئه يخرج في الأغلب رديء الأخلاق فيُحفظ عن جميع ذلك بحسن التأديب، ثم حين يبلغ سن التمييز يُشغل بتعلم علم الدين، وأول ما يُعلم تنـزيه الله تبارك وتعالى عن مشابهة المخلوقين وما يتبع ذلك من الاعتقاديات ثم أحكام الطهارة والصلاة ويؤمر بها وبالصوم إن أطاقه، ثم يُعلَّم ما يحرم على البطن واللسان واليد والرجل والعين والقلب والبدن ويخوَّف منها، ثم يُعلَّم القرءان الكريم ولا يُقال ما يقوله بعض الجهلة من الناس «ما زال صغيراً لا يعي ما تعطونه إياه» فهؤلاء يقال لهم ما قاله الغزالي في كتابه «إحياء علوم الدين» بعد أن ذكر مسائل الاعتقاديات(5): «واعلم أن ما ذكرناه ينبغي أن يُقدم إلى الصبي في أول نشوئه فيحفظه حفظًا ثم لا يزال ينكشف له معناه في كبره شيئًا فشيئًا».
ويُعلم طاعة والديه ومعلميه لأنه إن نشأ على هذا كان هذا الكلام عند البلوغ مؤثرًا، وإن كان بخلاف ذلك حتى ألِفَ كثرة اللعب والوقاحة وشره الطعام والتزين بَعُد عن قبول الحق وهذا الأخير لا يكون بدون جهد من الوالدين، فلا يتذرع الواحد منا بالانشغال وكثرة الهموم والبلاء والمصائب لأن تربية الأولاد أحق بأن يُفرغ لها الوالدان الجهدَ والوقتَ المطلوب، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبيه الأمين وءاله وصحبه الطيبين الطاهرين.
------------------

1- رواه البيهقي في سننه (6/203).
2- رواه البخاري في صحيحه (1385): كتاب الجنائز: باب ما قيل في أولاد المشركين، ومسلم في صحيحه (2658): كتاب القدر: باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين ولفظه: «ما من مولود»، وأبو داود في سننه: كتاب السنة (4714): باب في ذراري المشركين، والترمذي في سننه (2138): كتاب القدر: باب ما جاء كل مولود يولد على الفطرة وحسنه ولفظه عنده: «كل مولود يولد على الملة»، وأحمد في مسنده (2/233)، ومالك في الموطأ (1/241)، والحميدي في مسنده (2/473)، وأبو نعيم في حلية الأولياء بلفظ: «ما من مولود»، والخطيب في تاريخ بغداد (7/355).
3- رواه الترمذي في سننه (2138): كتاب القدر: باب ما جاء كل مولود يولد على الفطرة وحسَّنه.
4- المستدرك (2/494) وصححه وأقره الذهبي.
5- إحياء علوم الدين بهامش إتحاف السادة المتقين (2/42).