في تفسيرالقرءان الكريم الدر المصون في شرح جزء عم يتساءلون
 سورة المسد

سورة المسد

الدر المصون في شرح جزء عم يتساءلون

الدر_المصون سُورَةُ الْمَسَد
سُورَةُ تَبَّتْ وَيُقَالُ سُورَةُ الْمَسَد
مَكِّيَّةٌ بِالإِجْمَاعِ وَهِيَ خَمْسُ ءَايَاتٍ
بسم الله الرحمن الرحيم

تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّنْ مَّسَدٍ (5)




قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1)﴾ قَالَ الْبُخَارِيُّ: «تَبَابٌ: خُسْرَانٌ وَتَتْبِيبٌ: تَدْمِيرٌ»، قَالَ السَّمِينُ فِي عُمْدَةِ الْحُفَّاظِ: «وَمَعْنَى ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1)﴾ أَيْ خَسِرَتْ وَاسْتَمَرَّتْ فِي الْخُسْرَانِ وَالْمُرَادُ جُمْلَتُهُ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْيَدَيْنِ بِالذِّكْرِ لأَنَّهُمَا مَحَلُّ الْمُزَاوَلَةِ قَالَ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ﴾ [سُورَةَ الْحَجّ/10] وَقَدْ قَدَّمَتْ رِجْلاهُ وَلِسَانُهُ». وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾ صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِي يَا بَنِي فِهْرٍ يَا بَنِي عَدِيٍّ - لِبُطُونِ قُرَيْشِ - حَتَّى اجْتَمَعُوا فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ فَقَالَ أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَأَيْتُكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلا بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِقِيّ» قَالُوا: نَعَمْ مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلا صِدْقًا، قَالَ: «فَإِنِي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟! فَنَزَلَتْ ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ(2)﴾». وَأَبُو لَهَبٍ هُوَ عَبْدُ العُزَّى بنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَامْرَأَتُهُ الْعَوْرَاءُ أُمُّ جَمِيلٍ أُخْتُ أَبِي سُفْيَانَ بنِ حَرْبٍ.
وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَصَحَّحَهُ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ أَنَّهُ كَانَ لَهَبُ بنُ أَبِي لَهَبٍ يَسُبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبَكَ» فَخَرَجَ فِي قَافِلَةٍ يُرِيدُ الشَّامَ فَنَزَلَ مَنْزِلا فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ دَعْوَةَ مُحَمَّدٍ، قَالُوا لَهُ: كَلا، فَحَطُّوا أَمْتَاعَهُمْ حَوْلَهُ وَقَعَدُوا يَحْرُسُونَهُ، فَجَاءَ سَبُعٌ فَانْتَزَعَهُ فَذَهَبَ بِهِ. قَالَ الْحَافِظُ: «وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْقُرْءَانِ بِكُنْيَتِهِ دُونَ اسْمِهِ لِكَوْنِهِ بِهَا أَشْهَرُ وَلأَنَّ فِي اسْمِهِ إِضَافَةً إِلَى صَنَمٍ»، ثُمَّ قَالَ: «مَاتَ أَبُو لَهَبٍ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ وَلَمْ يَحْضُرْهَا بَلْ أَرْسَلَ عَنْهُ بَدِيلا فَلَمَّا بَلَغَهُ مَا جَرَى لِقُرَيْشٍ مَاتَ غَمًّا» اهـ.




﴿مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ(2)﴾ أَيْ مَا دَفَعَ عَنْهُ عَذَابَ اللَّهِ مَا جَمَعَ مِنَ الْمَالِ وَلا مَا كَسَبَ مِنَ الْجَاهِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: مِنَ الْوَلَدِ وَوَلَدُ الرَّجُلِ مِنْ كَسْبِهِ.




﴿سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ(3)﴾ أَيْ ذَاتَ تَلَهُّبٍ وَاشْتِعَالٍ.




﴿وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ(4)﴾ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا أُمُّ جَمِيلٍ الْعَوْرَاءُ بِنْتُ حَرْبٍ أُخْتُ أَبِي سُفْيَانَ بنِ حَرْبٍ وَالِدِ مُعَاوِيَةَ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: «وَقَالَ مُجَاهِدٌ ﴿حَمَّالَةَ الْحَطَبِ(4)﴾: تَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ»، قَالَ الْحَافِظُ: «وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بنُ مَنْصُورٍ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ سِيرِينَ قَالَ: «كَانَتِ امْرَأَةُ أَبِي لَهَبٍ تَنُمُّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كانَتْ تَنُمُّ فَتُحَرِّشُ فَتُوقِدُ بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ فَكَنَّى عَنْ ذَلِكَ بِحَمْلِهَا الْحَطَب»، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.




﴿فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّنْ مَّسَدٍ(5)﴾ قَالَ العِزُّ بنُ عَبْدِ السَّلامِ: أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَجِيدُهَا أَيْ فِي عُنُقِهَا ﴿حَبْلٌ مِّنْ مَّسَدٍ(5)﴾ أَيْ سِلْسِلَةٌ مِنْ حَدِيدٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا سُمِّيَتْ مَسَدًا لأَنَّهَا مَمْسُودَةٌ أَيْ مَفْتُولَةٌ.
قاَلَ الْقُرْطُبِيُّ: «وَالْحُكْمُ بِبَقَاءِ أَبِي لَهَبٍ وَامْرَأَتِهِ فِي النَّارِ مَشْرُوطٌ بِبَقَائِهِمَا عَلَى الْكُفْرِ إِلَى الْوَفَاةِ فَلَمَّا مَاتَا عَلَى الْكُفْرِ صَدَقَ الإِخْبَارُ عَنْهُمَا فَفِيهِ مُعْجِزَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».