المجلس الثاني
من كتاب صحيح مسلم
أسلمتَ على ما أسلفتَ لكَ من الخير

إتحاف الخيرة

إتحاف_الخيرة قالَ شيخُنا رحمَهُ اللهُ: إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستهدِيه ونسترشدُه والصلاةُ والسلامُ الأتمانِ على نبيِّنا محمدٍ وعلى ءالِه الأطهارِ وصحابتهِ الأخيارِ. وبعدُ، فقد روينا بالإسنادِ المتصلِ إلى صحيحِ مسلمٍ من حديثِ حكيمِ بنِ حزامٍ أَنَّه قالَ لرسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ: أرأيتَ أمورًا كنتُ أتَحَنَّثُ بها في الجاهليةِ هل لي فيها من شىءٍ فقال له النبيُّ صلى الله عليه وءالهِ وسلمَ: «أسلمتَ على ما أسلفتَ من خيرٍ»، وفي روايةٍ عند مسلمٍ: «أسلمتَ على ما أسلفتَ لكَ منَ الخيرِ» .
وفي لفظٍ عندَ مسلمٍ: «أي رسولَ اللهِ أرأيتَ أمورًا كنتُ أتحنَّثُ بها في الجاهليةِ من صدقةٍ أو عَتَاقةٍ أو صلةِ رحمٍ أفيها أجرٌ».
وفي لفظٍ عنده زيادةُ: «قلتُ فواللهِ لا أدعُ شيئًا صنعتُه في الجاهليةِ إلا فعلتُ في الإسلامِ مثلَهُ ».
رواهُ مسلمٌ وغيرُه كلُّهم من حديثِ حكيمِ بنِ حزامٍ.
ولفظُه عندَ البخاريِّ في صحيحِه أنه قالَ لرسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ: أرأيتَ أشياءَ كنتُ أتحنثُ بها في الجاهلية من صدقةٍ أو عتاقةٍ وصلةِ رحمٍ فهل فيها من أجرٍ؟ فقالَ النبيُّ صلى اللهُ عليه وءالهِ وسلَّم: «أسلمتَ على ما سلفَ لكَ من خيرٍ» .
ورُوينا بالإسنادِ المتصلِ إلى صحيحِ البخاريِّ ومسلمٍ من طريقِ هشامِ ابنِ عروةَ عن أبيهِ أنَّ حكيمَ بنَ حزامٍ أعتقَ في الجاهليةِ مائةَ رقبةٍ وحملَ على مائةِ بعيرٍ ثم أعتقَ في الإسلامِ مائةَ رقبةٍ وحملَ على مائةِ بعيرٍ ثم أتى النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلم فذكرَ نحوَ حديثِهم.
أما التحنُّثُ فهو التعبدُ كما فسَّرَهُ مسلمٌ في الحديثِ وكما فُسِّرَ في الروايةِ الأخرى بالتَّبرُّرِ وهو فعلُ البرِّ.
قالَ بعضُ العلماءِ في تفسيرِه: إنَّ الأعمالَ التي يفعلُها الكافرُ الأصليُّ التي لا تحتاجُ إلى نيةٍ تُحسبُ له معَ عملِه الذي يعملُه بعدَ الإسلامِ، والمعنى أنَّ بعضَ الناسِ وهم كفارٌ يُكرِمونَ الضيفَ ويُغيثونَ الملهوفينَ ويُحسنونَ إلى الأراملِ هؤلاءِ إن أسلموا يُكتبُ لهم حسناتُهم التي يعملونَها بعدَ إسلامِهم، أمَّا إن لم يُسلِم فمهما كان يرحمُ المساكينَ ويُغيثُ الـمَلهوفينَ ويعطفُ على الأيتامِ فليسَ له شىءٌ، ونحن لا نعتقدُ ذلك بل له تفسيرٌ ءاخرُ وهو أحسنُ وهو أنَّكَ من الأولِ كنتَ متعوّدًا أن تُقرِيَ الضيفَ وتقضيَ حاجاتِ الملهوفِ وتغيثَهُ وتصلَ الرحمَ، والآن أيضًا تفعلُ مثلَ ذلك ويكونُ لك ثوابٌ، وهذا التفسيرُ أحسنُ من الأول؛ لأنَّ صلةَ الرَّحمِ وإغاثةَ الملهوفِ والصدقةَ وغيرَ ذلك من الطاعاتِ كلٌّ يحتاجُ إلى نيةٍ حسنةٍ ليكونَ فيه ثوابٌ، فالاحتياطُ في هذا الحديثِ أن لا يُعتقدَ أنَّ الكافرَ الأصليَّ إذا أسلمَ يُثابُ على صلةِ الرَّحمِ وإغاثةِ الملهوفِ والصدقةِ ونحوِ ذلك مما فعلَهُ في أثناءِ كفرهِ؛ لأنه يُخالفُ قولَ اللهِ تعالى: ﴿ومن يعملْ من الصالحاتِ من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمنٌ فأولئكَ يدخلونَ الجنةَ ولا يُظلمونَ نقيرًا﴾ [سورة النساء] ويخالفُ ما رويناهُ بالإسنادِ المتصلِ إلى صحيحِ مسلمٍ من حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ أن رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم قالَ: «وأما الكافرُ فيُطْعَمُ بحسناتِ ما عَمِلَ بها للهِ في الدُّنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرةِ لم يكن له حسنةٌ يُجزى بها»، وفي لفظٍ عند أحمدَ «فإذا لقيَ اللهَ عزَّ وجلَّ يومَ القيامةِ لم تكن له حسنةٌ يُعطى بها خيرًا».
ومما يدلُّ على ذلكَ ما رواهُ أحمدُ والحاكمُ وغيرُهما واللَّفظُ لأحمد كلُّهم من حديثِ عائشةَ رضيَ اللهُ عنها أنها قالت: يا رسولَ اللهِ إنَّ عبدَ اللهِ بنَ جُدعانَ كان في الجاهليةِ يقري الضيفَ ويفُكُّ العَانيَ ويَصِلُ الرَّحمَ ويُحسنُ الجوارَ فأثنَتْ عليه فهل ينفعُهُ ذلكَ؟ قالَ رسولُ الله صلى اللهُ عليه وسلم: «لا، إنَّه لم يقُلْ يومًا قطُّ اللهم اغفِرْ لي يومَ الدينِ»، ولفظُ الحاكمِ: «لا، إنَّهُ لم يقُلْ يومًا قطُّ ربِّ اغفِرْ لي خطيئتي يومَ الدينِ».
ومعناهُ أنَّ عبدَ اللهِ بنَ جُدعانَ وهو من عشيرةِ أبي بكرٍ الصديقِ رضيَ الله ُعنه كان يَقرِي الضيفَ ويُغيثُ الملهوفينَ ويَصِلُ الرحمَ حتى إنهُ كان يعمَلُ الطعامَ ويضَعُهُ أمامَ بيتِه على جِفانٍ عاليةٍ في الشارعِ حتى يأكلَ منه المسافرونَ من دونِ أن ينـزِلوا، هذا كلُّه لا ينفعُهُ لأنهُ كان يعبدُ الأوثانَ ولا يؤمنُ بالآخرةُ.
هذا عبدُ اللهِ بنُ جُدعانَ في أولِ أمرِه كان فاتكًا شريرًا فتبرَّأَ منهُ أبوهُ وقالَ له أمامَ العشيرةِ أنت لستَ ابني، فكرِهَ الحياةَ وذهبَ إلى بعضِ جبالِ مكةَ يطلبُ الموتَ فوجدَ شَقًّا في جبلٍ فدخلَهُ على ظنِّ أنَّهُ قد تلسعُه حيةٌ فيموتُ فوجدَ ثعبانًا كبيرًا فظنَّهُ ثعبانًا حقيقيًّا وهو في الحقيقةِ ليسَ كذلكَ، بل هو صورةُ ثعبانٍ كبيرٍ كلُّهُ ذهبٌ وعيناهُ جوهرتانِ، ورأى أمامَهُ كومَ ذهبٍ وكومَ فِضةٍ ورأى رجالا طوالا على سُرُرٍ وهُمْ منَ العربِ القدماء، ووجدَ عند رؤوسِهم لوحًا من فضةٍ مكتوبًا فيه تاريخُهم، ومن جملةِ ما فيه أبياتُ شعرٍ منها هذا البيتُ: [الخفيف]
صَاحِ هلْ رَيْتَ أو سمعتَ بِرَاعٍ
           ردَّ في الضَّرعِ ما قرَى في الحِلابِ
وقصَّتُهم أنهم كانوا هاربينَ من ملكٍ قصدَ بلادَهم وكانوا لا يستطيعونَ دفعَهُ فأخذُوا ما أخذُوا منَ المالِ والذهبِ ودخلُوا هذا الشَّقَّ ليعيشوا فيه إلى أن يموتوا أو يأتيَ الفرجُ.
ومعنى كلامِهم الذي وُجِدَ مكتوبًا على اللَّوحِ أننا لا نعودُ إلى الحالةِ التي كنا فيها، كما أنَّ الحليبَ لا يعودُ إلى الضَّرعِ بعدما خرجَ منهُ.
ثم إنَّ عبدَ اللهِ بنَ جُدعانَ ذهبَ إلى قومِهِ وصارَ يُوزِّعُ عليهم من هذا الذهبِ فجعلُوه سيدًا لهم، ثمَّ بعدَ هذا صارَ يتكرمُ على الناسِ ويُعطي أقرباءَهُ ويَعملُ الكثيرَ من أعمالِ الخيرِ والإحسانِ إلى الناسِ، لكن كلُّ هذا لا ينفعُه لأنَّه فعلَهُ ليمدحَهُ الناسُ وهو لا يُؤمنُ بالآخرةِ لذلك قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم بأنه لا ينفعُهُ.
أمَّا المؤمنُ فكلُّ حسنةٍ يعملُها مهما كانت صغيرةً وتكونُ موافقةً للشرعِ معَ نيةِ التقربِ إلى اللهِ أي ليسَ فيها رياءٌ ولا سمعةٌ مهما صَغُرَتْ فهي عندَ اللهِ كبيرةٌ، أمَّا مَنْ لا يُنَزِّهُ اللهَ عن مشابهةِ خلقِهِ فلا ينفعُهُ شىءٌ من أعمالِهِ في الآخرةِ.
واللهُ أعلمُ وأحكمُ والحمدُ للهِ على ما أنعمَ ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ.