#

أمر عباده بالإيمان وهو غير محتاج إلى إيمانهم


إن الله تبارك وتعالى أخبرنا بأنه غنيّ. معنى الغنيّ أنه لا يحتاج إلى شىء. أمر عباده ذوي العقول الملائكة والإنس والجن بالإيمان، أمرهم بالإيمان وهو غير محتاج إلى إيمانهم، أمرهم بالطاعات فرض عليهم واجبات وهو غير محتاج إلى ذلك ولا هو منتفع بذلك.
كل عبادات الملائكة الذين هم أكثر عباد الله، الله تبارك وتعالى لا ينتفع به شيئًا. كذلك معاصي العباد، معاصي الكفار من الإنس والجن، الله تبارك وتعالى نهى عنها، نهاهم عنها وهو لا ينضر بها، لا يلحقه منها ضرر إنما النفع يعود إلى العباد، النفع يعود إلينا. العباد إن أطاعوا ربهم فذلك ينفعهم في الآخرة في الحياة الثانية، الحياة الدائمة التي لا انقطاع لها.
ومن عصاه وخالف أوامره فيعاقب في الآخرة وهو – أي الله تبارك وتعالى – في ذلك حكيم لأن الله تبارك وتعالى منزّه عن السّفه. الله تبارك وتعالى لا يفعل شيئًا إلا لحكمة، ثم هذه الحكمة قد تكون ظاهرة للعباد وقد تكون خافية عليهم.
ثم أيضًا من توحيد الله تبارك وتعالى إفراده بتكوين الحادثات. كل ما دخل في الوجود من الأجسام الصغيرة والأجسام الكبيرة من العرش إلى الذرة، الله تبارك وتعالى أوجده. كذلك الأجسام اللطيفة، النور، والظلام، والروح، والهواء، والجن، والملائكة، الله تعالى أوجدهم بعد أن كانوا معدومين. فالله تبارك وتعالى لا يشبه هذا ولا يشبه هذا. لا يشبه العالم الكثيف الذي هو الإنسان والجمادات والبهائم، لا يشبه هذا، ولا يشبه العالم اللطيف كالجن، والملائكة، والهواء، والنور، والظلام.
كثير من الناس لما يقرأون قوله تعالى أو يسمعون ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ يظنون أن الله تعالى كتلة نورانيّة. ومنهم من يظن أنه تبارك وتعالى جسم مضيء تشع منه الأشعة النورانية. كل هؤلاء ما عرفوه لأن النور مخلوق هو خلقه، بيّن لنا ذلك بقوله ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾.
بعد أن أخبرنا في القرءان الكريم بأنه خلق السموات والأرض أتبع ذلك بذكر خلق الظلمات والنور، ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ أي خلق الظلمات وخلق النور. إذًا النور لا يجوز أن يكون مشابهًا لله إنما هو خلق هو أوجده كما أوجد الظلام.
زيادةً في البيان، تأكيدًا للبيان، الله تبارك وتعالى في هذه الآية قدّم ذكر الظلمات. قال ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ قدّم الظلمات وأخّر النور. في هذا مزيد بيان وإيضاح لكون النور مخلوقًا. فيا ويل من يعتقد أن الله نور أي ضوء!
أما من سمّى الله تعالى نورًا بمعنى المنير أي الذي خلق النور، جعل النور، فهذا لا بأس بذلك، لا بأس به لأن هذا اللفظ كلمة "النور" وردت في تعداد أسماء الله الحسنى الذي رواه الترمذي والبيهقي وابن حبان وغيرهم في تعداد أسماء الله. ورد تسمية الله بالنور لا بمعنى أنه ضوء بل بمعنى أنه منير. ويقال معنى النور إذا أطلق على الله الهادي، لأنه هدى أهل السموات والأرض للإيمان.
والإيمان نور الله، ليس نورًا حسيًّا كنور الشمس والقمر، لا‍، إنما الإيمان نور معنويّ، فالله تبارك وتعالى هدى أهل السموات الملائكة وأهل الأرض المؤمنين من الجن والإنس لهذا النور، بهذا المعنى يقال الله نور. أما تشبيهه بالهواء فهو كفر كما أن تشبيهه بالنور كفر. في بعض البلاد يقولون إذا هبّت العواصف في الشتاء يقولون "قال الله تعالى بفمه الحلو لا تسبوا الهوا لَكُون أنا الهوى".
على زعمهم الله تعالى جسم له فم وهذا كفر وضلال. اعتقاد أن الله له فم كفر لأنه تشبيه له بالخلق بالإنسان بالبهائم والطيور وغير ذلك. وهناك أيضًا كفر ءاخر وهو قولهم "لكون أنا الهوا"، معناه يجوز أن أكون أنا الهواء، والعياذ بالله، والعياذ بالله.
وكذلك لا يجوز أن يُتوهم أن الله تبارك وتعالى يشبه القمر ليلة البدر عندما يرى في الآخرة لأهل الجنة. بعض الناس الذين ما تعلموا التنزيه اعتقدوا أن الله تبارك وتعالى لما يراه أهل الجنة يرونه كأنه القمر ليلة البدر وهذا أيضًا تشبيه له بخلقه فهو كفر.
أيُّ تشبيه لله تبارك وتعالى بشىء من خلقه فهو تكذيب للقرءان فهو كفر. إذا مرّت عليكم ءاية في القرءان ظاهرها يوهم أن الله يشبه بعض الخلق فاعتَقِدوا أن معناه، أن معنى تلك الآية ليس كذلك بل لها معنى غير ذلك هكذا يجب أن يعتقد.
إذا مرت عليكم ءاية ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ لا تعتقدوا أن معنى ﴿اسْتَوَى﴾ جلس لأن لغة العرب واسعة. استوى تأتي في لغة العرب بمعنى الجلوس، وبمعنى التمام، وبمعنى الاعتدال، وبمعنى القصد، وبمعنى القهر، والاستيلاء، والغلبة، في لغة العرب، العرب القدماء الذين كانوا في زمن نزول الوحيّ القرءانيّ على رسول الله صلى الله عليه.
فلا يجوز تفسير اسْتَوَى إذا أضيف إلى الله، إذا أسند إلى الله بمعنى الجلوس والاستقرار إنما يقول الشخص في قلبه له معنى غير الاستقرار وغير الجلوس مما يليق به مما ليس من صفات الأجسام وصفات الخلق.
ويجوز أن يقول استوى أي قهر لأن القهر من صفات الكمال لله تعالى. هو وصف نفسه بأنه قاهر، وصف نفسه بالقهر. فمن فسّر استوى بالقهر وافق اللغة ووافق القرءان، لا بأس بذلك.
أما أن يفسره بالجلوس والاستقرار فهذا إلحاد لأنه شبهه بخلقه، كيف يوصف الله تبارك وتعالى الذي وصف نفسه بأنه غنيّ أي لا يحتاج إلى شىء، أي لا يحتاج إلى شىء بأنه جالس على العرش الذي هو خلق خلقه هو وهو الذي يحفظه؟!
هو يحفظ الملائكة الذين يحملون هذا العرش. هو حافظ كل ذلك. وهذه أرضنا، من حافظها؟ الله تعالى حافظها. وهذه السماء التي فوقنا من حافظها عن أن تقع؟ الله حافظها من غير عَمَدٍ. مهما تجوّل الإنسان في هذه الأرض لا يرى عمدًا يحمل هذه السماء التي تلينا. بقدرته تبارك وتعالى أمسكها عن أن تزول عن مركزها، عن أن تتزحزح عن مركزها. بقدرته حفظها ومنعها ليس بالإمساك، الإمساك لا يجوز على الله.
الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين رضي الله عنهما قال في رسالته الصحيفة السجّادية في حق الله تعالى "لا يَمَسُّ ولا يُمَسّ" "لا يَمَسُّ ولا يُمَسّ" لأن الشىء الذي يَمَسُّ يكون له حدّ والمحدود مخلوق لأنه يحتاج إلى من حده.
خذوا هذه المسألة وهي أنّ من دلائل أن الله تبارك وتعالى لا يجوز عليه أن يكون حيّز يتحيز فيه، أنّ هذه الشمس التي نفعها محسوس ومنظرها حلو تنفع الأبدان، أبدان البشر، وتنفع النبات، وتنفع الماء، وتنفع الشجر، وتنفع الهواء. الشمس تطيب الهواء. هذه الشمس لا يجوز أن تعبد، لا يجوز أن يُعتقد أنها هي إله العالم، أنها هي كوّنت العالم، لماذا؟ لماذا لا يجوز؟
مهما كثر نفعها لا يجوز أن تعبد، لا يجوز أن تُتخذ إلهًا كما اتخذها عبّادها الذين عبدوها. فإذا قال أحدهم، أحد عبدة الشمس للمسلم أنا أعبد الشمس وهي تستحق أن تعبد لأن نفعها عظيم تنفع أرضنا، تنفع أبداننا، تنفع النبات، تنفع الشجر، تنفع الماء، لو لم يكن فيها نفع سوى ضوئها الذي نتمكن به من التجول في الأرض لأمور معيشتنا لكان ذلك كافيًا. ماذا يقول له المسلم؟
إن قال له قال الله تعالى، يقول أنا لا أؤمن بكتابك، أعطني دليلًا عقليًا يثبت أنه لا يصح عبادة الشمس التي هي معبودي، أعطني دليلاً عقليًا. ماذا يقول له؟ إن قال له الله تبارك وتعالى الذي يستحق أن يعبد موجود لا كالموجودات ليس له حدّ، ليس محدودًا، الشمس محدودة لها مساحة ولها شكل تحتاج إلى من جعلها على هذا الحدّ وعلى هذا الشكل.
أما الله تبارك وتعالى الذي نحن المسلمون نعبده موجود غير محدود، غير ذي شكل، غير ذي هيئة، غير متحيز في جهة من الجهات أو في جميع الجهات. هذا الذي يستحق أن يعبد ليس الشمس التي أنت تعبدها التي هي محدودة لها مساحة وهي محتاجة إلى من خلقها على هذا الحد. أقام عليه الحجة وغلبه، ليس له حجة دافعة هذا الكافر الذي يعبد الشمس ويعتقدها إلهًا له، ليس معه حجة. هذا المسلم الموَحِّد المنزه كسره.
أما الذين يعتقدون أن الله جسم قاعد على العرش فهؤلاء لا يستطيعون أن يكسروا هذا عابد القمر بدليل عقلي، لا يستطيعون، لأنه يقول له أنت تعبد جسمًا تصورته لم تره، تقول إنه قاعد على العرش وهذا العرش ما رأيته أنت، أنت تعبد شيئًا توهمته له مكان، له حيز، تعتقد أن له حيزًا، وله حدٌّ ومساحةٌ، كيف تقول أنا على الحق وأنت على الباطل؟‍! فليس عنده جواب.
هذا الذي يدعي الإسلام ويعتقد أن الله الذي خلق العالم بأسره شىء قاعد على العرش له مساحة بقدر العرش لا أصغر ولا أكبر أو أوسع من العرش على كلتا الحالتين لا يجد دليلًا عقليًا يكسر به هذا الكافر.
ثم إن قال قائل بأن الله تعالى هو وصف نفسه بأنه متحيّز في الجهة العليا فقولوا له الرسول عليه السلام كان يرفع يديه، يجعل بطون كفيه إلى السماء عند الدعاء. وكان أيضًا عندما يستسقي أي يطلب المطر من الله تعالى يجعل ظهور كفيه، يشير بظهور كفيه إلى السماء. وهذا دليل على أن الله غير متحيّز في الجهة الفوقانية ولا في الجهة التحتانية، موجود بلا مكان هكذا.
هذا الحديث في مسلم. مسلم روى عن أنس بن مالك رحمه الله تعالى ورضي عنه لما استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم أشار بظهور كفيه إلى السماء. فعل هكذا عندما يدعو الله بطلب المطر، يعمل هكذا. هذا دليل على أنه ليس متحيزًا في السماء في هذه الجهة العليا، وهذا أيضًا ليس دليلاً على أنه كان متحيزًا تلك الساعة في الجهة التحتانية.
ثم أيضًا ثبت عن رسول الله أنه كان يفعل في التشهد عندما يرفع إصبعه هذه المسبحة يحنيها لا يجعلها هكذا، بل يحنيها هكذا، وهذا أيضًا دليل على أن الله تبارك وتعالى ليس متحيزًا في هذه الجهة بل هو موجود من دون أن يكون متحيزًا في جهة من الجهات أو في جميع الجهات.
إنما هو موجود بلا جهة ولا مكان كما كان قبل أن تخلق الجهات الست وقبل أن تخلق الأمكنة، موجود من غير أن يكون متحيزًا في مكان واحد، أو جهة واحدة، أو في جميع الأمكنة وجميع الجهات، هو موجود كما كان قبل الجهات الست وقبل الأماكن كلها.
وسبحان الله والحمد لله رب العالمين

Tags: فيديوهات مختلفة , من مرئيات الشيخ الهرري رحمه الله