خطب الجمعة المجموعة الأولى
 القضاءُ والقدر

القضاءُ والقدر

خطب الجمعة المجموعة الأولى

إنَّ الحَمدَ للهِ نَحمدُهُ ونستعينُهُ ونستهديهِ ونشْكرُهُ ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنَا ومن سيئاتِ أعمالنا، مَن يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ ومن يُضلِل فلا هادِيَ لهُ، وأشهدُ أنْ لا إلـهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ ولا مثيلَ لهُ ولا ضدَّ ولا نِدَّ لهُ، وأشهدُ أنَّ سيّدنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائِدَنا وقُرَّةَ أَعْيُنِنَا محمَّدًا عبْدُهُ ورَسولُهُ وصَفِيُّهُ وحَبيبُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وعلى كلّ رسولٍ أرسلَهُ.
أمّا بَعْدُ عبادَ اللهِ أوصي نفسِي وإيّاكم بِتَقْوَى اللهِ العَلِيّ العظيمِ. واعْلَمُوا أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قالَ في مُحْكَمِ التَّنْزيلِ لِحَبيبِهِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ*﴾ [سورة ءال عمران] .
إخوةَ الإيمانِ، يدل قولُه تعالى: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ*﴾ على أنَّ اللهَ تعالى هوَ خالِقُ الخيرِ والشرّ لأنَّ اللهَ هُوَ ءاتى أيْ أعطى الملْكَ للمُلوكِ الكَفَرَةِ كَفِرْعَوْنَ، والملوكِ المؤمنينَ كَذي القَرْنَيْنِ.
ولا يخْفَى عليكُمْ أيُّها الإخوةُ قولُ اللهِ تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ *مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ*﴾ .
ومَوْضوعُنا اليومَ في غايةِ الأهمّيَّةِ وهوَ عن القضاءِ والقَدَرِ.
فمِنَ الناسِ مَنْ إذا سُئِلَ عَنْ إنسانٍ ماتَ على فِراشِهِ كيفَ ماتَ؟ يقولُ قضاءً وقدرًا، وهوَ لا شَكَّ كلامٌ صحيحٌ سليمٌ ولكنْ ليسَ معناهُ أنَّ هذا الإنسانَ إذا ماتَ بِسَبَبِ صَدْمَةِ سيارةٍ ليسَ قضاءً وقدَرًا. إذا ماتَ على فِراشِهِ قَضاءٌ وقَدَرٌ وإذا صُدِمَ بسيارةٍ فماتَ قضاءٌ وقَدَرٌ، وإذا رَماهُ شخصٌ بِسَهْمٍ أو بِرَصاصَةٍ قَضاءٌ وقَدَرٌ. قالَ اللهُ تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ *﴾ . فالقَدَرُ هُوَ جَعْلُ كلّ شىءٍ على ما هُوَ عليهِ. فاللهُ تعالى هُوَ مُصَرّفُ الأشياءِ، هُوَ مُصَرّفُ القلوبِ، ويقولُ تعالى في مُحْكَمِ التَّنْزيلِ: ﴿وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ *﴾ [سورة التوبة] . العرشُ الذي هوَ أعظمُ الخلقِ مَقْهورٌ للهِ فمَا سِواهُ مِن بابِ الأَوْلى. واسمَعُوا مني حديث رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الذي لا شكَّ لهُ تأويل، لهُ تَفسير يَليقُ بِجلالِ اللهِ. فقدْ روى البيهَقيُّ في كِتابِهِ «الاعْتِقادْ» عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم: «ما مِنْ قَلْبِ إلا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أصابعِ الرَّحمنِ إن شاءَ أقامَهُ وإنْ شاءَ أَزاغَهُ» .
قال البيهقيُّ: وقولُهُ بيْنَ إِصبَعيْنِ مِنْ أصابعِ الرَّحمنِ أرادَ بِهِ كَوْنَ القلبِ تحتَ قُدْرَةِ الرحمنِ. وفي الحديثِ دِلالة على أنَّ الله تعالى إن شاءَ هداهُمْ وثَبَّتهُمْ وإن شاءَ أزاغَ قلوبَهُمْ وأَضَلَّهُمْ. وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ معلمًا أمتَهُ: «اللَّهمَّ يا مُقَلبَ القَلوبِ ثبتْ قُلوبَنا على دينكَ» انتهى قولُ البيهقي.
واسْمَعُوا مني هذهِ الآيةَ العظيمةَ التي تَدُلُّ دِلالةً صريحةً على إثباتِ مذهَبِ أَهْلِ الحقّ والتي سَمَّاها عُلماءُ التوحيدِ قاصِمَةَ الظهرِ، قالَ تَعالى: ﴿وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا*﴾ إذا كانَ تَصْريفُ القلوبِ بِيَدِ اللهِ فَكَيْفَ الأَعمالُ الخارجِيَّةُ، هيَ بالأوْلى من خلقِ اللهِ تَعَالى.
ثمَّ نحنُ بِمَ نَبْدَأُ خُطْبَتَنا في كلّ أُسبوعٍ؟ نَبْدَأُ بالمقدّمَةِ الوارِدَةِ عَنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم والتي فيها «مَن يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ ومن يُضلِل فلا هادِيَ لهُ» . فَمَنْ أَرادَ اللهُ لهُ الهدايةَ والإيمانَ والالتزامَ بالطاعةِ فلا أَحَدَ يَحولُ بَيْنَهُ وبينَ ذَلِكَ، ومَنْ أرادَ اللهُ لَهُ الضلالَ والكُفْرَ والمعْصِيَةَ والعِياذُ باللهِ وخُتِمَ لهُ بِذَلِك فَلَنْ يَستطيعَ أحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ أنْ يَهْدِيَهُ إلى سواءِ السبيلِ. فواللهِ لولا اللهُ لما اهْتَدَيْنا ولا تَصَدَّقْنا ولا صَلَّيْنا، الحمدُ للهِ الذي هَدَانا لِهَذا وما كُنَّا لِنَهْتَدي لَولا أنْ هَدَانا اللهُ.
إخوةَ الإيمانِ إنَّ عقيدة الإسلام تنص على أنَّ كلَّ ما يجري في هذا العالَمِ هُوَ بِخَلْقِ اللهِ وعلْمِهِ ومَشيئَتِهِ وتقديرِهِ، فاللهُ تعالى هوَ الذي قَدَّرَ الخيرَ والشرَّ والكُفْرَ والإيمانَ والطاعةَ والمعصيةَ لِحِكمةٍ هوَ أعلَمُ بِها. وهذا مِنْ أُصولِ الإيمانِ فلا يَصحُّ للِْعَبْدِ إيمانٌ إذا لَمْ يُؤْمِنْ بِهَذا. وهذا مأخوذ مِنْ حديثِ جِبْريلَ عليهِ السَّلامُ لمَّا سأَلَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قائِلاً: فَأَخْبِرْني عَنِ الإيمانِ ،فَقَالَ صلى الله عليه وسلم «أنْ تُؤْمِنَ باللهِ وملائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ واليومِ الآخِر وتُؤمِنَ بالقدَرِ خيرِهِ وشَرّهِ» .
فيجِبُ الإيمانُ أنَّ المقدورَ أي المخلوقَ سواء كانَ خيرًا أو شرًا هوَ بِخَلْقِ اللهِ وتَقْدِيرِهِ. فلا يجوزُ الاعتقادُ بأنَّ الخيرَ فَقَطْ هُوَ الذي حصَلَ بِتَقديرِ اللهِ أمَّا الشرُّ فلَيْسَ بِتَقديرِ اللهِ وهذا لا شَكَّ كُفْرٌ وضلالٌ والعِياذُ باللهِ تعالى. وقدْ ورَدَ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم علَّم بعضَ بناتِهِ «ما شاءَ اللهُ كانَ وما لَمْ يَشَأْ لمَْ يَكُنْ» فلا يَحدُثُ في العالمِ شىءٌ إلا بِمَشيئَةِ اللهِ، ولا يُصيبُ العَبْدَ شىءٌ مِنَ الخَيْرِ أوِ الشَّرّ أوِ الصّحَّةِ أوِ المرضِ أوِ الفقْرِ أوِ الغِنَى أوْ غيرِ ذلِكَ إلاّ بِمَشيئَةِ اللهِ.
وقدْ صَدَقَ لَبيدُ بْنُ ربيعَةَ لمَّا قالَ:
إنَّ تَقْوَى ربّنا خَيْرُ نَفَلْ *** وبِإِذْنِ اللهِ رَيْثي وعَجَلْ
أَحْمَدُ اللهَ فَلا نِدَّ لَهُ *** بِيَدَيْهِ الخَيْرُ ما شاءَ فَعَلْ
مَنْ هَداهُ سُبُلَ الخيْر اهْتَدَى *** ناعِمَ البَالِ وَمَنْ شاءَ أَضَلّ

اللهُمَّ اجْعَلْنَا هُداةً مهديينَ وثَبّتْنا على الحقّ يا ربَّ العالمينَ، هذا وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لي ولَكُم.

الخطبةُ الثانيةُ:
إنَّ الحَمدَ لله نحمدُهُ ونستعينهُ ونستهديهِ ونشكرُهُ ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنَا ومن سيئاتِ أعمالنا، مَن يهدِ الله فلا مُضِلَّ لهُ ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلـهَ إلا الله وحدَهُ لا شريكَ لهُ وأنَّ محمّدًا عبدُهُ ورسولُهُ صَلَواتُ الله وسلامُهُ عليهِ وعلى كلّ رسولٍ أَرْسَلَهُ.

أمّا بعدُ عبادَ الله فإنّي أوصيكُمْ ونفسي بِتَقوَى الله العليّ القديرِ واعلَموا أنَّ الله أمرَكُمْ بأمْرٍ عظيمٍ، أمرَكُمْ بالصلاةِ والسلامِ على نبيِهِ الكريمِ فقالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *﴾ اللّهُمَّ صَلّ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا صلّيتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيم، وبارِكْ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا بارَكْتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ إنّكَ حميدٌ مجيدٌ، يقول الله تعالى: ﴿يَا َيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ *يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ *﴾ ، اللّهُمَّ إنَّا دعَوْناكَ فاستجبْ لنا دعاءَنا فاغفرِ اللّهُمَّ لنا ذنوبَنا وإسرافَنا في أمرِنا، اللّهُمَّ اغفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهُمْ والأمواتِ، ربَّنا ءاتِنا في الدنيا حسَنةً وفي الآخِرَةِ حسنةً وقِنا عذابَ النارِ، اللّهُمَّ اجعلْنا هُداةً مُهتدينَ غيرَ ضالّينَ ولا مُضِلينَ، اللّهُمَّ استرْ عَوراتِنا وءامِنْ روعاتِنا واكفِنا مَا أَهمَّنا وَقِنَا شَرَّ ما نتخوَّفُ.
عبادَ الله إنَّ الله يأمرُ بالعَدْلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاءِ والمنكرِ والبَغي، يعظُكُمْ لعلَّكُمْ تذَكَّرون.اذكُروا الله العظيمَ يذكرْكُمْ، واشكُروهُ يزِدْكُمْ، واستغفروه يغفِرْ لكُمْ، واتّقوهُ يجعلْ لكُمْ مِنْ أمرِكُمْ مخرَجًا، وَأَقِمِ الصلاةَ.