القول في العرش والكرسي

كتاب الدرة البهية

dorraBahiyyah قالَ المؤلِّفُ رحِمَه اللهُ: وَالْعَرْشُ وَالكُرْسِيُّ حَقٌّ.
الشرحُ أنه يجبُ الإيمانُ بوجودِ العرشِ والكرسيِّ لأنَّ اللهَ نَصَّ عليهِما في القرءانِ ، والعرشُ هو أعظمُ الأجسامِ منْ حيثُ المِساحةُ وأما الكُرسيُّ فهو تحتَه وهو بمثابةِ ما يَضَعُ راكِبُ السَّريرِ قَدَمَهُ عليه، وهو صغيرٌ جدًّا بالنِّسبةِ للسَّريرِ.

قالَ المؤلِّفُ رحِمَه اللهُ: وَهُوَ مُسْتَغنٍ عَنِ العَرْشِ وَمَا دُونَهُ.
الشرحُ أنَّ اللهَ تعالى مُستغنٍ عنِ العرشِ وما سواهُ فاللهُ تعالى ليسَ محمولاً بالعرشِ لأنَّ اللهَ لا يَمَسُّ ولا يُمَسُّ، يَستحيلُ عليهِ ذلكَ، لما سَبقَ ذِكرُهُ منَ البراهينِ القطعيةِ المـُحكَمَةِ المـُوجِبَةِ للعِلمِ القطعيِّ في إثباتِ تعالِيهِ عنِ الحاجاتِ وعنْ مشابَهَةِ الخلقِ كقولِه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ﴾ (15) [سورة فاطر] فقدْ أثبتَ الفقرَ والحاجةَ لعبادِهِ ونَفَى ذلكَ عن نَفْسِه بقولِه: ﴿وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ﴾.
وقولُ المؤلِّفِ: "وهو مُستغنٍ عنِ العرشِ" ردٌّ على اليهودِ ومجسمةِ هذه الأُمَّةِ حيثُ وَصَفُوهُ بالجِسمِ والاستقرارِ على العرشِ.
وأما قولُه تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى(5)﴾ [سورة طه] فالعرشُ يُذْكَرُ ويُرادُ بهِ السَّريرُ المحفوفُ بالملائكةِ وهو ظاهرٌ في الشريعةِ، ويُذكرُ ويرادُ به المُلكُ كقولِ الشاعرِ: [الطويل]
إذا ما بَنُو مَروانَ ثُلَّتْ عُرُوشُهُمْ
أي ذَهبَ مُلْكُهُم وزالَ. فقولُهُ تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى(5)﴾ ليسَ حُجَّةً لإثباتِ الاستقرارِ للهِ على العرشِ كمَا تقولُ المشبهةُ المجسمةُ بلِ التَّرجيحُ لمعنى الاستيلاءِ لأنَّ اللهَ تباركَ وتعالى تمدَّحَ بقولِهِ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى (5)﴾ ، ولوِ استُعمِلَ هذا اللفظُ على سبيلِ المدحِ في حقِّ مَنْ جازَ عليهِ الاستقرارُ فلا يُحْمَلُ على الاستقرارِ ولا يُفهَم منهُ كقولِ الشاعرِ في بِشْرِ بنِ مَروانَ: [الرجز]
قَدِ اسْتَوى بِشرٌ عَلَى العِرَاقِ ***** مِنْ غَيرِ سَيفٍ ودَمٍ مُهْرَاقِ
فليسَ مَدْحُ بشرِ بنِ مَروانَ في هذا البيتِ مِنْ حيثُ إنه جالسٌ في هذا البلدِ، إنما المدحُ لهُ لأنه استوَى أيْ قَهَرَ وهَيْمَنَ وسَيطرَ على العِراقِ لأنَّ الجُلوسَ في العِراقِ يَشتركُ فيهِ الإنسانُ الشريفُ والقويُّ والإنسانُ الدَّنيءُ والضَّعيفُ، فالمدحُ إنما يكونُ بصفةٍ يمتازُ بها الممدوحُ عمَّا لا يَكادُ يُدانِيهِ ولا يُساوِيهِ ولا يُكافِئُهُ فيه غيرُهُ، فلا بُدَّ أنْ يُفهَمَ منَ الاستواءِ القهرُ والاستيلاءُ إذْ هو أشرفُ معانِي الاستواءِ وهو مِمَّا يَلِيقُ باللهِ تعالى لأنه وَصَفَ نفْسَه بأنَّه قَهَّارٌ فلا يجوزُ أنْ يُترَكَ ما هوَ لائِقٌ باللهِ تعالى إلى ما هو غَيْرُ لائِقٍ باللهِ تعالى وهو الجلوسُ والاتِّصالُ والاستقرارُ.

قالَ المؤلِّفُ رحِمَه اللهُ: مُحِيطٌ بِكُل شَىءٍ.
الشرحُ أنَّ اللهَ محيطٌ بكلِّ شىءٍ بالعِلْمِ والغَلَبَةِ والسُّلطانِ لا كإحاطة الظرف بالمظروف لأن ذلك من خصائص الجسم والله منزه عن ذلك.

قالَ المؤلِّفُ رحِمَه اللهُ: وَفَوقَهُ.
الشرحُ أنَّ كلَّ شىءٍ تحتَ عِلْمِهِ وقدرتِه لقولِه تعالى ﴿وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ (18)﴾ [سورة الأنعام]، وهذا معنى العُلوِّ الذي وصف الله نفسه به بقوله ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (1)﴾ [سورة الأعلى]
وبقولِه ﴿وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ (255)﴾ [سورة البقرة] لأنَّ عُلُوَّ الجِهةِ مُستحيلٌ عليهِ لأنَّهُ مِنْ صفاتِ الخلقِ. وكيفَ يَصِحُّ ذلكَ في حقِّهِ وهو القديمُ المتعالِ عنِ التَّناهِي والحدوثِ.
وأراد بقوله "وَفَوقَهُ" الفوقيةَ من حيث المكانةُ والقهرُ والغلبةُ لا من حيث المكان.
وأمَّا دعوى بعضِ الجهالِ أنَّ اللهَ فَوقَ العرشِ حيثُ لا مكانَ فهذه دعوى بِلا دليلٍ لأنَّ فوقَ العرشِ مكانا بدليلِ قولِه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فيمَا رواهُ البُخاريُّ: "لَمَّا قَضَى اللهُ الخَلْقَ كَتَبَ في كتابٍ فهو عندَه فوقَ العرشِ إنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غضبِي" فلا يَمتنعُ شرعًا ولا عقلاً أنْ يكونَ فوقَ العرشِ مكانٌ وَلَوْلا أنَّ فوقَ العرشِ مكانًا لَمْ يَقُلِ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عنْ ذلكَ الكتابِ: "فهوَ مرفوعٌ فوقَ العرشِ"، والمقصودُ بعندَ هُنا عنديةُ التشريفِ كما في قولِهِ تعالى حكايةً عنْ قولِ ءاسيةَ ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الجَنَّةِ(11)﴾ [سورة التحريم].

قالَ المؤلِّفُ رحِمَه اللهُ: وَقَدْ أَعْجَزَ عَنِ الإِحَاطَةِ خَلقَهُ.
الشرحُ أن الخَلْقَ لا يُحيطُ أحدٌ مِنْهُمْ بكلِّ شىءٍ مِنَ المخلوقاتِ قالَ تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُو(31)﴾ [سورة المدثر] فالملائكةُ لا يَعلمُ عَدَدَهُم إلا اللهُ حتى رؤساءُ الملائكةِ لا يُحيطونَ بعددِ الملائكةِ، فإذا كانَ الملائكةُ لا يُحصيهِمْ عددًا إلا اللهُ فكيفَ بجميعِ الخلقِ.

قالَ المؤلِّفُ رحِمَه اللهُ: وَنَقُولُ إنَّ اللهَ اتَّخَذَ إِبراهِيمَ خَلِيلاً وَكَلَّم الله مُوسى تَكْلِيمًا إيمانًا وتَصدِيقًا وَتَسلِيمًا.
الشرحُ معناهُ نؤمنُ بذلكَ ونُصدِّقُ ونُسَلِّمُ، وليستِ الخُلَّةُ كالوِلادةِ لأن الولادة توجب البعضية والجزئية وهذا محال في حق القديم.
ومعنى قوله "وكَلَّم الله مُوسى تَكْلِيمًا" أي أسمعه كلامَه الأزلي الأبدي الذي ليس حرفًا ولا صوتًا ولا لغة ففهم منه موسى ما شاء الله له أن يفهم فتكليم الله أزلي وموسى وسماعه لكلام الله حادثان.

قالَ المؤلِّفُ رحِمَه اللهُ: وَنُؤمِنُ بالمَلائِكَةِ وَالنَّبيّينَ والكُتُبِ المُنَزَّلَةِ عَلَى المُرسَلِينَ وَنَشهَدُ أَنَّهُم كَانُوا عَلَى الحَقِّ المُبينِ.
الشرحُ أنه يجبُ الإيمانُ بوجودِ الملائكةِ وهُمْ عِبَادٌ للهِ تعالى أجسام نورانية ذوو أرواح ليسوا ذكورًا ولا إناثًا لا يأكلون ولا يشربون ولا ينامون ولا يتزاوجون ولا يتوالدون ولا يختارون إلا الطاعة لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أمَرَهُمْ كَمَا أخبرَ سُبحانَهُ.
وأمَّا الإيمانُ بالنَّبِيِّيْنَ فهوَ أنْ يُؤْمِنَ بأنَّ اللهَ ارتضاهُمْ للنُّبُوَّةِ واصطَفَاهُمْ وأكرمَهُمْ بالسَّفارةِ بَيْنَهُ وبينَ عبادِه بما يُوحَى إلَيهِم.
وأمَّا الإيمانُ بالكتبِ السَّماويةِ فهوَ أنْ يُؤْمِنَ بأنَّها مِنْ عندِ اللهِ تعالى. ويَدلُّ كلامُ المؤلِّفِ على أنَّ الكُتبَ لا تُنْزَلُ إلاَّ على الرَّسولِ ومَنْ كانَ مِنَ الأنبياءِ غيرِ المرسلينَ يَتبعُ كتابًا أُنزِلَ على الرَّسولِ.