المجلسُ الثالثُ
من سننِ أبي داودَ
وإيَّاكم ومُحدثاتِ الأمورِ

إتحاف الخيرة

إتحاف_الخيرة قالَ رحمَهُ اللهُ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ لهُ النعمةُ وله الفضلُ ولهُ الثناءُ الحسنُ صلواتُ اللهِ البرِّ الرَّحيمِ على نبيِّنَا أشرفِ الأنبياءِ والـمُرسلينَ وءالِه وصحبهِ الطيبينَ الطاهرينَ. وبعدُ، فقد روينا بالإسنادِ المتصلِ إلى سننِ أبي داودَ (1) من حديثِ العِرباضِ بنِ ساريةَ رضيَ اللهُ عنهُ عن النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلمَ أنه قالَ: «وإيَّاكم ومُحدثاتِ الأمورِ فإنَّ كلَّ مُحدَثةٍ بدعةٌ وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ».
ورواهُ الترمذيُّ في جامعِهِ وأحمدُ والبيهقيُّ وابنُ حبانَ والحاكمُ وصحَّحاهُ والطبرانيُّ وغيرُهم كلُّهم من حديثِ العرباضِ بنِ ساريةَ(2) .
ومعنى البدعةِ لغةً ما أُحدِثَ على غيرِ مثالٍ سابقٍ(3)، وشرعًا الْمُحدَثُ الذي لم يَنصَّ عليه القرءانُ ولا جاءَ في السنةِ، قالَ ابنُ العربيِّ المالكيُّ(4): «ليستِ البدعةُ والْمُحدَثُ مذمومَينِ للفظِ بدعةٍ ومحدَثٍ ولا مَعْنَيَيْهِما وإنما يُذمُّ من البدعةِ ما يُخالفُ السنةَ ويُذمُّ منَ المحدثاتِ ما دعا إلى الضلالةِ».
وقد قسَّمَ الشافعيُّ رضيَ اللهُ عنهُ البدعةَ إلى قسمينِ فقالَ(5): «الْمُحدثاتُ من الأمورِ ضربانِ أحدُهما ما أُحدِثَ مما يُخالفُ كتابًا أو سنةً أو أثرًا أو إجماعًا فهذهِ البدعةُ الضلالةُ، والثانيةُ ما أُحدِثَ منَ الخيرِ لا خلافَ فيهِ لواحدٍ من هذا وهذهِ محدثةٌ غيرُ مذمومةٍ»، وهذا التقسيمُ مفهومٌ من حديثِ مسلمٍ(6) «من عَمِلَ عملا ليسَ عليه أمرُنا فهو ردٌّ».
فالبدعةُ التي قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ عنها : «وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ» هي ما كانت على هذه الصفةِ أي ما أحدثت على خلافِ القرءانِ والحديثِ والإجماعِ والأثرِ، أما ما أحدِثَ على وِفاقِ القرءانِ والحديثِ والإجماعِ والأثرِ فليسَ بدعةَ ضلالةٍ، هذا تفسيرُ بدعةِ الضلالةِ الصحيحُ الذي يُؤخذُ بهِ ويُعملُ بهِ، أمَّا ما خالفَ هذا من تفسيرِ البدعةِ فإنه لا يُعوَّلُ عليهِ ولا يُعتمدُ، والدليلُ على أنَّ هذا الحديثَ لفظُه عامٌّ ومعناهُ مخصوصٌ ما رَويناهُ بالإسنادِ المتصلِ إلى صحيحِ مسلمٍ(7) من حديثِ جريرِ بنِ عبدِ اللهِ البَجَلِيِّ رضيَ اللهُ عنهُ أنَّهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ: «مَنْ سَنَّ في الإسلامِ سُنةً حسنةً فلهُ أجرُها وأجرُ من عَمِلَ بها بعدَهُ من غيرِ أن ينقصَ من أجورِهم شىءٌ، ومن سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً سيئةً كان عليه وزرُها ووزرُ من عَمِلَ بها من بعدِه من غيرِ أن ينقصَ من أوزارِهم شىءٌ».
فعلِمنا من هذا الحديثِ أنَّ ما يُحدَثُ مما لم يفعلْهُ الرسولُ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ولم يذكرْهُ نصًّا منهُ حسنٌ ما لم يُخالِفِ الكتابَ أو السنةَ أو الإجماعَ أو الأثرَ، وعلِمنا أيضًا من هذا الحديثِ أنَّ ما كانَ كذلك فهو مقبولٌ عندَ اللهِ وليسَ داخلا تحتَ قولِه صلى اللهُ عليه وسلَّمَ: «كلَّ بدعةٍ ضلالةٌ».
ومن جملةِ بِدَعِ الهُدى وهي كثيرةٌ جمعُ عمرَ بنِ الخطابِ رضيَ اللهُ عنهُ النَّاسَ في رمضانَ على قارئٍ واحدٍ وهو أُبيُّ بنُ كعبٍ رضيَ اللهُ عنهُ بعدَ أن كانوا أَوْزاعًا مُتَفَرِّقِينَ وقالَ عمرُ(8): «نِعمَ البدعةُ هذه»، وفي روايةٍ(9): «نِعمتِ البدعةُ هذهِ».
أيضًا من بِدَعِ الْهُدى زيادةُ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ رضيَ اللهُ عنهُ في التشهدِ : «وحدَهُ لا شريكَ لهُ» وكان يقولُ : «أنا زدتُها»(10) .
أما ما أُحدِثَ بعدَ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ من بِدَعِ الضلالةِ التي هي على خلافِ القرءانِ والحديثِ والإجماعِ والأثرِ فهو المعنيُّ في الحديثِ «وكلُّ بدعةٍ ضلالةٌ وكلُّ ضلالةٍ في النارِ» أي ما كانَ بدعةً محرمةً، فهذه البدعُ لها أشكالٌ وألوانٌ منها ما هو كفرٌ والعياذُ باللهِ من الكفرِ، ومنها ما هو كبيرةٌ مما هو دونَ الكفرِ، ومنها ما هو صغيرةٌ من الصغائرِ.
أمَّا القسمُ الذي هو كفرٌ فمن ذلكَ بدعةُ إنكارِ القدرِ وأولُ من أظهرَها مَعبَدٌ الجُهَنيُّ بالبصرةِ كما في مسلمٍ وأصحابُها يزعُمونُ أنَّ العبدَ يخلقُ أفعالَ نفسِه وأنَّ اللهَ تعالى ليسَ لهُ مشيئةٌ بمعاصِي العبادِ وسائرِ الشرورِ وإنما إرادتُهُ في الحسناتِ فقط، هذِه أحدثَها طائفةٌ ينتسبونَ إلى الإسلامِ وليسوا من الإسلامِ في شىء يقالُ لهم القدريةُ ويقالُ لهم المعتزلة هؤلاء استحدثوا عقيدةً فاسدةً ونسبوها إلى الإسلامِ وهي أنَّ اللهَ تباركَ وتعالى لم يشأْ ما يحدُثُ من عبادِهِ من الشرِّ، إنما العبادُ يفعلونَ ذلكَ بإرادةٍ منهم بدونِ إرادةِ اللهِ، يقولونَ إنهم أي العبادَ يخلقونَ الشرَّ، وأمَّا الحسناتُ من الطاعاتِ فهي عندَهم واقعةٌ بمشيئةِ اللهِ ومشيئةِ العبدِ، وتعدَّوْا ذلكَ إلى أن قالوا إنَّ البهائمَ أيضًا هي تخلقُ حركاتِها وسكناتِها ليسَ ذلك بخلقِ اللهِ، وزادوا أقبحَ من ذلكَ بأنْ قالوا إنَّ اللهَ تعالى كان قادرًا على أنْ يخلقَ هذه الحركاتِ والسكناتِ قبل أن يُعطيَ العبدَ القدرةَ عليها فلما أعطى العبدَ القدرةَ عليها صارَ عاجزًا عن ذلكَ أي بزعمِهم صارَ عاجزًا عن خَلْقِ هذه الحركاتِ والسكناتِ أي كلِّ أعمالِ العبدِ الاختياريةِ، وهذا من أشنعِ الكفرِ؛ لأنَّ فيهِ نسبةَ العجزِ إلى اللهِ، العجزُ مستحيلٌ على اللهِ كما أن الجهلَ مستحيلٌ على اللهِ وكذلكَ كلُّ صفةٍ وحالةٍ تطرَأُ أي تحدُثُ بعد أن لم تكن فهي مستحيلةٌ على اللهِ تعالى، فنسبوا بذلكَ العجزَ للهِ تباركَ وتعالى وهم يدَّعونَ الإسلامَ ولم يستحُوا منَ اللهِ تعالى ولا من المؤمنينَ، والجوابُ أنَّ اللهَ تباركَ وتعالى قادرٌ على كلِّ شىءٍ، قدرتُه لا تتغيرُ ولا تضعُفُ ولا تزدادُ ولا تنقصُ؛ لأنَّ الزيادةَ والنقصانَ من صفاتِ العبدِ، واللهُ تعالى كاملٌ أزلا وأبدًا مُتصفٌ بصفاتٍ كاملةٍ أزلا وأبدًا.
وهذا الأمرُ ثابتٌ عنِ المعتزلةِ وقد ردَّ عليهم أهلُ السنةِ والجماعةِ وبَكَّتُوهُم، نَسَبَ إليهم ذلك وكفَّرَهُمُ الإمامُ أبو منصورٍ الماتريديُّ الملقبُ بعلمِ الهُدى وإليه تُنْسَبُ الماتريديةُ في كتابِهِ المعروفِ «تفسيرُ الأسماءِ والصفاتِ(11)»، وكذلكَ عزاهُ إليهم الإمامُ الجليلُ عبدُ القاهرِ بنُ طاهرٍ أبو منصورٍ البغداديُّ النيسابوريُّ في كتابِهِ «أصولُ الدِّينِ» وقالَ(12): «أصحابُنا أجمعوا على تكفيرِ المعتزلةِ»، ومن جملةِ الرادِّينَ عليهم الإمامُ الجليلُ أبو الحسنِ شيثُ بنُ إبراهيمَ رحمَهُ اللهُ تعالى في كتابهِ «حَزُّ الغلاصمِ في إفحامِ الْمُخاصِمِ» حيثُ يقولُ إنَّ هؤلاءِ جعلوا اللهَ كما يقولُ المثَلُ "أدخلتُه دارِي فأخرجَني منها"، والمعنى أنهم جعلوا اللهَ تعالى كإنسانٍ أدخلَهُ إنسانٌ دارَهُ بإذنِهِ ثمَّ بعدَ أن دخلَ تمكَّنَ هو فأخرجَ صاحبَ الدارِ وثبتَ فصارَ له القدرةُ والمالكُ صارَ عاجزًا عن مدافعةِ هذا الإنسانِ المغتصِبِ الذي كانَ هوَ أدخلَهُ، قالَ الإمامُ الفقيهُ الحافظُ اللُّغويُّ السيدُ محمدٌ مرتضى الزبيديُّ في شرحِ الإحياءِ(13): «لم يَتوقَّفْ علماءُ ما وراءَ النهرِ(14) في تكفيرِ المعتزلةِ».
وبعدَ هذا فلا يتردَّدْ مسلمٌ في تكفيرِ المعتزلةِ القائلينَ بهذا، ولو لم يكن للمعتزلةِ إلا قولُهم بأنَّ العبدَ يخلقُ أفعالَ نفسِهِ لكفى ذلك ضلالا؛ لأنَّ اللهَ تباركَ وتعالى قالَ في القرءانِ الكريمِ ﴿هلْ مِنْ خالقٍ غيرُ اللهِ﴾ (3) [سورة فاطر] فالخلقُ بمعنى الإحداثِ من العدمِ إلى الوجودِ خاصٌّ باللهِ تعالى وليسَ لأحدٍ غيرِه، فالعبادُ بهذا المعنى لا يخْلقُون شيئًا، إنما يُقالُ في حقِّ العبادِ خلقَ فلانٌ كذا بمعنى صَوَّرَ تصويرًا، وخلقَ فلانٌ كذا بمعنى قدَّرَ تقديرًا في نفسِهِ، وذلكَ أنَّ الإنسانَ يُقدِّرُ شيئًا في نفسِهِ قبلَ أنْ يعملَ العملَ فالخياطُ والنجارُ والبناءُ وغيرُ ذلكَ من أصنافِ ذوي الحِرَفِ يُقَدِّرُونَ أوَّلا في أنفسِهم ثم يعملونَ ما قدَّروا في أنفسِهم، بهذا المعنى يُقالُ للعبدِ إنه خلقَ كذا.
ومن بِدَعِ الضلالةِ الكفريةِ عقيدةُ الحلولِ التي يدَّعِيها بعضُ جهلةِ المتصوفةِ الذينَ يدَّعُونَ أنهم خلاصةُ المسلمينَ؛ لأنَّ التصوفَ الحقيقيَّ درجةٌ عاليةٌ، هؤلاءِ ابتدعُوا عقيدةَ الحلولِ باسمِ الإسلامِ والتي هي ليست من الإسلامِ في شىءٍ وهي أنَّ اللهَ تعالى يَحُلُّ في خلقِهِ، وهذهِ البدعةُ الضلالةُ الكفريةُ أولُ من ابتدعَها(15) الحلاجُ الحسينُ بنُ منصورٍ(16) الذي تُوفيَ في أولِ القرنِ الرابعِ الهجريِّ وكانت لهُ طائفةٌ تَتَّبِعُهُ يُقالُ لهم «الحلاجيةُ» ولم يَزَلْ إلى يومِنا هذا من يَعتقدُ هذه العقيدةَ ممن يدَّعونَ التصوفَ، ومنهم طائفةٌ تنتسبُ إلى الطريقةِ الشاذليةِ والشاذليةُ بريئةٌ منهم يُقالُ لهم الشاذليةُ اليَشرُطيةُ ولهم وجودٌ في سوريا ولبنانَ وفلسطينَ فاحذروهم، حتى إنَّ شخصًا منهم جادلني جدالا شديدًا ولم يرجِعْ عن هذه العقيدةِ فقالَ: يدي هذِه اللهُ تعالى داخلٌ فيها، قلتُ لهُ: اللهُ تعالى يُحَرِّكُها من غيرِ أن يدخلَ فيها، قالَ: لا هو داخلٌ فيها لولا أنه داخلٌ فيها ما تحرَّكَتْ، قلتُ لهُ: أليسَ اللهُ قادرًا على كلِّ شىءٍ فقالَ: بلى، قلتُ لهُ: إذن يُحَرِّكُها من غيرِ أن يدخلَ فيها.
أمَّا بِدَعُ الضلالةِ التي لا تصِلُ إلى حدِّ الكفرِ فكثيرةٌ، نسألُ اللهَ تعالى أن يحفظَنا من الفِتنِ والمهالكِ.
واللهُ سبحانَهُ وتعالى أعلمُ وأحكمُ والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
------------------

1- رواهُ أبو داودَ في سننهِ (4607): كتابُ السنةِ : بابٌ في لزومِ السنةِ .
2- رواهُ الترمذيُّ في سننهِ (2676): كتابُ العلمِ : بابُ ما جاءَ في الأخذِ بالسنةِ واجتنابِ البدعِ وقالَ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ ، وأحمدُ في مسندِه (4/126) ، والبيهقيُّ في سننِه (10/114)، وابنُ حبانَ في صحيحِه انظرِ الإحسانَ بترتيبِ صحيحِ ابنِ حبانَ (1/107)، والحاكمُ في المستدركِ (1/23-24) وقالَ: هذا حديثٌ صحيحٌ ليسَ له علةٌ ، ووافقَهُ الذهبيُّ ، والطبرانيُّ في المعظمِ الكبيرِ (18/246 – 247 – 249)، وأبو نُعيمٍ في حليةِ الأولياءِ (5/220) .
3- مختارُ الصحاحِ (ص /68) مادة (بدع).
4- عارضةُ الأحوذيِّ (5/343).
5- مناقبُ الشافعيِّ (1/469).
6- رواهُ مسلمٌ في صحيحهِ (1718): كتابُ الأقضيةِ : بابُ نقضِ الأحكامِ الباطلةِ وردِّ محدثاتِ الأمورِ.
7- رواهُ مسلمٌ في صحيحِه (1017): كتابُ الزكاةِ: بابُ الحثِّ على الصدقةِ ولو بشقِّ تمرةٍ أو كلمةٍ طيبةٍ وأنها حجابٌ من النارِ، وكتابُ العلمِ: بابُ مَنْ سنَّ في الإسلامِ سنةً حسنةً أو سيئةً ومن دعا إلى هدًى أو ضلالةٍ .
8- رواهُ البخاريُّ في صحيحهِ (2010): كتابُ صلاةِ التراويحِ: بابُ فضلِ من قامَ رمضانَ.
9- رواهُ مالكٌ في الموطأِ: كتابُ الصلاةِ: بابُ بدءِ قيام ليالي رمضانَ (1/217) .
10- رواهُ أبو داودَ في سننهِ (971): كتابُ الصلاةِ: بابُ التشهدِ.
11- تفسيرُ الأسماءِ والصفاتِ (ق /191).
12- أصولُ الدينِ (ص /337، 341 ، 342 ، 343).
13- إتحافُ السادةِ المتقينَ (2/135).
14- أي بلادُ ما وراءَ نهرِ جيحونَ.
15- أي باسمِ التصوفِ.
16- قالَ الإمامُ السيدُ أحمدُ الرفاعيُّ رضيَ اللهُ عنهُ في الحلاجِ: «لو كانَ على الحقِّ ما قالَ أنا الحقُّ» انظرِ البرهانَ المؤيدَ (ص /29). وكان عمرو بنُ عثمانَ المكيُّ صوفيُّ مكةَ يُحذّرُ من الحلاجِ، انظرِ الرسالةَ القشيريةَ (ص/151).